الصفحات

2013/06/30

الشعلان: الروتين يشوّه المساحة النفسية عند المبدع

صورةالشعلان: الروتين يشوّه المساحة النفسية عند المبدع

حاورها: محمد جميل خضر 
- منذ أيامها الجامعية منهمكة بالحصول على الدرجة الجامعية العليا، لم تضيّع الأديبة والأكاديمية د. سناء الشعلان وقتها، وانطلقت الحاصلة خلال مسيرتها الإبداعية القصيرة (نسبياً) على 43 جائزة محلية وعربية ودولية و13 استحقاقاً ودرعاً تكريمياً وشهادة تقديرية، مبكراً وسريعاً وبشكل حاسم لا هوادة فيه، نحو عالم الكتابة قصصاً وروايات ودراسات وبحوثا ورؤى نقدية.
حول تجاور الإبداع لديها مع الأكاديميا، وطرق الكتابة عندها، وموضوعات تلك الكتابة، وحول قصة جوائزها، وما وراء حصولها على هذا العدد الكبير منها، ومسائل أخرى كان ل»الرأي» مع الأديبة د. سناء الشعلان هذا الحوار.

عندما تتجاور الكتابة الإبداعية مع المشاغل الأكاديمية، فكثيراً ما يجري الحديث في تلك الحالات عن التداخل بينهما أو تأثير جانب منهما على الآخر. فكيف توائمين بين هذين البعدين الأساسيين في مسيرتك؟
العمل الأكاديمي لا يسرق الزّمن من المبدع كما يبدو في الظّاهر، ولكنّه يشوّه المساحة النفسيّة للمبدع بأثقال الرّوتين وأعباء البيروقراطيّة وبؤس العمل الإداري، ومساعي الإداريين غير المبدعين بأيّ شكل لتحويل المشهد الإبداعي إلى وظيفة مكرّسة تديرها المؤسسة التي ينتمي المبدع إليها، أو لتحويل المبدع إلى ساحة غنائم يتقاسمها العمل المؤسسي، ويعلو به نحو بعض بقع الشّهرة. على المبدع هنا أن يحوّل هذا المشهد إلى خزّان قصصي وتفاعلي يشكّل رافداً لمخيال المبدع. أنا شخصيّاً تعلّمت أن أقتنص من المشهد الأكاديمي كثيراً من شخصياتي الإبداعيّة؛ فالمشهد الأكاديمي يقدّم لي مساحة مجتمعيّة كاملة بحكم أنّ المجتمع الجامعي هو بيئة مجتمعيّة كاملة بمختلف تجلياتها، وقد تعلّمت من البيئة الأكاديميّة أنّ الشّهادات كثيراً ما تعجز عن أن تهب الأخلاق، وهذه النّماذج ألهمتني تصوير زيف المجتمع ورصد تهافته في بعض قصصي ورواياتي. وروايتي المقبلة ستستثمر الكثير من الشخصيات الأكاديميّة الزّائفة في قالب كوميدي، وكما يقال»سأضحّك طوب الأرض على تهافت المتعالمين».

تكتبين بغزارة، وتنوعين مع هذا الكمّ الزاخر؛ فمرة القصة، وأخرى الرّواية، وثالثة النّقد. ما هي أدوات كتابتك على وجه العموم؟ وما هي طقوس الكتابة الإبداعيّة لديك؟
العبرة في رأيي الخاص ليست في الكّم أو النّوع، بل في الجودة والمنافسة والتميّز، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نحاكم الحالة الإبداعيّة عند أيّ مبدع بعيداً عن لعبة السّنوات والأعداد. أنا راضية عن مسيرتي الإبداعيّة، لاسيما أنّني فيها متصالحة مع نفسي ومع أفكاري ومشاعري وقناعاتي، وفي الوقت نفسه مستسلمة لدفقاتي الشّعوريّة، ومنساقة للحالة التشكيليّة لإبداعي، ولذلك لا يهمّني جنس إبداعي، بقدر ما يعنيني أن يخرج بالشّكل الذي يعبّر عني، وتقودني حالتي إليه. عندما أكتب نقداً أكون مخلصة لذات التشكيل ودراسته وفق منظومة أكاديميّة واضحة الحدود، وعندما أكتب سرداً أكان قصة أم رواية فأنا ألهث خلف حالة الحكي التي قد تمتدّ مساحة أو تقصر وفق حجم الرؤية، وعندما أهرب إلى المسرح أو إلى أدب الأطفال فيكون الطّفل في داخلي مستيقظاً يريد أن يستمتع بفن الفرجة ببوح عملاق دون أن تخنقه تابوات الزّجر.
ولأنّني أعيش حالة الكتابة بكلّ إخلاص وأريحيّة وصدق فإنّ أهمّ طقس من طقوس كتابتي أن لا يكون في جوّ الكتابة عندي أيّ روح أعتقد أنّها قبيحة، ولذلك لا يمكن أن أكتب في جو مشحون بأيّ شكل من الأشكال بالكره أو القبح. وإن كان الجوّ النفسي حولي جميلاً رائقاً فيعنيني أن أكتب في مساحة نور لا ظلام، وبقلم أزرق على ورق أزرق بعد أن أضع قطرات وافرة من عطري المفضّل الذي أصبح علامة فارقة بالنّسبة لي، والذي لا أتخيل الكتابة دون أريجه.

لا شكّ أنّ كم الجوائز الهائل التي حصلت عليها خلال مدّة زمنيّة قصيرة نسبياً، أثار وربما ما يزال يثير ردود فعل متباينة، وربما أيضاً تعليقات وتشكيكاً في واقع الحال حولها وفي مراميها. أنتِ على وجه التحديد كيف تفسرينها؟
النّجاح تحيط به دائماً الظّنون والأحقاد والحساد، ولذلك أقيس نجاحي بعدد حسّادي، وإن كنتُ لا أتوقّف عندهم أكثر من توقّفي عند مريض أدعو له بالشّفاء من داء حسده، ولست معنيّة بالتّصويغ والتّبرير، فالنّجاح هو حالة مبرّرة بحدّ ذاتها، عندي مشروعي الإبداعي والأكاديمي الخاص الذي أسير فيه قدماً بخطى راسخة، أما من كان فاشلاً فلست بالتّأكيد المسؤولة عن فشله، والطّريف في الأمر أنّني اكتشفت أنّ الكثير ممّن تغيظهم جوائزي كانوا بالفعل قد قدّموا إليها أكثر من مرّة، ولم يحظوا بها لتدنّي منتجهم، فآل بهم الأمر إلى الحسد والتشكيك، ولو نالوا واحدة من هذه الجوائز لكفّوا عن أحقادهم، كما يقول المثل: «الذي لا يطول العنب يقول إنّه حصرم».

تشغلك قضايا الكتابة بقدر ما يشغلك التشكيل والتّجريب. فهل يمكن القول إنّ المنافسة في المشهد الإبداعي تقود نحو الاهتمام بالتشكيل والتجريب بقدر الاهتمام بالفكرة والقضّية؟
لا أعتقد أبداً أنّ الشّكل قضية تنفصل عن المضمون والفكرة، وكثيراً ما يكون الشّكل هو المضمون كما يقول رولان بارت. ولذلك ليس هناك فكرة عظيمة تقدّم في رداء قبيح، وليس هناك حكمة في قالب لغوي ركيك. الشّكل هو هدف بحد ذاته في الإبداع اللغوي أيّاً كان شكله، ولذلك أنا مولعة بالتّجريب، وبهدم الشّكل التّقليدي، وتقديم تكوين جسدي جديد للغة في قالب حكائي يمتدّ نحو الدّهشة والبوح والصّدق والحلم، وأعتقد أنّني أجدت لعبة التجّريب.

بين الإبداع وتسويقه علاقة عضوية، فهل يمكن النّظر لسناء الشعلان بصفتها ممن يتقنون تسويق إبداعهم؟
 الإبداع ليس أداة لجمع الأرباح الماديّة، وإن كنت تسأل عن التسويق بمعنى الرّبح المادي، فأنا فاشلة به بامتياز، فالإبداع لم يدخل عليّ قرشاً واحداً حتى هذه اللحظة، بل هو سبب لغرم كبير لا ينتهي في حياتي، ولكن إن كان التسويق الذي تسأل عنه بمعنى حسن تقديم الذّات والحالة الإبداعيّة وجميل التّواصل مع البشر، فأنا أجيد تسويق نفسي بهذا المعنى، وكيف لا؟ وأنا أدرّس مهارات التّواصل والأدب في الجامعة، وأحترف تعليم فنون الأدب والنقد، فكيف أكون أستاذة جامعيّة لمهارات لا أتقنها؟ أنا بالتأكيد أؤمن بتقنيات الجمال والتّواصل، وأمارسهما وأؤمن أنّ المبدع ليس قلماً وحسب.

إلى أين تمضي بك الكتابة؟
أؤمن أنّ القادم هو الأجمل، وأعلم أنّ العمل الأعظم في حياتي لم أكتبه بعد. والكتابة في رأيي ليست أداة تكفير وخلاص، بل هي أداة بناء ومساحة لشمس طاهرة آن لها أن تشرق على البشريّة . 
 http://m.alrai.com/article/593698.html

الوطن المعذب شعر : ياسر الششتاوي



الوطن المعذب
شعر : ياسر الششتاوي

من ثورةٍ جئنا
إلى ظل الفضاء العذب
والتفجر الثمينْ
قلنا : سنبني وطناً
لا ينحني
ولا يهونْ
قلنا : سنحيا
في ذرا الكرامة البيضاء
نروي روعة السنينْ
قلنا : شذى العدل
سيبقى شطنا
ولن تضلّ
في مدانا
قدم السفينْ
قلنا
وكم قلنا
حلمنا
كم حلمنا
أعين الميدان
كانت تحضن المشهد
من فرحتها
قد برقتْ بدمعةٍ
كجوهر ٍ مكنونْ
ما أجدر الإنسان
في أن يملك الفعل
ولا يبقى
على الكلام يستعينْ
وحينما
قد رحل الظلام
في ثيابه الملعونْ
طرنا
من الفرحة
والمستقبل الأخضر
قد لاح لنا
أعذب ما يكونْ
لكننا
رحنا لأحضان الصراعات
وتهنا
بعالم السياسة الخؤونْ
كل فريق ٍ
يبتغي عزته
على حساب الآخر الذي يراه
لا يرى
ولا يحسن في ولائه
للوطن الأمينْ
فاضت إشاعات ٌ
على الساحة
كالحية
من فحيحها
تسمم الوعي
فذقنا
ما يصبه التشرذم المبينْ
كلٌّ يظن نفسه
هو الصواب
والصواب من فعالنا طعينْ
شعبٌ يكابد المتاهات
على ترابه
نجوم تحريض ٍ
تحابي مسلك البلاء
من الشمال واليمينْ
ها نحن غرقى
يتبادل الجميع
لاتهاماتٍ
تمزق النواحي
والكثير يشعل النار
ولا يعى
بأن النار
سوف تحرق الكل
وما من أحدٍ
لذاته يدينْ
صرنا فريقين
من الحمقى
وفي الإقصاء للغير
طعام الحقد
والسقوط واقفٌ
ليسخو بالخراب
من منابع الأنينْ
صرنا
سلالة احترابٍ
أحمق الجدوى
وفي الدماء موعدٌ
لكي نرى بكاء الوطن الحزينْ
فأين نمضي ؟
كيف نمضي ؟
والهراء يمتطي ظهورنا
ونحن في غبائنا
نطلب منه
ثمن الجنونْ
ولن ننال
غير لوعةٍ
على تهشم المأمول
والذي قصدنا قطفه
من ثورة ٍ
قد أصبح العكس
خسرنا
ما حلمناه
فيفرح الفلوليّ
ويهدي لعنة الثورة
للذين آمنوا
بوحيها الضليع
في اجتثاث الفاسدينْ
فإننا
أبناء هذا الوطن الصارخ
في وجوهنا
حتى انجلاءات اليقينْ
أنحن
أبناء حرام ٍ
يا مصابيح
وهذا الوطن المعذب الوجهة
لا يصافح الزنا
ولا يخونْ ؟؟!!





فانتازيا الحكي وتداخل الخطاب في رواية "أعشقني" للروائيّة سناء الشعلان بقلم :أ.د.عبد العاطي كيوان



 فانتازيا الحكي وتداخل الخطاب في رواية "أعشقني" للروائيّة سناء الشعلان
   بقلم :أ.د.عبد العاطي كيوان/
أستاذ الأدب الحديث/كلية الآداب/جامعة الفيوم

       " وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق،أنا لستُ ضدّ أبعاد الطّول والعرض والارتفاع والزّمان،ولستُ معنية بتفكيك نظرية إينشتاين التي يدركها ،ويفهمها  جيداً حتى أكثر الطلبة تواضعاً في الذّكاء والاجتهاد في أيّ مدرسة من مدارس هذا الكوكب الصّغير،ولكنّني أعلم علم اليقين والمؤمنين والعالمين والعارفين والدّارين  وورثة المتصوّفة والعشّاق المنقرضين منذ آلاف السّنين أنّ الحبّ هو البُعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا،وحده الحبّ هو الكفيل بإحياء هذا الموات،وبعث الجمال في هذا الخراب الإلكترونيّ البشع،وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب،وفلسفة انعتاق لحظة،أنا كافرة بكلّ الأبعاد خلا هذا البعد الخامس الجميل،أنا نبيّة هذا العصر الإلكترونيّ المقيت،فهل من مؤمنين ؟ لأكون وخالد وجنينا القادم المؤمنين الشّجعان في هذا البُعد الجميل. خالد أنا أحبّكَ،وأحبّ جنينا كما ينبغي لنبيّة عاشقة أن تحبّ..." (1)
  بهذا تصدر سناء الشعلان(2)روايتها.كفرت الكاتبة بكلّ الأبعاد الكونيّة والوجوديّة خلاه وحده،فأقامت له مملكة خاصة،تلك مملكتها وحدها،مملكة من صنع  خيال محض،أقامت صولجانها في عالمها المفترض،ومع ذلك تنزل بتلك المملكة من علياء إلى أرض فيها سماء،فإذا هي في مملكة النّاس والواقع والبشر،هي حقيقة في خيال،أو خيال في حقيقة،عاشته بطلة الرّواية،وكشفت عنه جليّاً في خطابها،وإن غُلّف بنوع من كشف،وبعض بوح،لم تحاول تجميله،أو القفز عليه،حتى لو حُمّل بلحظات من خصوصيّة عشق محموم.
   وإذا كانت رواية سناء الشعلان قد جمعت بين الأشتات عبر عوالمها المتناقضة،والمتداخلة،والغامضة،والمكشوفة،فها هي ذا تحيل قارئها إلى مثيل آخر،برز في تداخل أجناسها المقروءة،فدفعت بمتلقّي أدبها إلى شيء من(أدب السّيرة)،و(أدب الرّسائل)،و(المقال)،و(الخيال العلمي)،تارة تلقي بأوراقها المضمّخة بأريج خصوصيّة لحظاتها النّادرة عبر(أدب الاعتراف)،ومرة تحلّق في سماواتها الملتبسة ألوانها تحاول الاختفاء،تداخل ظاهر،تهادى على صفحات الكتابة عند سناء الشعلان،أومأ في- الآن نفسه- إلى "حرفيّة" صنعة،ومراس تجربة عبر"فعل الكتابة".
   ففي البعد الأوّل"(الطّول)(3) تبدأ الكاتبة سرد الأحداث،في نوع من خلط(فانتازي) متداخل بين الواقع واللاواقع،نسجته من بنات أفكارها،مترامياً في أسلوب أجادته باقتدار ودربة وفنّ،إذ تدور أحداث الفصل/البعد حول مشهد في غرفة عمليات واحدة من الكوكب،قد يكون كوكب الأرض،وربما هو كوكب ليس من عالمنا،استرفدت شيئاً من داخله،وشرعت تروي أحداثاً فيه،وتكشف عن واقع مختلّ في داخله،هو واقع تفصّل فيه الأشياء على مقاس أصحابها هم،وحدهم دون سواهم،لايبالون شيئاً بالآخرين،ولا يعنيهم أن يشغلوا أنفسهم بهم؛لأنّهم لايساوون شيئاً في عالمهم،بينما هم يأخذون كلّ شيء،وأيّ شيء يعدّ رخيصاً من أجلهم،في حين يموت هؤلاء،وتنقل أعضاؤهم هبة وجائزة.
  ومع ذلك يحيل المشهد إلى الانصهار والتّجسّد بين جسد وجسد،أو جسد في جسد،بوصفه(معادلاً موضوعيّاً) بين نفسين،صار نفساً واجدة لا تقبل التّجزّؤ،كونها رمزاً أو قناعاً،أو رداء يخفي شيئاً في داخله.
 هنالك تستحضر الكاتبة صورة بطلة الرّواية،في نوع من(استرجاع) إلى الوراء،تكشف فيه عن صاحبة الجسد:" يا لها من أقدار عابثة حدّ المجون والعهر!هاهي تلك العنيدة القادمة من غياهب الزّنزانات الانفراديّة في معتقلاتنا السّياسيّة في أقاصي كواكب المجرّة تترجلّ عن صهوة كبريائها ورفضها وصمودها بعد طول عناد،وتلفظ أنفاسها الأخيرة على أيدي جلاديها دون أن تتراجع عن أيّ موقف سياسيّ،أوعن رأيّ لها معارض لسياسة حكومة دربّ التبّانة.      يقولون إنّها زعيمة وطنيّة مرموقة في حزب الحياة الممنوع والمعارض، وكاتبة مشهورة،وأشياء أخرى ماعاد ذهني المشوّش بفوضى الألم يتذكّرها في هذه اللّحظة،أنا لا أعرف الكثير عن آرائها ومواقفها،لا شكّ في أنّ حروبي الطّويلة مع المعارضين والمنشقّين عبر المجرّة قد سرقتني حتى من معرفة هذه المرأة التي يقال إنّها مشهورة بلقب النّبيّة"(4)
  عندئذٍ تحيل دوالها المقروءة والمرئيّة إلى واقع لم يبرح كوكب الأرض،نراه في خروج عن مألوف لا ترضاه السّلطة،أو التّقاليد الحاكمة التي تحكم قبضتها على المناوئين لها في هذا الكوكب.
   وفي بعدها الثاني:الزّمن(5) يُفصح المشهد عن شيء آخر،نراه في (تحوّل)فانتازي لرجل-عبر مزج- إلى أنثى،في استبدال جسد بجسد،واستشراف لزمن قادم جديد،كشفت عن الكاتبة،وأرخت له في بداية الألفيّة الرّابعة،القادمة من أغوار الزّمن البعيد القادم،تلك سنة (3010)ميلاديّة،وإن كنّا لا نعرف لماذا كان هذا التّاريخ  دون غيره،وإلم يرمز؟!." هذا الجسد الأنثويّ اللّعين يتذكّره تماماً،وهذه النّدوب المحفورة فيه تعيده إلى تفاصيل موت صاحبته... ما هذا؟ هل هو مرض؟ أنا أكره هذا الجسد،أريد أن أخرج منه،أريد جسدي،لا أريد غير جسدي.أعيدوا لي جسدي،اخرجوني من هذا الجّسد اللّعين،اخرجوني منه،أنا أكرهه،وأكرهها،وأكرهكم،أخرجوني منه....ـه...ـه...(6)
   وإذا كنّا هنا قد ألمحنا إلى شيء من توحّد وتآلف،ظهرا في تقارب واستشراف الآخر،إلاّ أنّنا نرى ثمّة نفوراً وقطيعة،لا أقول بين نفس ونفس،وإنّما بين جسد وجسد،وإن لم يتوافق هذا مع مضمون الرّواية.
   ومع ذلك يختلف هذا – على نحو ما- في الفصل الثالث،أو البعد الثالث:(الارتفاع)،إذ يكشف عن قرب "مسافة إلى النّفس"،وإن كان ذلك "نحو الألم".(7)
 ثمّة أسئلة تطرح نفسها عبر دلالات العناوين،عنوان الرّواية،وعناوين الفصول،ولماذا هي دون سواها،ومع هذا،فتلك تنحاز إلى الجسد،دونها دلالة ورمزاً عليه.
 ثمّة أسئلة تطرح نفسها عبر دلالات العناوين،عنوان الرّواية،وعنوان الفصول،ولماذا هي دون سواها،ومع هذا،فتلك تنحاز إلى الجسد،كونها دلالة ورمزاً عليه.
    ومهما يكن من أمر،فإنّ (باسل المهري) يفاجئ أنّه في جسد غير جسده،ولك يكن هذا وحسب،وإنّما جسد امرأة،هنالك يأخذ التّعجّب والاستغراب وضعاً في نفسه،إذ يشرع يستهجن هذا التّحوّل الغريب،ويعلن عنه في جلاء.
  فإذا كان البعد الرّابع،(العرض) وإن كشف عن مساحة من الحزن كبيرة،بوصف(العرض) لا تتجاوز مساحة الكون فيه عرض أحزان الكاتبة(8)،يدخل الصّراع مرحلة أعلى،في ازدراء لجسد المرأة التي صارت هو،أو هو صار هي،عندئذٍ تتوالى المشاهد والأحداث،في زمن متخيّل وشخوص فيه،وإن أفصح ذلك عن نظرة متدنيّة إلى المرأة،بوصفها جسداً مستبدلاً بآخر كان ذكوريّاً،وإن جاء هذا في إيماءة إلى(النّوع)،وإن رأينا رؤية مغايرة تنحاز إلة "الجندر"(9)
    وتتنامى الأحداث في البعد الخامس الذي بنت عليه الكاتبة روايتها،بوصفه الأساس لبنيتها السّرديّة:" الحبّ وحده من تتغيّر به حقائق الأشياء وقوانين الطّبيعة"(10)
  وربما هذا ماجعلها-وعبر الحبّ- تخرج عن المألوف والشّائع إلى شيء من "غرائبيّة" أحداثها،وإن لم تبرح عالم العاشقين في كوكبهم الأرضي،حتى لو (همّشت)تلك العوالم في سبيل تأكيد فكرتها،وما في خلدها من (نورانيّة) الهائمين في دنيا البشر."      تناولتُ عشائي الذي كان في انتظاري على عجل،أخذتُ حماماً بارداً في جوّ باتَ يحتاج إلى حمام دافىء،لبستُ ملابسي اللّيليّة بعد أن علّقتُ بنطالي وقميصي ومعطفي على المشجب الأبيض القصير،فلا أزالُ ألبس ملابس الرّجال،وأنا بجسم امرأة إكراماً للماضي،ونكاية بالحاضر،وتماشياً مع وقعي النّفسي الدّاخلي،ومحاكاة لعاداتي الطّبيعيّة،فأبدو للرّائي لي على عجل أو من بعيد، في كثير من الأحيان ،صبيّاً لم تغادره ملامح الطّفولة يحاول أن يدسّ نفسه في صفوف البالغين،أو رجلاً نحيلاً متصابياًّ،أو امرأة مسترجلة في أسوأ التّخمينات،وإنْ كنتُ  أساساً لا أملك موقفاً معادياً أو متحفّظاً من قضية التخنيث،أو الجنس الثالث،وهم منتشرون بكثرة في المجرّة،و حاصلون على كامل حقوقهم المدنيّة والإنسانيّة والاعتباريّة؛فهم يمثلون تطوّراً جندريّاً معلّلاً ومقبولاً،مادام لا يتعارض مع المصالح الكبرى لحكومة المجرّة،ولا يمسّ خطوطها الحمراء،ولا يصطدم بآليات التّكاثر والازدياد والاقتران الرّسميّة والقانونيّة،وإعادة توزيع الملكيات والمواريث والثّروات"(11)
    عندئذٍ يختلط الواقعي بغير الواقعي،وإن أومأ الخطاب إلى سيف السّلطة،وقهر الإنسان.
  غير أنّ الكاتبة تأتي بالفصل السّادس لتخصّصه لمناقشة (طاقة البعد الخامس)(12) فتبدأ باليوم 3 شهر النّور من عام 3010م،برسالة من خالد الذي كثرت رسائله على مدار الرّواية:" " يانفحة من روح الإله ،يانبيّة الكلمة،يانبيتي،أتمنّى أن تكوني مستعدة لاستقبالي هذا المساء،لقد جئتكِ خفية،وانزويتُ إلى زاوية في غرفتكِ أتأمل جلستكِ،يبدو لي أنّكِ تلبسين ثوباً شفافاً أسود،ما أجمل الأسود والسّواد؛إنّه لون النّبالة والشّرفاء والصّدق،راقتني الطريقة التي تداعبين بها لوحة المفاتيح، لقد أُفتتنتُ
بأناملكِ،أمّا الذي يشتّتني فابتسامتكِ ونظراتكِ الغارقة.أنتِ أذكى امرأة عرفتها في حياتي؛لأنّك أكثر صفاء وحركة وكلاماً وأنوثة،عشقتك لأنّ شيئا من روحكِ يذكرني بالإله،عشقكِ لأنَك ملأت قلبي في لحظات كان فيه الفراغ يملأ جغرافيتي"أشتهيكِ:خالد"(13)
   وتلك رسالة حقيقيّة،وإن أشارت الكاتبة إلى عالمها المفترض،إذ تبدأ بشيء ممّا بين المحبّين،سيقت في وصف مباشر دال.
   تقول الكاتبة: لقد جرّبنا إطلاق هذه الطّاقة لمرة واحدة يا وردي لقد جرّبنا إطلاق هذه الطّاقة لمرة واحدة فقط ياوردي،كان ذلك في ليلة صناعتكِ،ليلتها كان الحبّ في أعلى مستوياته في جسدي وجسد خالد،وكانت روحانا معلقتين في عرش السّرمديّة ،ومتواصلتين مع كلّ قوى الكون،كانت لحظة انفجار الطّاقة الكونيّة،لقد كانت طاقة رهيبة وعملاقة حرفت كوكب القمر عن مساره الأبديّ الخالديّ بمقدار متر كامل،وسببتْ خللاً كونيّاً أبديّاً،ولوخرجت الطّاقة المنبعثة عن المقدار المتوقّع لها بمقدار أكبر لتفجّر القمر بنا وبليلتنا الخالدة،وبكلّ مواطنيه من العالم الجديد.
  طاقة البعد الخامس مرتبطة بطاقة الحبّ،وبدائرة الجنس الخالدة المقدّسة... هو قوة تختزل النّماء والاستمرار والحياة،وتكفل موثوقيّة المحافظة على العِرق البشري بكلّ صفاته ومميزاته وحوامله ومحدّداتها،وهو فعل تتكاثف فيه أدوات الجسد والروح والنّفس من أجل خلق تعبير عن الحبّ والحياة والاستمرار،والتّعبير عن الفعل الجمعي بذاتيّة خاصة..."(14)
  لا شكّ أن الكاتبة تعود مرّة ومرّة لتؤكّد من قيمة العلاقة الحميمة وتُعلي منها،غير أنّها تعود كذلك من جديد،لتكشف عن اضطراب الرّؤية وانغلاقها أمام إنسانها التّائه في دياجير التّشتّت والجهالة إذ تقول: "ولكن بعد انتصار الماديات،وانحصار القوى الرّوحيّة،واتخاذ الإلحاد ديناً،والكفر بالله،ورحيل الأنبياء،واندثار العبادات والرّموز الدينية،واستفحال الأمراض الجنسية المعدية،وتشوّه المخيال الإنسانيّ،وانتشار العنّة،وشيوع تشوّهات الفروج والقضبان بسبب الحروب الذّرية الدامية،واستفحال التلوثات البيئيّة والكيميائيّة والبيولوجيّة،فقد انقرض الجنس،بعد أن تذبذب في سنين من التّجريم والمطاردة والتّحريم من حكومة المجرّة،ثم نُسي تماماً،بل نُسختْ ذكرى انقراضه،وما عاد له ذاكر حتى ولو في ركن تعليمي في متحف أو مركز أبحاث،وغدا القليل فقط من العلماء والمتابعين لقضايا التّاريخ الإنثربولوجيّ والفضوليين والمالكين لبعض نفائس المخطوطات والرّقع الإلكترونية والذّاكرات الممغنطة التي تشير للجنس،وتملك صوراً نادرة عنه هم العارفون به وبحكايته الطّويلة مع الإنسانيّة"(15).
   لقد شرعت سناء الشعلان تناقش قضايا مجتمعيّة طارئة،حاقت بإنسان مرحلتها،وملكت حواساً له،فأغلقت مسارب الرّؤية من أمامه وخلفه.
  وهكذا يأتي البعد الخامس،رسالة في قصيدة عبر الجسد،جسد المرأة(النّبيّة)،نبيّة هذا البعد،كونها حقيقة في عالم الهداية،وهدى في عالم الضلال،تلك(نبية) من نوع خاص،برزت في هذا الطّرح،ودلّلت عليه،بوصفه نوعاً من (مزج) بين روحين التقتا  في زمن ما.
  وعلى الرّغم من الوضوح إزاء هذا الطّرح،فإنّ ثمة قدراً من التّوغّل عبر الغيب(الفيزيقا) لم نستطع الوصول إليه،أو استيعابه،أو فكّ أحاجيه وشفراته في البداية.
   وهنا،فلا الكاتبة جنحت إلى عوالم السّرد المفترضة والمتخيّلة وحسب،ولا هي ظلّت قابعة في عالمها العاطفي بكلّ زخم رسائله الحالمة وفقط،وإنّما أرادت(مزج) هذا كلّه في تلك الرّؤية المختلطة،وإن تهادى ذلك في تألّق وبراعة،تبرز أدوات المبدع الجاد،أظهرها(صوغ) محكم لمادة الحكاية(الخام) مع " البنية السّرديّة".
   وفي هذا تكشف سناء الشعلان عن مرارة تجربة فتقول:"    ماذا نسمي وجوهنا حين تغيب عنا؟لاشيء سوى العدم،لاشيء سوى ضروب من الفراغ واللامعنى،سوى سحر أغنية فاضتْ من كأسٍ، فسال الوقت وفاض العمر، وصرنا صوراً بلا مصير...    لا معنى لي بعد كلّ هذا العبور إلى ضفاف الخريف.روحي شتاء يأتي قبل الخريف.وخريفي صيف يأتي بلا فصول،ووجهي قطعة أرض شوهتها أيادي البشر المأفونين.ما الحبّ يا قلبي؟ ما الشّوق يا صدري؟ ما المسافة والمواسم والأنثى والصحراء وقطر الماء حين يتلوّن الوجه، ويلبس الجسد درع النّهاية؟!"(16)
   وإذا كانت الكاتبة تفصّل القول في طيّات سطورها المبتدعة،فقد آلفت بين دوال بعينها،تزامنت على صفحات الكتابة،هي دوال( الموت)،و(الحبّ)و(التّجربة)،بوصفها من أكثر الدّوال تكراراً في سطور الرّواية:(موت الجسد)،(موت تجربة)،(موت حبّ).
   ومع هذا نرى عكساً جليّاً لمعاني تلك الدّوال،قصدتها الكاتبة قصداً من وراء هذا العمل،بدت في إحياء جسد،وتجربة،وإحياء حبّ: " أنا الحائر الذّاهب الآتي العائد القادم المذبوح اليقظ، شاخ جسدي ،وأعيت السّنون وجهي.بينما حبّك  يلهو بي كقطعة قماش وهو يطلق قهقهاته التي أربكتّ ما تبقى من المسير.أنا الموت المنقوش على لوح الرّوح، أقول لكِ يا طلوع الأفلاك إنّ قبري يتسلّل إلي بين الموتى كي يخبرني بأسرار المحار وإعوجاج مخابئ ساكنه.
    أنا الموت الذي انفضح الجرح أمام عينيه، وتقاطرتْ مصائر القادم على وجنتيه"(17)
    ولايكاد الفصل السّابع يبتعد  بنا عن هذا الطّرح،بوصفه(معادلة نظريّة لطاقة البعد الخامس)،كونه طاقة كونيّة غير متناهية،ترامت في واقعيّة ملحوظة:شعري+كلماتي+خالد)(18)،هنالك تبدأ سناء الشعلان-كعادتها- التأريخ باليوم 7 شهر النّور عام 3010م برسالة من خالد (19)،وهي رسالة-كغيرها- تؤرّخ لما بين خالد وشمس،والرّسالة تستدعي رسائل أخرى،سبقت في الفصل السّادس،يوم كذا،ويوم كذا،من شهر النّور.
  هنا كان على الكاتبة ألاّ تفصل بين السّرد المتتابع في الفصلين،ثم يطرح هذا اسئلة تكرّرت: ما الغاية من هذا الكمّ من الرّسائل،وقد شغل مساحة كبيرة من الرّواية!!
  زمع ذلك نعود فنقول: إنّ الأثرالأكبر من وراء ذلك يكشف عنه معجم ضخم لمفردات الجسد،أظهرته في براعة سناء الشعلان على طول روايتها،وضخّمته بأريج من عاطفة رفيفة،استقتهامن مكنون وجد خالص،عبر قاموس خاص،هو قاموسها وحدها،فجاء على شاكلة بعينها،رأيناها في هذا العمل الأدبي كاشفة دالة.
  وهاهي سناء الشعلان،لقد عادت لتوّها تحكي عن عالم القيود في حكومة الاستبداد،والعسف،والقبح،وإن حاولت تغليف ذلك بشيء ممّا يجري في (حكومة المجرّة)،لقد عادت إلى حيث القاع الذي يقف عند سفاسف الأشياء،ويجعل منها مادة له:" أستطيع أن أجمل لك كلّ هذه المشاكل في أنّ الحكومة تحرّم الشَّعْر الطّويل،وتدين تربيته،وتجرّم من يفعل ذلك،من باب فرض نمط شكليّ واحد على كلّ سكان المجرّة لاعتبارات كثيرة يمكن اختزالها في ثقافة القبح والاستبداد وفرض النّمط الواحد ومحو خصائص الفرديّة والاختيار،ووالداي والمدرسة والعمل وكلّ من حولي يريدون أن أخضع للقانون من باب إغلاق منافذ المشاكل والمخالفات وغضب الحكومة،وأنا لا أبالي بإشراع كلّ النّوافذ على الجحيم مقابل الاحتفاظ بشَعْري الجّميل الذي يسعدني،ويكتنفني بحميميّة خاصة تفجّر في داخلي اعتزازاً عملاق بأنّني أنثى .
  ولك أن تتخيّلي كم عُنّفتُ،وضُربتُ،وعُوقبتُ،وأُضطهدتُ ،وغُرّمتُ،ثم جُرّمتُ أخيراً عندما بلغت سنّ الحادية والعشرين،وهو سنّ الرّشد في المجرّة،وأخيراً قادني شَعْري الطّويل الجامح كنجمةٍ إلى المحكمة بصفتي متمرّدة صغيرة،وعاصية حمقاء،ومواطنة عنيدة تتمسّك بمخالفة القانون،ومعاندة الدّولة من أجل شَعْر أسود طويل لا قيمة له،سوى ذلك الافتنان الجميل به والنّشوة الحلوة التي تسكن في نفس كلّ من يراه يتطاير بزهو في الهواء،ويتمايل بحركة غنجاء مائعة متهادية مع كلّ حركة أقوم بها"(20)
   وبهذا تعود الكاتبة-في جلاء- إلى أدب(السّيرة)،لتحكي حكياً مباشراً عن بطلة الرّواية،إذ تقول:"  وأُلقي بي في السّجن عندنا رفضتُ دفع الغرامة،وقُصّ شَعْري وفق القانون،وكاد الأمر ينتهي عند هذا الحدّ لولا كلماتي التي كان لها الدّور الثاني في تغيير اتجاه حياتي،فقد شرعتُ أكتب رواية متمرّدة جميلة اسمها" سِيَر أصحاب الشّعر القصير"،ضمّنتها أجمل الأفكار التي قرأتها عبر مطالعاتي الطّويلة والمكثّفة لتاريخ البشر وسسيولوجيا الأدب وأنطولوجيا المكان وتطوّر الفنون وتاريخ الإبداع الإنسانيّ في الألفيّة الماضية،واستفدتُ من معلوماتي عن قيم الجمال والحريّة في الألفية المنصرمة من أجل لمز كلّ قوى الاستبداد في حكومة المجرّة،ووظّفت كلّ أساطير الحبّ والجمال والخلق والوجود والنّهايات والجحيم والفردوس في شحن هذه الرّواية بكلّ مثير وطريف ومقنع،وتثوير الشّعب ضدّ وجودهم المفرغ من الرّوح والسّعادة والذّاتيّة في عالم إلكترونيّ مبرمج وفق ما تقتضيه خارطة مصالح رجالات حكومة المجرّة"(21)
  إنّ أقوى ما تحيل إليه بنية السّرد هنا،هو قدرة الكاتبة على امتلاك ناصية القول،وأدواته،في شيء من تفرّد،وموهبة تضنّ على كثيرين أمثالها،ذلك ما تكشف عنه رواية سناء الشعلان،أيّاً كان القصد من ورائها.
  وإذا كانت الكاتبة في هذه الصّفحات تميط اللثام عن نفسها،إذ جنحت إلى(أدب السّيرة) بصورة ظاهرة،أومأت فيها إلى شخصيتها وإن جاء هذا في مراوغة مقصودة،فقد غلب على ذلك شيء من عاطفة جيّاشة،أفصحت عن بعض خبايا علاقة،أظهرها فيضٌ من رسائل شبقة،احتشدت بكثرة في سياقات القصّ،وأبانت في الحين نفسه عن حميميّة لا تحدّها حدود،وإن جاءت في لحظات ترقّب لمشهد كوني لـ امرأة/رجل/أو رجل امرأة،في اكتناز لكمٍ من مشاهد،يكتنهها تداخل،تراءت-جميعها- كاشفة في انتظار وليد قادم،كونه رمزاً لمرموز أكبر،لم تكشف عنه الرّواية مرة واحدة،حتى لو تخيّلنا ذلك.
   على أنّ الكاتبة تعود فترتدي مسوح المتصوّفة،وتخلع عليها نفساً من سيرة(حيّ بن يقظان)(22) وأشباه من فكر إنساني رأيناه في غير عصر:" مع أوّل شعاع من أشّعة هذا الصّباح الشّتوي البارد،نطق باسل جهراً صدقاً : لا إله إلاّ الله،هو ربّي وأنا عبده،وإليه المآل.لقد امتلأ صدره بإيمانه وشهادته،فرحب الكون من جديد،وأصبح أشدّ بهاء وأكثر أمناً،وعرف له غاية ومصيراً ومعنى لوجوده وخلقه،الآن أدرك سرّ الضّياع الذي تعيشه الإنسانيّة المعاصرة وارثة كلّ إلحاد هذا الانفجار العلميّ والحضارة المعلوماتيّة  بكلّ مافيهما من كفروعناد... أكان عليه أن يقطع كلّ هذا الدّرب الطّويل،ويعيش تجربة المستحيل،ويخلع جسده في مكان ما،ويلبس جسد غيره،ليبحث عن نفسه،فيجدها في جسدها وفي نفسها وفي مذكراتها وفي كلماتها؟ لعلّ القدر رتّب له هذه الرّحلة الغريبة والطّويلة في البحث عن نفسه،بل الله من رتبّ له هذه الرّحلة،وقاده إلى نفسه،نعم  كانت إلى جانبه منذ البداية طاقة خيّرة تحبّه وترعاه،وهذه الطّاقة هي الله بلا منازع.
   الرّحلة صعبة،ولكن المُزار يحتاج إلى كلّ هذا العناء،مادام هو الطّريق إلى الله،فما أجمل البكاء على أعتابه!وما أحلى الوقوف في ذلّ سؤاله!وهو العاطي الوّهاب.
    لقد آمن بالله ربّاً،وبها نبية كلمة ،أخرجته كما خرجت وأخرجت الكثيرين من ظلمات الإلحاد والكفر إلى فراديس من نور الإيمان،وحلاوة قرب الخالق الواحد الأحد الفرد الصّمد"(23)
  غير أنّ المتأمّل في الصّفحات-ص162 ومابعدها- يتوقّف أمام المفاجئة الأكبر،إذ تنزل القاصّة من علٍ،فتعود إلى واقعها،وقد هبطت توّاً من كوكبها البعيد- الذي أرهقت فيه قارئها- إلى حيث كوكب الأرض،إذ تكشف-هنالك- عن مغزى القول،وقيمة الرّمز،وانخلاع الجسد،خلال هذا الفيض الرّائق الذي تقنع بكم من الأقنعة،ووسّد بكم من الأردية،كانت سبيلاً إلى ما ورائها من مقاصد.
  ويظهر ذلك- بصورة أكبر-على لسان بطلها:"      وأنا كنتُ-لسوء حظّي- آلة الدّمار والفتك التي تعيث قتلاً وتشريداً وإثماً في أولئك المؤمنين الذين تسمّيهم الدولة ثوّاراً. أصدحُ الآن بترنيمة الرّوح والحقيقة " أن لا إله إلاّ الله"،الآن عرفتُ حكمة أن أخلع جسدي الطّاغي الظّالم الخليق بالعذاب والخطيئة،لألبس هذا الجسد الطّاهر العارف بشؤون الحقيقة والنّور والهداية،فلا عجب إذن أن يكون اسمها شمساً،لتنير قلبي بقلبها،وتقود جسدي بجسدها،وتنيرروحي المعتمة بروحها الوضيئة.
   لابدّ أنّ السّماء قد قبلتْ بي تائباً يعود إلى فراديس الله وسدرات منتهاه عارياً من كلّ خطاياه ولاسيما جسده،ووهبتني مِنّة المغفرة لتقرّ عيني،وتطيب نفسي،فجعلت من هذا الجنين المخلّص سليل العشق وطاقة البُعد الخامس إمارتي على القبول ورسالتي الحجّة بين يديّ الله،وقد آن لي أن أسعد بهذه الحجة(24).
   وتلك هي المحطة الأخيرة التي تتوقّف عندها غايات القصّ،ومضامين القول ومغزاه،وقد أحالت إلى ما كان وراءها،وكيف نسجتها سناء الشعلان نسجاً في هذا العمل المجهد والشّاق.
   وتختم سناء الشعلان روايتها بالفصل الثّامن،انطلاق الطّاقة(25) ليكون أكثر الفصول واقعيّة،إذ تبدأ بحديث مطوّل لما بين الله والإنسان،ثم مابين الإنسان والإنسان.
   وإذا كانت الكاتبة قد انحازت-في كثير من طروحاتها- إلى السّرد (الفانتازي)،والجنوح بالخطاب(الفيزيقي) المتجذّر في طوايا التّراكيب،وثنائيات المعنى،فإنّها لم تبرح مكانها بعد.
 ويبقى من هذا الجزء الأخير(انطلاق الطّاقة) قد ترامى في تراكيب يحدوها شيء من صدق،رأيناه في ألفاظ من حقل (البوح)،أبان عن لحظته (الموسومة) في حقيقة لا تبتعد عن عبق اللحظة،وخرافيّة الحدث،في اقتناص لنشوة التلاقي،وكيف ظهرت هاتكة لأسدال الحقيقة،ومعرية إيّاها في غير وجل.
  لقد أظهرت سناء الشعلان في روايتها فيضاً شغلنا على مدار الحدث،وهي- أيّ الرّواية- وإن بدت تغلق الأبواب بداية أمام متلقيها،إلاّ أنّها كشفت عن كلّ هذا جملة واحدة حينما اقتربت من النّهاية.
  كذلك تكشّفت الرّواية من شيء آخر في وريقاتها الأخيرة،تجسّد في نوع من علاقة فاعلة بين الصّوفي والعاشق والفيلسوف.

الهوامش:
(1)            رواية"أعشقني":سناء شعلان،ط1،دار الوراق للنشر والتوزيع،الأردن،عمان،2012،ص9.
(2)            روائيّة أردنيّة.
(3)            رواية "أعشقني":ص13.
(4)            نفسه:14+15.
(5)            نفسه:27.
(6)            نفسه:37.
(7)            نفسه:41.
(8)            نفسه:53.
(9)            نفسه:65.
(10)      نفسه:61.
(11)      نفسه:65-66
(12)      نفسه:83
(13)      نفسه:83
(14)      نفسه:95،94
(15)      نفسه:96،95
(16)      نفسه:101.
(17)      نفسه:102.
(18)      نفسه:125.
(19)      نفسه:125.
(20)      نفسه:127.
(21)      نفسه:128.
(22)      انظر:حي بن يقظان،ابن طفيل،الهيئة المرية العامة للكتاب،مصر،القاهرة،1999.
(23)      رواية"أعشقني":162،163.
(24)      نفسه:171.
(25)      نفسه:180