استلاب
الذات وقهر العشيرة
قراءة
في مجموعة (قافلة العطش) لسناء الشعلان
أحمد طوسون
تصدر لنا سناء الشعلان في مجموعتها (قافلة العطش)
عوالم قصصية تحتفي بالحب بوصفه جوهراً وقيمة إنسانية عليا، تمثل العلاج والخلاص
لذات الفرد التي تعاني استلابا وقهرا من المجتمع الذي مازال تحكمه مجموعة من القيم
التي ترجح
على إنسانية الفرد، وترسخ لعطش الذات وحرمانها من التحقق الإنساني (الأنثى أو
الذكر – لا فرق) وتزيحه إلى الوراء وتعلي من شأن المجموع على حساب أية قيمة أخرى.
ومن خلال موقف العطش للحب والرغبة في الإشباع
الروحي والمادي للذات للخروج من أسر الاستلاب تظل شخوص سناء الشعلان في بحث محموم
للوصول إلى ارتواء سيكون بالتبعية صادما ومتصادما مع قيم المجتمع باختلاف صوره
البدوية منها والحضرية.
يبرز هذا المعنى بوضوح في قصة (قافلة العطش)
التي اتخذت الكاتبة عنوانها عنوانا دالا للمجموعة.. إذ يركز القص على الصراع
الناشب بين نوعين من القيم، قيم القافلة التي تحدد أهدافها في استعادة كرامة
القبيلة التي أهدرت بأسر النساء في الغارات على مضاربها والحفاظ على الأعراض
وصونها وجمع الشتات وفك الأسيرات.
وقيم الفرد الذي تسعى ذاته للتحقق الإنساني من
خلال إشباع عطشها للحب والعشق.. والذي بدوره يصنع اختلافا في المفاهيم المتعارف
عليها بين الفرد وبين القبيلة، فبينما الذات تجد حريتها في تحقق الحب وإشباعه.. فتتخلى
بطلة القصة عن حريتها المادية بإرادتها من أجل ما هو أكبر وأعظم، حيث الوصول إلى
مطلق الحرية المادية والروحية في إشباع عطشها إلى الحب، (كانت على وشك أن تعتلي
هودجها، بقبضته القوية، منعها من إكمال صعودها وقال بمزيد من الانكسار: من
ستختارين ؟ نظرت في عينيه: " أنا عطشى... عطشى كما لم أعطش في حياتي".. اقترب
البدوي الأسمر خطوة أخرى منها، كاد يسمع صهيلها الأنثوي وقال: عطشى إلى ماذا ؟. قالت
بصوت متهدج: عطشى إليك... (1).
فالبطلة اختارت البقاء إلى جوار البدوي
الأسمر وفي أسره لتحقق حريتها الأنثوية وتحققها الإنساني بإشباع عطشها الجارف إلى
الحب والهرب من أسر آخر أشد وطأة، أسر القبيلة بتقاليدها وقوانينها وقيودها.
أما القبيلة فترى في فك الأسر المادي تحقق
لمفهوم الحرية بنظرها، ولا تستطيع أن تتفهم دوافع بطلتها حتى وإن اشتركوا معها-
كأفراد - في حالة العطش إلى الحب، لكنهم كبتوا مشاعرهم واستسلموا لأسر الأفكار
بجدرانه التي تحجب القلب والعقل.. (صرخ الأب: خائنة، ساقطة، اقتلوها، لقد جلبت
العار لنا. كيف تختارين آسرك على أهلك ؟!)(2).
هذي المنظومة من الأفكار التي تحكم
القبيلة تجعل من تساؤله في المقطع السابق سؤالاً انكارياً لتصرف البطلة وتعليليا
لتطرف الأفكار الذي يجعل القبيلة تصم كل من يختلف معها بالخيانة وتحكم عليه بالقتل
المادي والمعنوي في سياق فني سري بالدلالات.
والمفارقة أن منظومة القيم هذه تتخذ من العطش
إلى الحب ذريعة للمنع والحجب والمصادرة، بدلا من تشابك الأفكار وتحاورها، ليطال
المنع ما يختلج النفوس من مشاعر ويصادر ما قد يحمله الغد من تباشير لأفكار جديدة
ومختلفة، تمثلت في وأد الطفلات وهن صغيرات، خوفا أن يكبرن يوما ويكررن فعل البطلة
بالنص.. (شعرت القافلة بأنها محملة دون إرادتها بالعطش إلى الحب والعشق، لكن أحدا
لم يجرؤ على أن يصرح بعطشه، عند أول واحة سرابية ذبح الرجال الكثير من نسائهم
اللواتي رأوا في عيونهن واحات عطشى، وعندما وصلوا إلى مضاربهم وأدوا طفلاتهم
الصغيرات خوفا من أن يضعفن يوما أمام عطشهن)(3).
والسارد داخل النص يكشف عن انحيازه لقيم الفرد
في مواجهة قيم القبيلة باستخدام ما يمكن أن نسميه تقنية المتن والحاشية.. فالمتن
يتمثل في توصيف الحدث الأساس بالقصة.. والحاشية تتمثل في تدخل الساردة بالتعليق
الذي لا يخلو من دلالات واضحة، فالساردة من البداية تستهل القصة بتعليق يبين
أدانتها المسبقة للقبيلة ومفاهيمها واعتقاداتها.. (كانوا قافلة قد لوحتها الشمس
وأضنتها المهمة واستفزها العطش، جاءوا يدثرون الرمال وحكاياها التي لا تنتهي
بعباءات سوداء تشبه أحقادهم وغضبهم وشكوكهم.)(4).
وتنهي النص بحاشية أخرى تؤكد إدانتها للقبيلة
التي لا هم لها إلا ترسيخ عطش الذات واستلابها.. (العطش إلى الحب أورث الصحراء
طقسا قاسيا من طقوسها الدامية، أورثها طقس وأد البنات، البعض قال إنهم يئدون
بناتهم خوفا من الفقر، لكن الرمال كانت تعرف أنها مجبرة على ابتلاع ضحاياها
الناعمة خوفا من أن ترتوي يوما)(5).
التصادم بين قيم الفرد وقيم المجتمع يبدو واضحا
في قصة (سبيل الحوريات)، فافتقاد البطلة إلى الحب (موتيف العطش) يؤدي إلى عدم
تكيفها مع المجتمع وخروجها عن تقاليده وقوانينه، بالمقابل ينظر إليها المجتمع على
إنها مجنونة لعدم إيمانها بقيمة وتقاليده، ويظل المجتمع يمارس دور المتفرج السلبي
تجاه الفرد الذي يعاني اغترابا واضحا عن المجتمع بقيمه ورؤاه، وتظل الذات في
استلابها وتشيؤها أسيرة الوحدة والاغتراب. ولا تملك (هاجر) بطلة القصة من سبيل
لمقاومة قهر المجتمع (بسلبيته)- (هي مجنونة اسمها هاجر المجنونة، لا أحد يعرف عنها
أكثر من ذلك، نهاراتها تقطعها بين سبيل الحوريات وفي الليل تتكور في ركن منه وتنام
ملء شواردها، لأكثر من مرة حاولت شرطة المدينة أن تبعدهاعن المكان لانها تسيء الى
السياح الذين يقصدونه، لكنها تعود........ ولم يعد أحد معنيا بابعادها، حتى الشرطة
نسيت الأمر)6 - إلا التعري الذي يفضح الغضب ويبدو كصورة لنفي العالم حولها
والتعامل معه ومع مكوناته بعدم انتماء حقيقي وبخوف مصحوب بفزع، وتصبح مظاهر الجنون
وسيلة للحفاظ على الذات وإن استمرت معاناتها ويكشف تعري هاجر تعري المجتمع من
القيم التي تعلي من شأن الفرد وحقه في الحياة الكريمة و الحب الذي يصبح في كثير من
الأحوال مرادفا للحرية.
لذلك حينما تقابل هاجر ذاتا أخرى لفنان يعيش
اغترابا ما مع المجتمع، لكن ذاته الفنانة بما تملكه من قيم حب وخير ورغبة بالحياة،
تنتشل هاجر من استلابها وتتوافق مع ذاتها مرة أخرى بعد أن تحقق إشباعها المادي
والمعنوي.. (دخلت هاجرإلى الشقة بكل رضى وسعادة ولم تخرج منها أبدا واختفت هاجر
وافتقدها سبيل الحوريات وإن لم يفتقدها أحد آخر، لأن المجانين لا يفتقدهم الناس)(7).
هذا التصادم والصراع يأخذ شكلاً مغايراً
في قصتي (تيتا) و (تحقيق صحفي).. حيث يدور الصراع في القصة الأولى بين الطبيعة
بعفويتها متمثلة في تيتا التي تفتقر إلى المدنية والتحضر لكنها تملك الأيمان بحب
الحياة وتؤمن بالطبيعة بعفويتها الجامحة وقدرتها على مداواة الأمراض، تلك الطبيعة
التي نجحت في الأفلات من سطوة المدنية وقيودها وأدرانها، في مواجهة العلم المتمثل
في الطبيب الأوربي الأشقر، صراع تم تناوله في كثير من الكتابات العربية لعل أشهرها
رائعة يحيى حقي (قنديل أم هاشم)، لكن الساردة في النص تنحاز انحيازا كاملا للعشق
والحب، لعفوية الطبيعة وبراءتها البكر وقدرتها على أرواء العطش الكامن بالنفوس، فالعلاقة
التي تبدأ بكراهية الطبيب لتيتا ولخرافاتها تنتهي بإستسلام الطبيب لساحرته الجميلة
وإيمانه بخرافتها لينتصر الحب.. (خطا خطوتين الى داخل خيمتها، كان يتفرس في
قسماتها بنظرات جائعة، قالت له بتلعثم وبشجاعة مزعومة: ها قد جئت إذن، هل أقرأ لك
كفك ؟ قال: بل جئت لأخطفك يا ساحرتي الجميلة.)(8).
وكذلك الحال في قصة (تحقيق صحفي) تهجر البطلة
زوجها وعملها وحياتها ومدنيتها بعد أن صادفت في رحلة عملها إلى أرض تيغمار
بالصحراء الغربية الحب الذي لاتقيده القيود، الحب الخالص الذي انتظرته وظلت تحلم
به.
حب يوحد الموجودات:
تقدم سناء الشعلان في مجموعتها بانوراما
متعددة المشاهد للحب والعشق، لكن الحب الذي يربط بين الرجل والمرأة في النصوص حب
أسطوري يمثل البؤرة التي تنسج حولها البنى السردية، لكنه ليس الحب المتعارف عليه
في العلاقة ما بين الرجل والمرأة.. إنه حب تصنعه مخيلة شخوص النصوص وأحلامهم، ويصبح
مخلوقا له صفاته الأسطورية وحياته المادية والروحية، من أجل ذلك تسعى شخوص الكاتبة
لترصده ومناجاته وعلى استعداد لتقديم حياتها قربانا لمخلوقهم الذي يعني الوصول
إليه والأمساك به الوصول إلى اكتمال يهبهم خلودا.
لكن الحب بطبيعته مراوغ، ذو لمحة صوفية تنطوي
على أن الشيء يحمل داخله نقيضه، فتمام اكتماله نقصان وفي نقصانه اكتمال.
ويتسع معنى الحب داخل النصوص إلى آفاق أبعد تصل
به إلى بعد روحي يوحد بين الموجودات بأشكالها كافة، من بشر وجماد وآلهة أسطورية، يذيب
ما بينها من فوارق ويصهرها في بوتقته، ينزل بالألهة إلى مصاف البشر ويصعد بالبشر
إلى مصاف الألهة.. يحول الجمادات إلى كائنات من دم ولحم ويضفي عليها شيئا من
انسانيته، ويجمد البشر إلى كائنات شمعية بلا قلب.
فلا نجد فارقا كبيرا ما بين عطش خيال
المآته في قصة (الفزاعة) الذي عاش مصلوبا في أرض معشوقته، وكيف نجحت دندنات
معشوقته ولمساتها العفوية أن تجعل الحياة تدب في أوصاله، وتهبه قلبا ينبض بالحب
والغيرة فيتخلى عن صفاته كجماد ليصبح كائنا من مخلوقات الحب والعشق. أو مابين بطل
قصة (زاجر المطر) الذي يتخلى عن انسانيته ليتحول إلى كائن شمعي مختارا، اشباعا
لعطشه إلى الحب بعد أن صادفه العشق مع مخلوقته الشمعية.
والبنى السردية في قصتي (الفزاعة) و(زاجر
المطر) تعتمد على التماس والتقاطع والنسج المغاير مع أسطورة بجمليون الذي تروي
القصص عنه أنه أعجب بتمثال من العاج لأفروديتي نحته بنفسه فشغفه حبا ورجا الألهة
أن تهبه الحياة، فلما أجابت الألهة رجاءه تزوج التمثال الذي صنعه بيده.
كذلك يتلاشى هذا الفارق بين الكائنات في قصة
(رسالة إلى الإله)، فيتساوى عطش الإله زيوس كبير آلهة الأغريق للحب مع عطش البطلة
داخل النص للعشق، فالعشق يذيب الفوارق ما بين البشر والآلهة.
فكما جعلها العطش إلى العشق تكفر بزيوس الأله
بما يمثله من قوة وسلطة لاتمس، وبما يملك من جبروت قادر على أن يهبها العشق المطلق،
وتلعنه.. (أمسكت بدواة وقرطاس وجلست إلى طاولتها الخشبية وكتبت بغضب وتحد يناسبان
يأسها وإن لم يناسبا طبعها واستكانتها: رسالة إلى زيوس... أنا وحيدة... اللعنة
عليك كيف تتركني أعاني من كل هذه المعاناة ؟ أريد حبا واحدا يملأ ذاتي، يهصر
أشواقي وذاتي، يسكن ما بيني وبين جسدي، أريد حبا يقتلعني من أحزان جسدي ووحدة
ساعاتي، أريده حبا قويا جبارا لا يعرف الألم، أريده حبا يمسك بتلابيب روحي ويخلق
حشرجات دامية في نفسي، اللعنة عليك، استجب لي ولو لمرة واحدة)(9).
العطش ذاته جعل زيوس يكفر بصفاته
الألوهية ويتمنى أن يصبح عبدا لإله آخر قادر على أن يهبه حبا حقيقيا واحدا.. (في
لحظات قدرها البشر بآلاف السنين من صمت الإله زيوس واحتجابه دونهم، تذكر كل من عشق
من نساء والآهات، كانت سلسلة طويلة من العشق والعشيقات، عشق هيرا، ويوربا، ولاتوفا،
وإنتيوبي، وديون، ومايا، وتيمس، و يورنيوم، ومنيوزين، و أورينوما، وسيميلي الجميلة،
والكمينة، وداناي، وليدا، والكثير الكثير من اللواتي نسي أسماءهن. ذاق آلاف النساء،
عرف كل آهات وانكسارات العشق، ولكنه ما زال يتمنى العشق، ما زال يحلم بلحظة حب، تمنى
لو كان له هو الآخر إله ليرسل إليه رسالة يتضرع فيها كي يذيقه العشق الحقيقي ولو
لمرة واحدة في الحياة.)(10).
هذا الإله الذي يتوق الى الحب أجاب استغاثة الإنسية
وخلق لها هاديس إله الموت ليقبض روحها، في دلالة واضحة وكاشفة.. كما إنه لم يستسلم
لحالة الضعف التي داهمته وقهر رغبة العشق بالشرب وبأوامر زاجرة تمنع وصول رسائل
العشاق إليه، بينما الأنسية واجهت مصيرها برضاء.
وما يلفتنا في النهاية أن الكاتبة تعتمد في أغلب
النصوص على بنية سردية ذات طابع إخباري، السارد فيها من خارج النص يدير دفة الحدث
ويوجهه و اللغة شاعرية تحتفي بالجماليات التقليدية للسرد.
هوامش البحث:
1-
سناء
الشعلان، قافلة العطش، ط1، مؤسسة
الوراق للنشر والتوزيع بدعم من أمانة عمان الكبرى، 2006، ص12
2-
السابق: ص12
3-
السابق: ص13
4-
السابق: ص9
5-
السابق: ص13
و14
6-
السابق: ص33
7-
السابق: ص36
8-
السابق: ص43
9-
السابق: ص20
و21
10-
السابق: ص23
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق