الصفحات

2017/08/30

الفيلم الملحمي بين المعالجة وانفتاح النص للكاتبة حياة حيدر محمد علي



الفيلم الملحمي بين المعالجة وانفتاح النص للكاتبة حياة حيدر محمد علي 
رنا محمد نزار
صدر مؤخراً عن دار الشؤون الثقافية العامة كتاب بعنوان (الفيلم الملحمي بين المعالجة وانفتاح النص) للكاتبة حياة حيدر محمد علي.
يتحدث الكتاب عن تساؤلات مختلفة حول كيفية مزج العالمين، عالم الملحمة وعالم السينما لخلق عالم غني متكامل يعبر عن العالمين بشكل جديد يتوافق مع التطورات الفنية والأدبية والعلمية التي هي مرتكزات التطور الحضاري ليكون الفيلم الملحمي نتاجاً لهذا التمازج ومعبراً عن الرؤى الفكرية يهتم البحث في دراسة خطوات عملية البناء السينمائي التي تحدد توجه الفيلم السينمائي الملحمي وكيفية نتاج افلام روائية ملحمية مختلفة بانفتاح النص الملحمي امام المعالجات السينمائية وما يمكن مخرج السينما من توظيف عناصر اللغة السينمائية لصياغة وبناء معالجة فنية مؤثرة ومعبرة عن أفكار ومضامين مختلفة في الفيلم الملحمي. 
تضمن الكتاب خمسة فصول حول الاطار المنهجي والنظري وتحليل العينات ومناقشتها واخيراً نتائج البحث مع الاستنتاجات والتوصيات والمقترحات.
وجاء الكتاب بـ 203 صفحة من القطع المتوسط.



في أبحاث الأدب النجفي للدكتور حسن الخاقاني



في أبحاث الأدب النجفي للدكتور حسن الخاقاني
ياسمين خضر حمود
صدر مؤخراً عن دار الشؤون الثقافية العامة كتاب بعنوان "أبحاث في الادب النجفي" للدكتور حسن الخاقاني.
فللنقد حضوراً راسخاً في تشكيل المشهد الإبداعي مادام يؤدي وظيقة مزدوجة في تخصيب هذا المشهد تارة، وبالتفاعل مع المنجز الادبي والفني والأخرى بموازاة ذلك المنجز ابداعياً وجوهرياً.
لقد قدم البحث خطة تحيط بأبرز مظاهر هذا الغزل واتجاهاته فقسمه على أربعة أنماط استخلص منه عرض نتاج الشعر اولاً النمط البدوي الذي حافظ فيه الشعراء على نمط الحياة البدوية وتقاليدها في الشعر ، والنمط التلفيقي الذي جمع بين مظاهر البداوة وطعمها بألوان الحضارة والتجربة الصادقة ثم الغزل المذكر وفي كل نمط من هذه الانماط أستعين بالنماذج التي تبدو اكثر تمثيلاً له ثم استخلص من ذلك أبرز خصائص هذا الشعر فخرج الشعراء النجفيون بجدارة، ومن تلك الأنواع الشعر كالخمريات، المشوحات، التسميط، التشطير، التخميس، والمراسلات والخوانيات وغيرها. وسأتناول احدى المواضيع الكاتب في هذا الكتاب وهو (الغزل).
لقد كان للغزل تاريخاً طويلاً يمتد الى يومنا هذا فالعاطفة والحب والرغبة في التعبير عنها حاجة متجددة بتجدد الازمان  والبشر ولقد اثر الزمن كثيراً على بعض الخصائص العامة للغزل.
لقد كان الشاعر النجفي شبيه أخيه الشاعر العربي تقليداً في شعره وحياته ولكنه لا يختلف عن مجمل البيئة العربية في القرون المتأخرة كان النجفيون ذوي همة واهتمام بتسجبل أدبهم فصنف الكثير من الموسوعات الكبيرة ونشروا دواوين شعرهم وحفظوا للناس تراثهم ومن هؤلاء الشعراء السيد إبراهيم الطباطيائي الذي ينحدر من اسرة ترجع الى قبيلة كانت تسكن نجد وظل على اتصال معها ولقد ضم ديوانه غزلاً كثيراً ورد منه في شعره عن (المرأة) حيث  قال:

ترنو اليك العين اذ ما تنتشي


فكأن عيني من جفونك تشربً
وكان جعدك فوق خدك مرسلاً


ليل أحم البردتين بكوكب
اني ليطربني قوامك إن خطا


يهتز كالخطي وهو مدرب
ينساب فوق كثيب ردفك أرقم


وتدب فوق شقيق خدك عقرب




جاء الكتاب بـ  392 صفحة من القطع المتوسط.

2017/08/29

الأشرفية وصهيل الحروف الشعرية بقلم: زياد جيوسي



الأشرفية وصهيل الحروف الشعرية




بقلم وعدسة: زياد جيوسي
   هي الأشرفية ذاكرتي العمَّانية التي لا تفارقني، فقد عرفتها منذ كنت في الرابعة من العمر، ودرست الأول الإبتدائي فيها ونصف الثاني، قبل أن نستقر في القدس فرام الله التي نزحنا منها قسرا بعد هزيمة حزيران 1967، لتضمنا الأشرفية من جديد ونتنقل في أحيائها المختلفة، فدرست المرحلة الإعدادية والثانوية في مدارسها حتى غادرت للجامعة وعشت بعدها رحلة المنافي والشتات والمعتقلات، ولكن الأشرفية لم تفارق الذاكرة أبدا، ففيها عشت أجمل الأيام وأصعبها أيضا، وفيها ذاكرة المدرسة وأجمل الأصدقاء، فمنهم من رحلت روحه ومنهم من بقي على قيد الحياة فألتقيه بين فترة والأخرى ونستعيد ذاكرة الزمن الجميل.
   وحين اتصل بي الشاعر الشاب فادي شاهين ليدعوني لأمسية شعرية يشارك بها تحت عنوان جميل: "صهيل الحروف الشعرية" في مركز الاشرفية الثقافي، صهلت الذاكرة بكل ما احتوته من جمال الذكريات للأشرفية، ولم اقل لشاعرنا إن كنت سأحضر أو لن أتمكن، فآثرت الصمت وكما قال نزار قباني "فالصمت في حرم الجمال جمال"، والغيت أية إرتباطات أخرى وكنت أجول في الاشرفية قبل ساعة تقريبا أستعيد جمال الذاكرة قبل أن أتجه لأحلق في فضاء جمال الشعر.
   ثلاثة من الشعراء أحيوا الأمسية الجميلة: الشاعر عيسى حماد والشاعرة سمية الحمايدة والشاعر فادي شاهين، وهم مثلوا ثلاثة أساليب من الشعر، وفي مركز الأشرفية الثقافي وهو بناء تم بناؤه في ساحة كانت فارغة في زمننا مقابل مسجد أبو درويش التراثي والمتميز بجماله؛ كان شدو الشعراء، فقدمهم الشاعر الجميل زكريا الطردة وأدار الأمسية وأبدع بذلك، فمازج الشعر بالنثر فكانت التقديم بين الفقرات قصائد من شعر وجمال.
   بدأت الأمسية بالسلام الملكي والوقوف احتراما له، ليلقي راعي الحفل المهندس يوسف معدي رئيس الجمعية الأردنية لخريجي جايكا اليابان كلمة الترحيب بالحضور والشعراء، مبديا إستعداد الجمعية لرعاية الأمسيات الثقافية والأدبية في جبل الأشرفية، واعتذر للضيوف عن تسائب موعد الأمسية مع مهرجانات الإنتخابات البلدية مما أثر على عدد الحضور المعتاد، وخاصة أن جبل الأشرفية يقع في المنطقة الشرقية من عمَّان ويعتبر منارة الثقافة فيها، فالمؤسسات والاتحادات والروابط الثقافية والفنية تتركز في عمَّان الغربية، لكي تبدأ الأمسية بعد أنشودة فرح قدم فيها الشاعر زكريا الطردة الفارس الأول الشاعر عيسى حماد والذي قدم كما زملاءه عبر جولتين لكل منهما بعض من بوح الروح وتألقت روحه ومن قصيدة "وطنٌ ينوح" اخترت هذا المقطع:
ما  للعروبةِ هل تاهــتْ ســهامُهمُ/ عن الّذين بغيرِ السـيف ِما دُحروا
تبّتْ بنـادقُ لا في القدسِ صولتُها/ وانحط ّ سـيفٌ لغيرِ القدسِ يدّخر ُ
ومن قصيدة  "نجوى الشوق":
يا شوقُ هوّنْ صَبوَتي ولواعجي/ وارتقْ جروحاً في زهيدِ رُقــادي
فالعاشــقونَ إذا رغبتَ أرحتهــمْ/ وأنا الوجـــيعُ فجعتني ببــــلادي
ومن قصيدة "هواجسُ مرضيّة":
عيني تركمجُ في خطايا شعرِك الهامي على/ شطآنِ هُدبي مُبرحاُ في غَيّهِ .. مسترسلاً نحو الحِداقْ ..
فلتسحبي الموجَ الشفيف َ إلى فمي/ ولتتركيني أحتسيك ِ على اشتياقْ ...
ومن قصيدة " يا ربّ الحسن":
والرّوحُ من فرطِ الدمــاثةِ قُبلــةٌ/ ذابَ الجمــالُ بســحرِها فغــواني
يا قِبلةَ الشعراءِ لستُ بشاعـــرٍ/ حتى أُعمّـــدَ بالبـــــها وكـــفاني
سُقيَ الجمــالُ بغير ماءٍ فارتوى/ شــهداً رقيقـــاً لمْ تَشُـبْهُ بَنـَـاني
   الشاعرة سمية الحمايدة وهي من شاعرات الشعر النبطي والشعر الشعبي ولها باع طويل في هذا المجال شدت بمجموعة من القصائد إخترت منها هذا المقطع من قصيدة "غياب":
يقول الصبر زين أجره عباده/ شلون أجيه وهو زاهد أثوابه
ما تدري البشر غدرها زياده/ و رواد الردى اتسيدت ابوابه
خل عنك النصح تدعي السعادة/ وانت من الجرح تشرب اكوابه
ومن قصيدة "إلى تمثال" ...
كم واحد من كبار ااااالقوم تمثال/ يا شيخ احفظ شيبتك واااالراس
العُبي يا رخصها لاصارت اسمال/ أخاف بوقعتك عالأرض تنداااس
لا تعتقد ان رفقة الشيوخ أعمال/ وتعتقد صرت كبير تحبس أنفاس
ولا تصدق ان كلب الشيخ مثال/ الشيخ شيخ وانت مجرد اقتباس
ليلقي الشاعر الشاب فادي شاهين عدة قصائد اخترت منها المقطع التالي من قصيدة "قميص يوسف":
مازالَ الحُلمُ يُراودني عن نفسي/ مُسجىً في نَعشِ الأُمنيات/ والغيابُ يَستحضرُ/ ما فاتني من دموع/ سأُعلنُ اليومَ القيامةَ من رمادي/ كي تعودَ لي النوارسُ بأيقونةِ البحرِ.
ومن قصيدته "ترنيمة" اخترت المقطع التالي:
ما كانَ على أطرافِ النجوم/ ذاكرة ُالشمسِ تحفظُ ذِكرانا/ كي ننصهرَ في بوتقتها/ على حدودِ الشفقِ/ نسكنُ مرآةَ البحرِ/ فيعودُ بنا نورسُنا/ على شاطئ سُنبُلنا.
ومن قصيدته "حتى لو مت قبل حلمي": حتى لو مت قبل حلمي/ وكان مخاضُ الغيمِ وهماً/ وارتحلَ الحمامُ عن عروشه/ ليصلي في سماء آلامه/ سأبقى ولو أكلَ الحبُ قلبي.
   لتختتم الأمسية بقصائد ألقاها ضيوف الشرف الشاعر صالح الجعافرة وألقى قصيدتين احداهما غناها بصوته وهي من قصائده المغناة وتفاعل معها الجمهور بقوة، ليصعد بعدها الشاعر أيمن كبها ويقدم شعرا نبطيا عارض به الشاعرة سمية الحمايدة، فقامت بالرد عليه لتمنح ختام الأمسية مرحا وفرحا.
   وتبقى ملاحظة أوجهها للدائرة الثقافية في أمانة عمان الكبرى وأهمس لهم: الأشرفية تاريخ وحكاية عمَّانية، ووجود المركز مهم وتشكر الأمانة ودائرتها الثقافية عليه، لكن القاعة تحتاج لإهتمام أكبر، فهي قاعة واسعة ورائعة، ولكن وجود النوافذ والأبواب الخشبية المفتوحة على الساحة الخارجية شوشت الأمسية، لوجود الشباب والأطفال وبعض العائلات في الساحة الخارجية ومدرجها على بعد خطوات من القاعة، فهذه الساحة متنفس للسكان وخاصة في هذا الجو الحار الذي لم نشهده في عمَّان إلا نادرا، ولذا فالقاعة بحاجة للعزل الصوتي واستخدام المكيفات والاهتمام بنظافتها وأجهزتها أكثر.
"عمّان 28/8/2017"

تجاعيد الوفاء بقلم: عبد القادر صيد

تجاعيد الوفاء
 عبد القادر صيد
 في صالون معرض لرسام مشهور تتجول أربعينية بخطى تدوس بتشف شديد على بيض السآمة ، لا تخلو مشيتها من كبر و ازدهاء،ترافقها أبهة ممزوجة بشيء من حزن غير ضار، بل على العكس تماما، فقد أضاف إليها سرا يحتمل أن يكون رومانسية أو شقاء ، أو ربما فسره أصحاب النوايا السيئة بأنه آثار عربدة.. تفاجأت بصورتها معلقة ضمن لوحات المعرض عندما كانت في العشرين من عمرها بهيئة بديعة كأنها ساعة رملية قُلبت لتبدأ العد من جديد..اندهشت..سرحت بفكرها زمنا ،ثم أسرعت إلى الفنان :
ـ من أعطاك الحق في رسمي ؟
ارتبك ، نطق و هو يرتعد:
ـ خذيها لا أريدها..
ـ كيف رسمتني ؟ و متى ؟ أنا لا أعرفك ..
  يحاول الرسام أن يهدئ من غضبها خوفا من الإحراج  وسط جمهوره من الفنانين و الصحفيين .. ينزع الصورة من الجدار و يناولها إياها ،ملتفتا إلى الحاضرين بنبرة مبحوحة متكلفا الابتسام :
ـ من حقها أن تأخذ صورتها ، أليس كذلك ؟
يصفق له الجميع ، لكنها تسحبه بلطف إلى زاوية ، و تهمس بغضب بركان يتهيأ للانفجار :
ـ أخبرني عن سر هذه الصورة ..
ـ لم أرسمها أنا ، لقد اشتريتها..
ـ إذن معرضك كله من المشتريات ، أليس كذلك ؟
ـ لا..لا يا سيدتي ليس إلى هذه الدرجة ، حدث هذا مع صورتك فقط..اشتريتها من تاجر للأدوات المستعملة ..
ـ كيف تكون صورتي مستعملة ؟
ـ هذا هو الواقع ، هي صورة فنية رائعة ، أسلوبها قريب من أسلوبي في الرسم ،انتظري قليلا ،سوف أعطيك بطاقة زيارة المحل الذي اقتنيتها منه..
   يغيب للحظات ، ثم يرجع و معه البطاقة ، تخرج حائرة ، تقصد مباشرة المكان، تجد شيخا هرما ، تخجل من مشاجرته ، تعرض عليه  الصورة ، فيضحك بصوت مرتفع يثير الاستفزاز ، ثم ببطء شديد يغازل الغيظ يخبرها بأنه  اشتراها ضمن سلعة كثيرة ، و ليس لها ثمن ، فهي هدية من تاجر الجملة ، زودها بعنوانه.. ها هي الآن أمام كهل قوي طويل واثق النبرات،أحست بالخوف منه ، و هو يستنشق غليونا قذرا كاد يصير رمادا من شدة قدمه، رحب بها ، و أخبرها أنه اقتناها في مزاد علني ، و هي سلعة لشركة أفلس صاحبها ، أخذت عنوان المفلس ، و عندما وصلت إليه ، عرفت أن الصورة أهداه إياها صديق اشتراها من مدينة (س) ، فلم يكن بد من أن تنتقل إلى تلك المدينة .
   نامت ليلتها و هي في حيرة من أمرها ، ترى من رسمها وهي لم ترتبط في حياتها بأي رجل ؟ و لكن لماذا توقعت أن يكون الذي رسمها رجلا و ليس امرأة؟ربما لهذا الافتراض علاقة مع نمط حياتها ، فهي تعيش بمفردها بعيدة عن كل المزعجات و المنغصات ، تعتقد أن الجميع يطمع في أموالها، فلا تنغمس في أي علاقة ، يحيكون عنها الأقاويل، و لكنها لا تعبأ يهم ، لا تعبأ حتى بأخيها الأكبر الذي يزورها بين الفينة و الأخرى يعرض عليها الزواج بصديقه ، و لكنها كانت دائما ترفضه قائلة عنه أنه إنسان فاشل في حياته ، و هو يطمع أن أنفق عليه ، لست غبية حتى أشتري قيدي  بدراهمي .
   في الصباح سافرت إلى تلك المدينة ، والتقت بالشخص المقصود،وقد أخبرها بأنه اشتراها قبل عشرين سنة  من شاب كان في ذلك الوقت  يرسم الوجوه بسرعة فائقة و بدقة متناهية، ذكر لها اسمه ،وتفقدت مكان اسم الفنان أسفل الصورة ، فوجدته مغبرا، كل الذين مرت عليهم لوحتها معنيون  بتلميع الصورة تاركين اسم الرسام لنسيج العنكبوت، تأكدت من اسمه ، لم يكلف الرسام السارق الكبير صاحب المعرض نفسه حتى عناء محوه و وضع اسمه مكانه ،أخبرها أين تجده.
  قصدت المكان و هي تتساءل من يكون هذا الذي رسمها منذ تلك الفترة ؟من يكترث لشأنها؟فإذا هو كهل يميل  هندامه إلى لباس المتسكعين، ابيضت لحيته المبعثرة، لا يخاطب الناس بالكلمات، و إنما يتعامل معهم بالإيماءات ، بعضهم يسميه المجنون ، و بعضهم المصدوم ، و المدينة قد نسجت الأساطير حوله،فهو يعرض لوحاته في محل قديم بائس ،عندما رآها ابتسم  بعد حزن و عبوس داما عشرين سنة ،و حين سمعه الحاضرون  يرحب بها لم يصدقوا أنفسهم  ،أما هي فكانت متوجسة منه ، لولا ابتسامته المطمئنة التي يلوح منها طفل صغير، بعدما اعتدلت على مقعد احترزت كثيرا حتى تجد توازنها عليه لهشاشته ،سألته عن الصورة، فقال :
ـ كنت أنتظر مجيئك ،كنت متأكدا من  أنك لابد أن تهتدي إلى هذا المكان  ذات يوم ،  و تاتي لتسألي عن صورتك ..و ها أنت بعد عشرين سنة تصلين.
ـ كيف رسمتني ، و متى ؟
ـ لقد كان يوما ممطرا ، كنت تزاحمين المسافرين لصعود القطار ، و حين أخذت مكانك ، بدوت مبللة بالمطر ، حفظت منظرك ، و عندما رجعت إلى المنزل رسمتك ..
ـ ثم بعدها بعتني طبعا  ؟ !
ـ لا و الله لم أبعك ، لقد سُرقت مني ، و لكنني أعدت رسمك من جديد ..إنني كل سنة أرسمك بالتغييرات الطارئة حسب تقديري .
   بحث بين الألواح فوجد صورها ،إنها عشرين لوحة حسب تقدمها في السن،العجيب أن اللوحة الأخيرة تطابقها في كل شيء حتى في لون اللباس .. اندهشت ، تحدثت معه مطولا و تعجبت كيف يمكن لها أن تكون طوال كل هذه الفترة إما معلقة على الجدران ، و إما مبيعة ،أو مسروقة!
     في صباح الغد شاهدها الناس بلباس المتسكعات تبيع معه الألواح القديمة المستعملة.
  

لسانيات النصّ والتبليغ بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقـــة

لسانيات النصّ والتبليغ 
بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقـــة
على الرغم من كثرة الكتب التي ألفت عن اللسانيات النصية في اللغات الأجنبية،إلا أن هذا العلم ما يزال بكراً بالنسبة إلى لغتنا العربية،ولم يتم استثماره على نحو واسع،وبقدر يسمح للدارسين العرب الذهاب بعيداً نحو الحوار العلمي الرصين،والمناقشة الموسعة حول مختلف القضايا والإشكاليات التي يثيرها هذا العلم الذي ظهر«تجاوزاً للدراسات اللسانية الجملية بمختلف توجهاتها(البنيوية والتوزيعية والسلوكية والوظيفية والتوليدية التحويلية)،ولا يعني التجاوز هنا القطيعة العلمية بين تلك التوجهات واللسانيات النصية،وإنما تطور العلوم يفترض استفادة اللسانيات النصية من كل معطيات اللسانيات الجملية،وتجاوز قصور هذه الأخيرة من حيث إن الجملة لم تعد كافية لكل مسائل الوصف اللغوي،من حيث الدلالة والتداول والسياق الثقافي العام،وكل ذلك له دور حاسم في التواصل اللغوي،وقد أخرجت اللسانيات النصية علوم اللسان من مأزق الدراسات البنيوية التركيبية التي عجزت في الربط بين مختلف أبعاد الظاهرة اللغوية،وقد اتخذت اللسانيات النصية هدفاً رئيساً ترمي الوصول إليه،وهو الوصف والتحليل والدراسة اللغوية للأبنية النصية،وتحليل المظاهر المتنوعة لأشكال التواصل النصي،ذلك أن النص ليس بناء لغوياً فحسب،وإنما يدخل ذلك البناء في سياق تفاعلي بين مخاطِب ومخاطَب،تفاعل لا يتم بجمل متراكم بعضها فوق بعض كيفما اتفق،غير متماسكة ولا يربطها رابط،ولا تدرك النصوص بوصفها أفعال تواصل فردية،بل بوصفها نتائج متجاوزة الإفراد»)1(.

            ويجمع الدارسون على أن اللسانيات هي الدراسة العلمية للغة البشرية،وهي تركز أبحاثها على اللغة،وتتخذها موضوعاً رئيساً لها،وتنظر إليها على اعتبار أنها غاية وليست وسيلة،وقد اشتهرت دعوة سوسير إلى دراسة اللغة لذاتها وفي ذاتها،وهذا ما اعتبره الكثير من الدارسين فتحاً علمياً جديداً،حيث يقول الدكتور عبد السلام المسدي مبرزاً أهمية اللسانيات:«...ومن المعلوم أن اللسانيات قد أصبحت في حقل البحوث الإنسانية مركز الاستقطاب بلا منازع،فكل تلك العلوم أصبحت تلتجئ-سواء في مناهج بحثها أو في تقدير حصيلتها العلمية-إلى اللسانيات وإلى ما تفرزه من تقريرات علمية وطرائق في البحث والاستخلاص.ومرد كل هذه الظواهر أن علوم الإنسان تسعى اليوم جاهدة إلى إدراك مرتبة الموضوعية بموجب تسلط التيار العلماني على الإنسان الحديث،ولما كان للسانيات فضل السبق في هذا الصراع فقد غذت جسراً أمام بقية العلوم الإنسانية من تاريخ وأدب وعلم اجتماع، يعبُره جميعها لاكتساب القدر الأدنى من العلمانية في البحث،فاللسانيات اليوم موكول لها مقود الحركة التأسيسية في المعرفة الإنسانية لا من حيث تأصيل المناهج وتنظير طرق إخصابها فحسب،ولكن أيضاً من حيث إنها تعكف على دراسة اللسان فتتخذ اللغة مادة لها وموضوعاً.ولا يتميز الإنسان بشيء تميزه بالكلام،وقد حده الحكماء منذ القديم بأنه الحيوان الناطق،وهذه الخصوصية المطلقة هي التي أضفت على اللسانيات -من جهة أخرى-صبغة الجاذبية والإشعاع في نفس الوقت.فاللغة عنصر قار في العلم والمعرفة سواء ما كان منها علماً دقيقاً أو معرفة نسبية أو تفكيراً مجرداً. فباللغة نتحدث عن الأشياء وباللغة نتحدث عن اللغة-وتلك هي وظيفة ما وراء اللغة-ولكننا باللغة أيضاً نتحدث عن حديثنا عن اللغة.بل إننا باللغة-بعد هذا وذاك-نتحدث عن علاقة الفكر،إذ يفكر باللغة من حيث هي تقول ما نقول.فكان طبيعياً أن تستحيل اللسانيات مولداً لشتى المعارف،فهي كلما التجأت إلى حقل من المعارف اقتحمته فغزت أسسه حتى يصبح ذلك العلم نفسه ساعياً إليها،اقتحمت الأدب والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع ثم اتجهت صوب العلوم الصحيحة فاستوعبت علوم الإحصاء ومبادئ التشكيل البياني ومبادئ الإخبار والتحكيم الآلي وتقنيات الاختزان في الكمبيوتر،وآخر ما تفاعلت معه من العلوم الصحيحة حتى أصبح معتنياً بها عنايتها به علم الرياضيات الحديثة لاسيما في حساب المجموعات،وهكذا تسنى للسانيات أن تلتحق بالمعارف الكونية إذ لم تعد مقترنة بإطار مكاني دون آخر،فهي اليوم علم شمولي لا يلتبس البتة باللغة التي يقدم بها،وفي هذه الخاصية على الأقل تُدرك اللسانيات مرتبة العلوم الصحيحة بإطلاق...» )2(. 
         وفي السياق نفسه يؤكد الدكتور محمد الحناش على أن اللسانيات فرضت وجودها على كل ميادين المعرفة الإنسانية،لأنها تبحث في أصول آلية الإنتاج العلمي التي تفرز بها كل العلوم:اللغة،فقد استطاعت إعادة هيكلة ومنهجة جل العلوم الإنسانية الحديثة وجعلتها سهلة التناول كما جعلت المثقف يجدد نفسه باستمرار ،فدور«اللسانيات الحديثة هو إعادة هيكلة قواعد النحو العربي من منظور جديد فتقدمها بطرائق أخرى تكون أكثر ملاءمة مع التطور الذي حصل في المجتمع العربي،وهذا التمنهج لا يعني الانتقاص من قيمة التراث اللغوي بل هو تأكيد لقيمته لأن نقطة الانطلاق سوف تكون هي التراث،ونعتقد أن اللسانيات ستمكن القارئ العربي للتراث أن يموضع نفسه في موضع قوة من حيث إنه سوف يتطرق إليه بأداة علمية ومضبوطة يحسن تقديمه للآخرين بطرائق سهلة تمكنهم بدورهم من إعادة قراءة التراث ومسايرة ركب التطور،وخلاصة هذا هي أن التراث واللسانيات الحديثة يجب أن يدخلا في علاقة الألفة والتمنهج وبذلك تدخل الأصالة والمعاصرة في تحالف لا ينفك إلا بعد أن يكتمل المنهج اللغوي الذي نرجوه لهذه الأمة»)3(. 
            وبالنسبة إلى مراحل دخول اللسانيات إلى الثقافة العربية الحديثة فالدكتور مصطفى غلفان يذكر أن الدراسات اللغوية العربية الحديثة قطعت أشواطاً هامة نحو الضبط والدقة بعد مراحل عديدة من المخاض والنمو،وقد أجملها فيما يلي:
«أ-إرسال البعثات العربية إلى الجامعات الغربية.
ب-القيام بدراسات جامعية أو أطروحات من قبل طلاب عرب في جامعات أوروبا وأمريكا بالخصوص  تناولت وصف الواقع اللغوي العربي من وجهة نظر مختلف المدارس اللسانية الغربية،وما زالت هذه العملية قائمة إلى اليوم.
ج-إنشاء مجموعة من الكراسي الخاصة بعلم اللغة كما هو الشأن في الجامعات المصرية،وقد تم تدريس علم اللغة في جامعات عربية أخرى كسوريا والعراق تحت اسم فقه اللغة.
د-ظهور كتابات لغوية تعرف بعلم اللغة الحديث وتشمل مؤلفات وكتباً صنفها أصحابها بالعربية رأساً وتناولت مفاهيم ألسنية بالتبسيط والتقديم التعميمي،نذكر منها على سبيل التمثيل كتاب وافي(علم اللغة)1941م وتمام حسان في(مناهج البحث في اللغة)الصادر سنة:1955م ،و(اللغة بين المعيارية والوصفية)الصادر سنة:1957م،و(علم اللغة:مقدمة للقارئ العربي)لمحمود السعران الصادر سنة:1962م.
هـ-ظهور ترجمة عربية لبعض المقالات اللسانية وتلاها عدد ضئيل من التراجم العربية لأهم المؤلفات الغربية المتعلقة بالألسنية العامة،في هذا السياق كانت ترجمة مندور لمقال مايي(علم اللغة)سنة:1946م،وترجمة كتاب(اللغة)لفندريس سنة:1950م،وإنشاء مراكز علمية خاصة بالبحث اللساني كما هو الحال في تونس سنة:1964م،والجزائر سنة:1971م.
و-تنظيم ندوات ولقاءات علمية محلية وجهوية ودولية في مجال اللسانيات وكان للسانيي تونس والمغرب دور بارز ومشكور في تنظيم مثل هذه الندوات.
ز-إنشاء تخصصات قائمة الذات في اللسانيات العامة بكليات الآداب بالجامعات العربية،لاسيما في تونس والمغرب اللذين يتميزان عن غيرهما من دول العالم العربي في هذا المجال»)4(.  
         و يرى الدكتور  مصطفى غلفان في تقييمه لواقع البحث اللساني في الوطن العربي أنه ينبغي الاستعجال بالتركيز على قضيتين أساسيتين،وذلك بغرض إرساء تفكير لساني علمي بالنسبة إلى اللغة العربية:
        أولاً:وضع برنامج عام بالنسبة إلى مستقبل لسانيات العربية تُحدد من خلاله المهام الملقاة على عاتقها أو التي يتوجب البحث فيها بشكل جماعي ومؤسساتي مثل:معاهد البحث و الكليات المتخصصة،ووفق رؤية الدكتور غلفان أنه باستثناء أبحاث عبد القادر الفاسي الفهري وتلامذته في إطار تطبيق النحو التوليدي على اللغة العربية،وأبحاث أحمد المتوكل في إطار إعداد نحو وظيفي للغة العربية،فليس لدينا كما هو الشأن في مختلف بقاع العالم،و بالنسبة لجميع اللغات البشرية رؤى واضحة تتصل بالقضايا التي ينبغي دراستها من منظور اللسانيات في لغتنا العربية.
        ثانياً: تحديد طبيعة لسانيات العربية انطلاقاً من تحديد تصوري ونظري لموضوعها،ويذهب الدكتور غلفان في توضيحه لهذه القضية إلى التأكيد على أننا في حاجة إلى حركة لغوية علمية جديدة تقوم على رصد خصائص وسمات اللغة العربية التي يتعين البحث فيها عبر مختلف المستويات،فالدرس اللساني العربي الحديث والمعاصر-كما يرى الدكتور مصطفى غلفان- يفتقد في مجمله إلى رؤية منهجية تحدد طبيعة اللغة العربية من حيث هي موضوع للدرس والتحليل،أي باعتبارها مصدراً للمعطيات المادية التي يشتغل بها اللسانيون العرب المحدثون أو التي يفترض أن يشتغل بها هؤلاء،فالدرس اللساني العربي هو في حاجة إلى تأسيس نظري لموضوعه،وذلك حتى يستجيب لإحدى أهم المتطلبات المنهجية في البحث اللساني العام والمتمثلة إجمالاً في تحديد مجموع الأدوات المعرفية والتقنيات التي تستخدمها اللسانيات لتحديد موضوعها والبحث فيه،ويشير الدكتور غلفان إلى أنه بحسب وجهة النظر التصورية المتبعة في التحليل اللساني، فإن موضوع اللسانيات هو المتن بالنسبة للبنويين،وهو حدس المتكلم بالنسبة إلى المدرسة التوليدية وغيرها من التيارات اللسانية المعاصرة،وما هو أهم في الفترة المعاصرة هو التقيد المطلق بالأسس اللسانية وخطواتها وإجراءاتها كما هي باعتبارها تشكيلة نظرية ومنهجية متكاملة.
            ومن جهة أخرى يرى الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري أن الكتابات اللسانية العربية الحديثة هي عبارة عن خطاب لساني هزيل نظراً لافتقادها لمقومات الخطاب العلمي،ويُرجع هزالة الإنتاج العربي في ميدان اللسانيات إلى عدد من المغالطات التي ترسخت في أذهان الباحثين  العرب،ومن أبرزها:
1-التصور الخاطئ للغة العربية.
2-التصور الخاطئ للتراث.
3-ادعاء العلمية و المنهجية.
4-أزمة المنهج واللغة الموصوفة.
         ويعد كتاب«لسانيات النص والتبليغ»للباحث الجزائري الدكتور عبد الجليل مرتاض واحداً من الكتب والدراسات الجادة والمتميزة التي خطت خطوات هامة في مناقشة مختلف القضايا العلمية والمفاهيم الأساسية التي يثيرها هذا العلم الذي لقي صدودا من قبل مختلف الباحثين والدارسين العرب،ولم يحظ بالعناية الكافية.
  ينقسم كتاب الدكتور عبد الجليل مرتاض إلى بابين،في كل باب نلفي ثلاثة فصول.
         الباب الأول من الكتاب موسوم ب«التحليل اللساني للنص والخطاب»،وقد حاول فيه المؤلف أن يتلمس الفوارق ما بين المدونة والنص،فأشار إلى أن المدونة غالباً ما يُراد بها عينة من عينات البحث اللغوي، أو متن أو مادة لغوية،ويرى أن هذه التعريفات،وما سار في موكبها لا تُفرق بين مدونة متصلة بما هو خطي أو منطوق أو مرئي غير لساني،ويذهب الدكتور عبد الجليل مرتاض إلى أنه«ما من شيء يُرى أو يلمس أو يُحس أو يتخيل إلا ويمكن صياغته أو تصور عينة من عيناته،غير أنه من اللامعقول أن نعتبر جملاً أو فقرة أو صفحة من عمل فني أو إبداعي لا يعدو أن يكون نموذجاً أو نمطاً مثله مثل عينة تؤخذ من كوكب أو معدن أو جسم ما،فهذه كلها عينات مادية وثابتة إلى حد ما،ولا تُفسر إلا تفسيراً مشتركاً في نهاية كشفها واتضاحها وإخضاعها للدراسة العلمية والمخبرية والتجربة العلمية،في حين أن المدونة اللسانية عيناتها غير مادية،وما يفصح عنها متحرك في مداليله وثابت في دواله الصوتية الملفوظة أو المخطوطة،وعادة ما تخضع قراءتها إلى التأويل لا إلى الوصف والتفسير،ولها من المميزات الذاتية والتي لم يحملها العقل الإنساني حتى الآن،ما يمكنها من الحران،باعتبار الأدوات التي نسجت بها شفهياً أو خطياً أبعد غوراً من الإدراك السطحي لأي دارس هاو أو لساني مختص»)5(.
          ويؤكد الدكتور عبد الجليل مرتاض من جهة أخرى على أن متلقي المدونة لا يتلقى نظاماً أو حتى جزءاً من هذا النظام،لأن اللغة في ذاتها متعددة الأنظمة،والأمر يتوقف قبل كل شيء على المستويات الخطابية التي يتلقاها،أي على التراكيب المختلفة،لأنها مهما سمع السامع ما سمع فإنه لا يستطيع أن يحيط بكل التكلمات الفردية التي يسمعها،ففي هذه الحالة يلجأ إلى فرز التراكيب وانتقائها،ويلفي المتلقي نفسه أمام فردية علنية من الكلام لا أمام نظام لغوي قائم بذاته،فلا يمكنه أن يقف على كل التراكمات الخطابية أو الصور الشفوية الموزعة بين الأفراد،ويستشهد الدكتور عبد الجليل مرتاض في هذا الصدد بقول ملارمي:«إننا لا نصنع الأبيات الشعرية بالأفكار،بل نصنعها بالكلمات»،وبقول الجاحظ:«المعاني مطروحة في الطريق»،ويرى أن جان كوهين هو أوضح ناقد لساني تحدث عن هذه القضية، حيث يقول:«وعندما يخلق الشاعر إذاً استعارة أصيلة،فإنما يخلق الكلمات،وليس العلاقة،إنه يجسد شكلاً قديماً في مادة جديدة،وهنا يكمن إبداعه الشعري،فقد أعطيت الطريقة،وبقي أن تستعمل...،إن الصور الإبداعية ليست جديدة في شكلها،بل في الكلمات الجديدة التي جسدتها فيها عبقرية الشاعر لا غير،قد يحدث أن يعاد استعمال بعض هذه الإنجازات،فتسقط لذلك إلى مستوى الاستعمال،نحصل حينئذ على هذه الصور الاستعمالية حيث الشكل والمادة،العلاقة والكلمات متوفرة سلفاً».
          وقد انتقى الدكتور عبد الجليل مرتاض في الفصل الثاني من هذا الباب مدونة شعرية جاهلية للنابغة الذبياني،وقام بتحليلها تحليلاً تعليمياً ودلالياً،وفي الفصل الثالث الذي وسمه ب«التحليل الخطابي وأضربه في النص»،تحدث المؤلف عن الأبعاد الثلاثية للخطاب،والذكاء السردي في النص.
            وفي الباب الثاني من الكتاب انتقل المؤلف للحديث عن«النظريات اللسانية للوظيفة والتبليغ»،فتطرق في البداية إلى مفهوم التبليغ الذي لا تتردد بعض الموسوعات اللسانية الحديثة في تعريفه على أساس أنه تواصل كلامي يندرج في إطار تبادل كلامي من فاعل متكلم ينتج ملفوظاً موجهاً نحو فاعل متكلم آخر يرغب فيه مكالم أو محادث سماعاً له،أو إجابة عليه بشكل صريح أو ضمني تبعاً لنمط الملفوظ المراد تبليغه إلى الفاعل المتكلم الآخر،وفي علم النفس اللغوي فسيرورة التواصل اللغوي ترتبط دلالاتها بالأصوات المتواضع عليها والمعتاد سماعها دون زيادة أو نقصان أو تغيير ،و تعرفه نظرية التبليغ  بأنه نقل رسالة أو إرسال معلومة بين مُصدر يصدرها أو باث يرسلها ومستقبل بفضل مُرسلة منتشرة عبر قناة،ويمكن تشبيه هذه العملية الاتصالية بالتبليغ الهاتفي،وقد استشهد الباحث عبد الجليل مرتاض بمنظور قيرو لنظرية التبليغ،حيث يذهب إلى أنه في التبليغ ليس هناك إلا تحويل لشكل مسجل في ماهية أو فحوى خطاب،كما هو الشأن مثلاً في الأشكال البصرية فالخط الهاتفي ينقل طاقة،والرسالة تنقل أشكالاً خطية،ويؤكد قيرو على أن التبليغ لا يتوطد في مستواه الدلالي إلا في نطاق ما يمتلك كل من الباث والمستقبل من رموز مشتركة بغرض ترميز وتفكيك المراسلة،وهنا يتحول الباث مستقبلاً،والمستقبل باثاً بصورة ضمنية أو آلية،أي يعمل الباث في حسبانه أنه مرسل إليه لا مرسل،وأهم ما أكده جيرولد كاتز أن متكلمي اللغة يتقنون استعمالها لأنهم يعرفون قواعدها،وبما أن التواصل اللغوي مسار يكون المعنى الذي يقرن به المتكلم الأصوات هو نفس المعنى الذي يقرن به المستمع الأصوات نفسها،حيث يكون من الضروري استخلاص أن متكلمي لغة طبيعية معينة يتواصلون فيما بينهم في لغتهم،لأن كلاً منهم يمتلك بصورة أساسية تنظيم القواعد نفسه،ويتم التواصل لأن المتكلم يرسل مرسلة عبر استعمال القواعد اللغوية نفسها التي يستعملها المستمع إليه لكي يلتقطها،وقد نبه رومان جاكبسون إلى أن اللغة يجب أن تُدرس في كل تنوع من تنوعات وظائفها،فقبل التعرض إلى الوظيفة الشعرية لابد من تحديد ماهية مكانها من بين الوظائف الأخرى للغة،وذلك لإعطاء فكرة عن الوظائف الأخرى تتصل بالعوامل المكونة لكل مسار لغوي إزاء كل تواصل لغوي،فالمرسل يرسل مرسلة لمرسل إليه،وحتى تكون هذه المرسلة عملية،فإن المرسلة«تقتضي قبل أي شيء سياقاً تحيل عليه(والمسمى أيضاً تسمية لا تخلو من غموض-المرجع-)،وهذا السياق قابل لأن يُفهم من قبل المرسل إليه،سواء كان كلامياً أو محتملاً لأن يكون كلاماً،ثم تأتي المرسلة التي تتطلب سنناً مشتركاً كلياً أو أقله جزئياً بين المرسل والمرسل إليه(أو بعبارات أخرى بين ترميز المرسلة وتفكيكها)،على أن تتطلب المرسلة أخيراً اتصالاً وقناة فيزيائية وارتباطاً سيكولوجياً بين المرسل والمرسل إليه،ويسمح هذا الاتصال بإقامة واستمرار التبليغ،هذه العوامل المختلفة للتبليغ الكلامي،و التي لا تقبل التجزئة يمكن بيانها بالمخطط التالي:مرسل –سياق-مرسلة-مرسل إليه-اتصال-سنن.
        كل عامل من بين هذه العوامل الستة يعطي ميلاداً لوظيفة لغوية مختلفة،ولنقل مباشرة إذا كنا نميز هكذا المظاهر الستة الأساس في اللغة،فإنه يكون من الصعب إيجاد مرسلات تؤدي وظيفة واحدة وحسب،بسبب أن تنوع المرسلات لا يكمن في احتكار وظيفة أو أخرى،بل في تبايناتها التدريجية فيما بينها،ذلك أن البنية الكلامية للمرسلة تخضع قبل كل شيء إلى الوظيفة المهيمنة،بل حتى لو كان تركيز الإحالة مصوباً نحو السياق-والمقول له الوظيفة التعينية،الإدراكية، المرجعية-هو المهمة السائدة في عدة مرسلات،فإنه ينبغي على اللساني اليقظ أن يأخذ بعين الاعتبار الاشتراك الثانوي لوظائف أخرى»)6(.
            وبناءً على ما أشار إليه جاكبسون،فالوظيفة المسماة سحرية أو تعزيمية،يُمكن أن تُفهم كتحويل لشخص ثالث غائب أو شيء غير متحرك إلى مستقبل لمرسلة ندائية،وقد قدم عدة أمثلة من الجمل،وأوضح الوظائف القطبية الثلاث،تعبيرية،وتحريضية،ومرجعية،وهي توجد في ثلاثة أنماط من الشعر:
1-الشعر الغنائي حيث الشاعر يطلق العنان لمشاعره.
2-الشعر الرثائي المغمور بالحث على التوبة.
3-الشعر الملحمي الذي يسرد تفاصيل الأعمال الباهرة لبطل من الأبطال.
               في الفصل الأخير من الكتاب تساءل الدكتور عبد الجليل مرتاض عن كيفية اشتغال الآلة الوظيفية في اللغة،وكما يذهب الكثير من اللسانيين فلفظة(الوظيفة) لسانياً تم تداولها من قبل رواد ومؤسسي حلقة(براغ)،ومنذ ذلك العهد انتشرت وما تزال مستعملة إلى أيامنا هذه،وهي تعني كل استعمال لغوي يتخذ دلالات متنوعة جداً على مستوى تحليل الجملة،فالعناصر اللسانية تتميز بتنوع استعمالها،وذلك بوساطة علاقاتها الحصرية فيما بينها،فوظائفها تتشابه في جوانب،وتتباين في جوانب أخرى،وقد استحدث ميشال ريفاتير الوظيفة الأسلوبية التي تضاف إلى الوظائف الست التي أبرزها جاكبسون،فريفاتير قام بتوسيع التصورات التي أضفاها جاكبسون على الوظيفة الشعرية،وقد اقترح تعريف أدبية جملة من الجمل  بناءً على ثلاثة شروط:
1-تحدُّد تضافري:قاصداً بهذا المصطلح أن العلاقات بين عناصر  الجملة محددة و تضافرية من خلال نسخ بينصي،أو محاكاة لغوية أو استقطاب دلالي أو جعل نظام وصفي ينتقل لطور الحقيقة.
2-تحويل،يقصد به هنا أن الجملة الأدبية وحدة عناصرها الدالة كلها معرضة للتأثير من خلال التعديل لعامل واحد.
3-التوسيع:ويشير به إلى أن التوليد يتم عبر تحويل لدافع جلي بدافع مضمر.
     وهناك من اللسانيين من ذهب إلى أن اللغة لها وظيفة واحدة،ومن بين هؤلاء دونيز وفردريك فرانسوا حيث أكدا على أن اللغة في واقعها الأكثر التحاماً نظرياً تتميز بوظيفة واحدة،وهي وظيفة التبليغ التي نلفيها في كل الملفوظات المتلفظ بها.
  الهوامش:
(1)يُنظر:د.رشيد عمران:تجليات النظرية اللسانية النصية في الخطاب النقدي العربي القديم-التحليل النصي للباقلاني نموذجاً-،مقال منشور في مجلة الرافد،العدد:176،جمادى الآخر1433هـ/أبريل2012م،ص:08.
(2)  يُنظر:التفكير اللساني في الحضارة العربية،الدار العربية للكتاب،ليبيا،ط:02، 1986 م،ص:9-10 . 
(3)  يُنظر:البنيوية في اللسانيات،دار الرشاد الحديثة،الدر البيضاء،المغرب الأقصى،ط:01،1980  م ،ص:6 .
(4)  يُنظر:اللسانيات في الثقافة العربية الحديثة-حفريات النشأة والتكوين-،شركة النشر والتوزيع المدارس،الدر البيضاء،المغرب الأقصى،ط:01،2006  م ،ص:146-147 .
(5)د.عبد الجليل مرتاض:لسانيات النص والتبليغ،منشورات دار الأديب،الجزائر،2012م،ص:04.  
(6)د.عبد الجليل مرتاض:لسانيات النص والتبليغ،ص:96.