الصفحات

2008/06/04

فصـــــــــل 2/1

فصـــــــــل 2/1
أحمد طوسون
حضرة الناظرة دخلت فصلنا ، كل مرة تأخذ واحدا منا وتخرج، ثم تعود بمفردها لتأخذ آخر.
أبلة بشات مدرسة الحساب تركت الكتاب والطباشير وقالت:
- قيام
حضرة الناظرة لم تكن معها ابتسامتها الطيبة حين قالت:
- جلوس
بدت شاحبة وهزيلة على غير عادتها، تتكلم مع أبلة بشات وتتساقط قطع المرارة المكتنزة بعينيها قطرات صغيرة على الأرض.
البنت ميرفت تنقل الدرس من السبورة إلي كراستها وحسام خطف سندوتش نجوى..
حضرة الناظرة نادت على أسمي فوقفت، وتوقفت ميرفت عن نقل الدرس، وترك حسام سندوتش نجوى.
حضرة الناظرة قالت للأولاد في الفصل:
- قولوا لزميلكم مع السلامة.
ميرفت لم تقل - مع باقي الفصل - مع السلامة ، أبلة بشات ضمتني إليها ونظرت إلي حضرة الناظرة ومسحت دمعة سحت من عينيها وقالت:
- كان أشطر ولد في الفصل!
***
كل صباح انتظرها عند آخر شارعنا ، تتشابك أصابعنا الصغيرة ونطوح بأيادينا عاليا حتى تلامس السماء.
في الميدان نلتقي وباقي الصحاب ننتشر ونتسابق كجرذان فزعة حتى باب المدرسة.
منذ فترة يحرص الآباء والأمهات على اصطحابنا إلى باب المدرسة، ننفلت من أياديهم الخشنة ونقفز إلى الساحة، أظل أبحث عنها بين الرؤوس السوداء الصغيرة حتى نلتقي في طابور الصباح وتقف بجواري.
على درجات السلم تفلت مني وتسبقني إلي احتلال مكانها بمقعدنا المشترك ولا نفترق إلا عند أول شارعنا آخر النهار.
اليوم عندما أخذتني حضرة الناظرة من الحصة الثانية، سألتني ميرفت:
ـ هترجع نروح سوا؟
لم أعرف بما أجيبها، ابتلعت صمتي وعبرت نظراتها ونظراتهم وسرت حتى نهاية الفصل وأنا أفكر في زملائي الذين خرجوا ولم يعودوا ثانية إلى الفصل.
عند الباب شعرت بانقباض وغصة في قلبي لم أعرف سببها ولمحت كائنات صغيرة ترتعب في وجوههم.
***
عندما نزلنا سلم المبني القديم إلى فناء المدرسة كان عم حسن يدق جرس الحصة الثانية.
بعد برهة سمعنا انفجارا مدويا وأحسسنا بارتجاج الأرض تحتنا.
حضرة الناظرة لقفتني إلى حضنها..لم يمر وقت و تلقفني أبى من حضرة الناظرة إلى حضنه ويديه الخاليتين من سندوتشات الجبن البيضاء ومربى التين وزمزمية الماء.
سلم أبى على حضرة الناظرة وصحبني معه.
عند باب المدرسة الحديدي لم أجد أثرا لفاترينة عم شعبان ولم يكن هناك أحد من باعة الحلوى.
كان أبي يربت على ظهري عندما تلاقت عينانا وقلت له:
- بابا باقي حصة على الفسحة..؟!!
لكنه لم ينظر إليّ ونحن نترك شارع المدرسة إلي الميدان ولم يتكلم.
***
بلون الرماد تكون نهارات ديسمبر وبطعم الشجن تتزين غماماته الكثيفة، كنت أشعر بالحمى تسري إلي جسدي وسخونة جلدي تلسعني كلما لامسني الهواء الندي وثمة شيء بداخلي يقارب على الانفجار.
الشوارع خالية وكئيبة.. حوائط كثيرة متهدمة تسد الطريق أمامنا.. عربات باللون الكاكي تربض من بعيد فأشعر بالاختناق.
لم أكن أستطيع التخلص من البلوفر الأزرق الذي صنعته أمي أو حقيبة كتبي المعلقة فوق ظهري ، وأشعر بأياد خفية تلتف حول عنقي وتحاول خنقي وأنا لا أستطيع أن ألقي بحقيبة الكتب إلي الأرض حتى لا يغضب أبى ولا أن أرتدي القميص الرمادي الذي اشتراه في عيد ميلادي وأترك البلوفر الأزرق منعا لمخالفة أوامر أمي بخصوص نزلات البرد والسعال الذي ينتابني.
***
عند البيت كانت تتشح بالسواد وحولها تلتف نساء جيراننا، حقائبنا الكبيرة التي سكنت سطوح دولابنا خرجت عند عتبة بابنا ووقفت منتفخة بصحبة حقائب جيراننا.
أناس كثيرون اختطفوني إلي أحضانهم ، ونساء كثيرات كن يقبلنني ويبكين.
منذ موت جدي لم أر أمي بهذه الحالة ولم أر كلَّ هؤلاء في شارعنا والفزع يتصيد وجوههم التعبة.
كانوا يتحدثون عن النوافذ الزرقاء والغارات الغاشمة والتهجير والمقاومة الشعبية والنوارس التي لم تعد تحلق في سماء القنال.
لم أسأل أمي عن سبب بكائها ولم أسأل أحدا من جيراننا.. لكنني كنت أبكي مثلهم دون أن أعرف السبب.
***
- إمتى الحرب تخلص؟؟!
كانت المرأة تسأل جارتها في العربة المكتظة بنا وأمي تبتلع دموعها في صمت موحش وتلتصق بجسدي الصغير وتحوط عنقي يداها الدافئتان.. لا أعرف لِم أحسست أنها تبحث عندي عن شيء افتقدته.
كانت الأجساد تنحشر وتتدافع في العربة وأبى يلوح لنا وعلى وجهه دموع ثقيلة وعربات كثيرة حولنا تتكدس بالحقائب الكبيرة ووجوه كثيرة أعرفها بدت وكأنها غريبة عني.
العربة تمرق بجوار بيوتنا المهجورة وصدى أنين بعيد يخطف قلبي.
أمي تعبث في شعري وأحس بدقات قلبها تقصف جوارحي وعيناها تلمعان رعبا من حركة شفتي.
- هو بابا مش هاييجي معانا؟
- لأ...
- ليه يا ماما؟..
أحنا رايحيين فين؟؟
- مش عارفة..
ساعتها كان صوتها يئن بشجن طائر ذبيح وسقطت دموعها الباردة على وجهي.
- ومش هروح المدرسة؟؟
- هتروح..
لا أعرف لِم لمْ أصدق أمي وغمرني أحساس بفقد ميرفت والمدرسة وبفقد أشياء كثيرة أحبها.
تدافعت الأسئلة إلى رأسي تسألني عن سبب تركنا لبيتنا ومدرستي وكل الذين أحبهم. لكنني حين نظرت إلي أمي ارتعدت من العتمة المكومة في عينيها فالتصقت بجسدها الشاحب وعبرت نظراتها الفزعة إلي الرمال المتدفقة حولنا أتابع ركضها المستمر خلفنا.
***
بباب حديدي كبير وسور عال وحديقة كبيرة وصالة فارعة تتسع لكل زملائي في الفصل وحجرات كثيرة وأخري خاصة بي - بها سرير نظيف ومكتب ودولاب يمتلأ بالملابس الجديدة واللعب الجميلة وراديو صغير- كان بيتنا.
ولا أعرف سببا لوجودنا هنا في هذه الحجرة الضيقة مع كل هؤلاء..
أحب أن أكون مع أبى في بيتنا وأكره هذه الحجرة الباردة، وهؤلاء الناس وأغطيتهم الخشنة وخبزهم الجاف ومعلباتهم المرة.
***
منذ جئنا إلي هنا لم نترك هذا المكان القذر..
ولم أر على وجه أمي ابتسامتها الطيبة..
بين الحين والحين كنا نسمع نساء جيراننا يتحدثن عن القادمين من السويس، وأخبار القتال وأفواج التهجير التي تتوالى.
اسأل أمي عن أبى الذي لم يعد حتى الآن ، لكنها تتركني ولا تجيب!.
اليوم قبلتني أمي وقالت:
- ألبسْ علشان نروح المدرسة.
بعيون مدهشة كنت أراقبها وهي تفك أزرار بيجامتي، واستسلمت لمشاعري وهى تنسج فرحتها على خيوطي.
عبثا كنت أحاول إبعاد صورة أبى وهو يحمل سندوتشات الجبن والمربى وينتظرني عند باب المدرسة.
ميرفت.. وعم حسن.. وحضرة الناظرة وأبلة بشات، عبثا كنت أحاول أبعادهم عن طريقي حتى أرتدي ملابسي.
بلعت فرحتي وتأهبت ليوم مبهج وأقسمت هذه المرة أن أسبق ميرفت إلي احتلال مقعدنا حتى تفاجأ بي.
انتهيت من ارتداء ملابسي وسألت أمي إن كان أبي سيحضر ويأخذنا إلى بيتنا أم سينتظرنا هناك بسندوتشات الجبن والمربى؟
أنَّتْ أمي ولم تنظر لي وهي تقول:
- لا..
أنت هتروح المدرسة الجديدة.
***
كان الراديو يهتز فوق المنضدة وأمي تنصت بلهفة لصوت المذيع بعد أن وضعت البطاريات الجديدة التي اشترتها من بقالة عم لطفي بأول الشارع ورفض عم لطفي أن يأخذ ثمنها وتدير المؤشر ليصبح أكثر وضوحا.
لا أعرف لِم تذكرت عمي عاصم..
حين دق بابنا ذات يوم أحدهم ومعه بعض المتعلقات التي تخص عمى عاصم وما قاله عن استشهاده في العمليات.
ارتدت أمي السواد وبكى أبى كطفل صغير ينهنه وابتلعت جدتي حسرتها وتحدثت عن أحلامه التي لم يحقق شيئا منها وعروسه التي لم تهنأ به.
أبي وما قاله عن وجوده الآن بصحبة الملائكة والصحابة.
وحين تمنيت أن أكون معه ومع الملائكة ضربت أمي صدرها بكفها وشدتني إلى حضنها وقالت:
- ألف بعد الشر يا حبيبي..
ربنا يحرقهم الكفرة.
أغلقت أمي الراديو ومسحت دمعة علقت على خدها وضمتني إليها.
كنت أحاول الإفلات من قبضة ذراعيها حين قلت:
- ماما هو بابا هيرجع امتى؟
- .....................
- ماما أنا مش عاوز أروح المدرسة الجديدة.
ضغطت أمي وضمتني إلى حنانها وارتكنت بي إلى حضن الجدار وظلت تحملق في صورة أبي المعلقة هناك طيلة النهار.
***
بعد يومين عادت أمي وقالت:
- إن كنت تحب بابا تعال نروح المدرسة.
- بابا وحشني قوي يا ماما..
هو هيرجع امتى؟!
- هيرجع يا حبيبي....
- ..............
- بأذن الله هيرجع .
وأنا كنت أحب أبي ولا أريده أن يغضب لعدم ذهابي إلى المدرسة، وكنت أريد أن أقول له إنه وحشني جدا وإنني لن أكلمه عندما يأتي لأنه تركني ولم يأخذني معه..
وفكرت أنه من المؤكد بالمدرسة الجديدة توجد حضرة الناظرة وأبلة بشات وميرفت أيضا..
فعدت ووافقت.
***
عند باب المدرسة استقبلنا آخر لا يشبه العم حسن، وحين أمسك بكفي جذبته منه وسألته:
- أنت اسمك عم حسن؟
ابتسم وقال:
- لا..
أنا اسمي عم منصور.
- وأنا أحمد
فناء المدرسة كبير وواسع وتغطيه نجيل صفراء قصيرة وبه الكثير من الأولاد والبنات.
وعندما سألت أمي عم منصور عن مكتب حضرة الناظرة ضحك وقال:
- مكتب حضرة الناظر..
الأستاذ سرحان.
لا أعرف لِم انتابني شعور غامض بالخوف والأسى، فلم أكن أتخيل أن هناك مدرسة بدون حضرة الناظرة.
***
عندما دخلت فصل 2/1 المدرسة التي كانت هناك قالت لي:
- لا يا شاطر أنت في 2/2.
أقسمت لها أنني في فصل 2/ا لكنها لم تصدقني ولم تلتفت لي وتركتنا وهي تقول لعم منصور بصرامة وحزم:
- خذه إلى 2 / 2.
أخذتني المدرسة التي كانت تشرح الدرس في فصل 2 / 2 واجلستني في أخر مقعد.. قلت لها:
- لا يا أبلة..
- أنا بقعد جنب ميرفت في أول تخته.
ميرفت وقفت وقالت:
- لا يا أبلة..
أنا بقعد هنا وحدي.
في أخر مقعد جلست، أمامي تتراص رؤوس سوداء صغيرة.
لا أعرف لم تذكرت أمي وهي تتشح بالسواد عند باب بيتنا القديم بجوار حقائبنا الكبيرة، والشوارع المهجورة، والغمام الكثيف، وحضرة الناظرة وأبلة بشات، وميرفت التي كانت تسبقني إلى مقعدنا المشترك، وأبي وهو يلوح لنا بحرارة وأسى، فغمرني شجن هائل وبكيت حتى دق جرس الفسحة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق