الصفحات

2008/06/09

مقطع من رواية ( متى يعود الطبيب) قيد الطبع


مقطع من رواية (متى يعود الطبيب؟)

3


ساعة انغلق الباب خلفه ظل للحظات ساكنا مثل شجرة خريفية بلا أوراق.
طوى صفحة الأيام والليالي الماضية التي قضاها وحيدا كالصبار وانتظر.
ظل يستعطف السماء أن يسقط المطر وتورق شجرته الخريفية.
تأمل الحجرة بحثا عن تفاصيل.
أسرة ثلاث بملاءات بيضاء.. ربما مل اللون الأبيض الذي يطارده في كل مكان.. لم يعد له نفس الصفاء.
طالع وجه يحيى فوق أحد الأسرة، جالسا في وضع القرفصاء..
شعره لونه البياض ..يرتدى قميصا مقلما وبنطالا من الجينز الكالح، بهت لونه حتى أصبح مثل صباح شتوي ضبابي.
محمود يبدو أصغر عمرا.
يرقد على السرير الآخر مستندا بجذعه على وسادة من القطن في جلباب رمادي بلا أكمام.. يكشف عن عظام جسده الهزيل.
يتقاسمان الشحوب والصمت والتطلع بعينين جاحظتين إلى القادم ليشاركهما نفس المصير.. في انتظار استشفاء، قد يجيء، أو لا يجيء.
إلى جوار كل سرير كومدينو صغير.
إلى أحد الجدران تستند خزانة ملابس واحدة.. بالجدار المقابل لمح شاشة عرض سينمائي مستطيلة وصغيرة ، تشبه تلك التي رآها هناك.
تدافع إلى أذنيه صوت (المحقق )، ظل يحاول أبعاده عن رأسه، أطبق بكفيه على أذنيه وهرب بنظراته بعيدا.
على امتداد جانب واحد من جدران العنبر نوافذ زجاجية بدا الضوء منها أكثر سطوعا.. لم يتمالك نفسه ، هرع إلى النوافذ، يطل من خلف زجاجها على الطريق.
الإسفلت الرمادي بلونه الثقيل وخطوطه البيضاء الناصعة.. ظل يسير مع الخطوط البيضاء إلى أخر ما استطاعت عيناه أن تريا.
لم يكن هناك شمس.. لم ير لها شعاعات..هل حجبتها الغيوم والسحابات.. أم حجبتها البنايات الشاهقة المقبضة وأبقت له الظلال؟.
لم تصل عيناه إلى السماء.
شعر ببغض أمام المبنى المقابل الذي حجب عنه كل شيء، راوده خاطر أن يكون دخل هذا المبنى من قبل.
لن يكون إلا أكثر سوءا إن كان يُخبىء بين جدرانه أيامه المغيبة.
انصرف ببصره بعيدا.
ارتدت خطواته تتلمس طريقها إلى السرير الوحيد الخالي من صاحبه وهوى بجسده الذي شعر به ثقيلا إلى السرير تاركا لأعضائه حرية الاسترخاء بعد عناء طويل.
تداعت أمام عينيه الصور، أحيانا بطئية تجتر آلامها ووخزاتها ومرات متلاهثة.. منذ أول صورة- لحظة إفاقته الأولى- وحتى المشهد الأخير برفقة سلوى.
ارتعشت شفتاه.
أحس بهما باردتين متشققتين غير قادر على ضميهما.. وفى داخله دوت صرخات مجلجلة.. صرخات مفعمة بالأسى والعذاب، لم يدر إن كانت من وقع ذكرى أم توجس من آت.
اعتدل يحيى في جلسته.
هبط بساقيه النحيلتين وزحف بخطوات بطيئة ناحية عايد، جلس عند حافة السرير.. كانت عيناه تتطلعان إلى ناحية النوافذ الزجاجية، قال بصوت بطيء:
ـ الق بكل ما مضى خلف ظهرك
..................................
أهم شيء هو انك معنا هنا.
أما محمود فاعتدل في رقدته.
نام على ظهره متأملا السقف المقشور الذي لم يكن بعيدا.
عندما استيقظ داخله انطباع بأنه نائم منذ دهر.. بأن زمنا طويلا مر.. أطول مما يخطر على بال.. زمن لا يعرفه إلا من عاش خلف هذه الجدران وبين عنابرها.
كل لحظة فيه تساوى عمرا كاملا خارج تلك البنايات المقبضة، ولا تعدو لسكانها أكثر من تكرار لعقارب ساعة أبديه يلفها الجمود.
انتهاء لحظة وبداية أخرى لا تعدو أن تكون فيها إلا كمثل قطرة ماء حركتها ريح في بحر ميت لا توجد له منابع ولا ينتهي إلى مصب.
قطرة حركتها ريح وأعادتها ريح إلى ذات النقطة المتجمدة.
لحظة يتساوى فيها الضوء بالظلام
الشروق بالغروب
الحياة بالموت
أحيانا يشعر أن مفردة الحياة كلمة لم تخلق لقاموس تلك البنايات، لا يعرفها المرضى أو الممرضون.
لا يوجد فارق بين أحواض الفورمالين التي تسبح فيها الجثث بالمشرحة وبين الجدران التي تتدافع فيها الأجساد بين العنابر.
كلاهما لهما نفس الرائحة النفاذة.. نفس الصمت الأخرس.. نفس الشحوب الذي يسكن الملامح ويلف الوجوه.
كان الوحيد الذي استرعى انتباهه ما أذاعته مكبرات الصوت!
حين خرجا من العنبر، لمح محمود وهو يسبقهما إلى الممر.
تطلع إلى التمرجيات وهن يحتللن الممرات بالجرادل والمناشف، يدفعن التروليات محملة بأكياس سوداء كبيرة تتجمع فيها القساطر وأكياس البول والشاش المغمور بالمطهرات والدماء المتخثرة.
الوجوه الشاحبة تغادر العنابر في طريقها إلى الكافتيريا كعادة أيام الجمع.
رمقه يحيى بنصف نظرة وهمس كأنه لا يخاطب أحدا:
- رائحة الفورمالين الملعون!
عايد عبر درفتين ثقيلتين لباب معلق إلى داخل الكافتيريا.. سار بخطوات بطيئة واختار أحد المقاعد المرتفعة بالقرب من النافذة وجلس، اتكأ بمرفقيه على الطاولة المعدنية وتطلع من وراء الزجاج إلى الإسفلت الرمادي البعيد.
منذ أصبح من نزلاء العنابر بدا لمن حوله لا مباليا بشيء.
لا ينشغل بمكبرات الصوت التي تحدد النظام اليومي للمرضى.. ساعات مغادرة العنابر ..السماح بدخول المراحيض وضوابط استخدام الحمامات.. مواعيد توزيع الطعام والدواء.. مواعيد تشغيل شاشات العرض ..تنبيهات إغلاق النوافذ والأبواب.. مواعيد توجه المرضى إلى المغسلة لتنظيف وكي الملابس والأغطية…الخ
قائمة طويلة من الأوامر والنواهي لا نهاية لها تدوي بها مكبرات الصوت كل يوم، ثم تعود وتفرض خروقات لها أو تضيف التزامات عليها دون ضابط.
هل سيتغير العالم إن تغيرت عادات الجمع ولم يغادروا عنابرهم إلى الكافيتريات؟
اعتاد ألا يهتم بشيء مما يحدث حوله ولا ينشغل بأحد من أطقم الشغالة، بداية من عمال وعاملات النظافة والمصاعد ونهاية بالممرضين والممرضات أو العاملين بأمن المستشفى.
لم يلحظ عليه أحد أنه بادل أحدهم ولو حديث عابر.
كان ما يربطه بهم طاعة عمياء لا تفرق بين كبير أو صغير، طاعة مصحوبة بصمت مقهور، حتى إن حاول أحدهم إغداق بعض الود عليه، لم يكن ذلك كافيا ليستحلب شهية الكلام عنده.
البعض برر حالته بحال كثير من المستجدين الذين يدخلون إلى العنابر لأول مرة أو يعودون إليها بعد غياب، وعادة ما ينصهروا مع النزلاء والعاملين وعاداتهم الرتيبة بمرور الأيام.
الأيام وحدها كفيلة بمنحنا القدرة على التكيف مع أقسى الأشياء..كفيلة بإزاحة ذلك الستار الذي يحجب عنا ملامسة الأشياء ويجعل منها كائنات شبحية مرعبة لا قدرة لنا على مصاحبتها والتعايش معها.
مع إزالة الستار عنها نألف ملامحها الشائهة وتسقط عنها أسمالها الباردة ..تبدو قريبة الشبه من جراحنا.
تبدو قريبة الشبه من كائناتنا التي ترتعد داخل نفوسنا وتخاف من كل شيء.. المرض.. الألم.. الأسى.. الموت.
مع مرور أشهر تلو أخرى لم يستطع أحد كبح جماح صمت عايد وبات واضحا تجاهله لكل ما حوله.
فلا تربطه علاقة بالأشخاص ولا بالأشياء.
لم يعد أحد قادرا على تحديد ما إذا كان يشعر بوخز الإبر وألم القساطر والمناظير ومرارة الأدوية مثل باقي المرضى أم أن جسده أصبح يستعذب الألم ويحن إليه.
الأمسيات القليلة التي يسمح بقضائها بالكافتيريا ويتجمع فيها النزلاء من كافة أقسام الباطنة والمستوطنة والجراحة والمسالك والنساء ، غالبا ما كان يعارض صحبة يحيى ومحمود إليها.
حين يرضخ تحت الحاحهما، ينساق وراءهما دون رغبة حقيقية في مخالطة الآخرين .
ينتحي جانبا ويحملق من خلال خصاص النوافذ إلى العتمة اللامتناهية.
يبدو وكأن خوف ما يرج كيانه.
خوف لا سبيل إلى مواجهته إلا بهذا الهدوء والصمت.
وحدها ريم كان بمقدورها أن تقرأ ما في عينيه من أسى، تقرأ السؤال الرابض هناك دون إجابة.
لا توجد إجابات بين جدراننا العالية.
لا توجد أسئلة إلا داخل النفوس المختبئة داخل كهوفها.
إن ألح سؤال وسقط من صاحبه لن يجد إلا إجابة واحدة ..هل تعرفها يا عايد؟.
نعم..
إنها الغرفة .
إنها الإجابة الوحيدة التي يجيدونها..
إذا أحببت، إذا حلمت، إذا عرفت، إذا سألت، إذا تكلمت، إذا كرهت.
لن يكون لك إلا مصير واحد..كأنه قدر على كل النزلاء أن يلقوه.
أما نزلاء العنابر فكانوا يفكرون به على انه لا يحتاج إلى شيء من أحد ، كأنه خلف كل شيء وراءه واستراح .
لكنهم أخيرا لحظوا شيئا جديدا .
كان الوحيد بينهم الذي استرعى انتباهه ما أذاعته مكبرات الصوت .
شاهدوا أملا جديدا يرتسم فوق ملامحه ، لحظوا أن شيئا ما حرك الساكن داخله وأوقد تلك الومضة بوجهه .
تلك الكلمات التي رددتها مكبرات الصوت عن السماح بدخول الصحف إلى المستشفى .
دون أن ينظر إلى احد ، سأل بصوت بطيء جدا وخفيض جدا :
ـ ومتى يمكننا أن نحصل على الصحف ؟ ! لكن حتى إن سمعه أحد فلم يكن يملك الإجابة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق