الصفحات

2008/07/03

مقطع جديد من رواية ( متى يعود الطبيب) قيد الطبع

مقطع جديد من رواية ( متى يعود الطبيب)
أحمد طوسون

5

في الصباح صحوا شاحبين .
لم يكن عايد يملك إلا أن يرفو جسد أيامه بخيوط الانتظار .
يتناوب أحزانه مع أحزان الآخرين .. يشعر وكأنه في تيه لا حدود له .. لكن شيئا ما يدفعه إلى مجهول .. لا يعرف له ملامح .. يسير إليه بقوة وبلا إرادة .
يتنقل بين الممرات بحثا عن إجابة لسؤال لا يعلمه.
سؤال مستعصي على الفهم .. يربض على شاطىء عيني ريم غريقا .. من أغرقه هناك .. من أعطى هاتين العينين الحق في أن تصبحا مرفئا للحزن بدلا من الفرح ؟.
هل كانت تعلم إنه سيعود؟.
قالت إنها انتظرته طويلا .. خاطبت الغمامات البيض .. استعطفتها ألا يغيب عنها .
كل يوم تلبس فستانها الأبيض وترنو إلى النافذة وتنتظر .
لم تكن تعرف له اسما ..لم تكن تعرف له موعدا .
لكن يقينها قال لها إنه آت .
لابد من انفلاج الفجر البعيد بعد طول الظلمة.
يحيى أيضا انتظره ..كلما قابل أحدهم سأله عنه .
حين أتى لم يعرفهما ولم يعرفه أحد .
هزه يحيى هزات عنيفة :
– لِم أنت صامت ؟
لِم يا صديقي زرعوا الخوف بأرضك القاحلة ؟!
يهبط درجات السلالم إلى الطابق الأرضي .
تقوده قدماه فوق الإسفلت الموحش من مبنى إلى مبنى .
ترقبه العيون من النوافذ .
يتهامسون فما بينهم .. يسألون .. تتساقط بينهم نظرات الحيرة والخوف.. يمنون أنفسهم الجريحة ويسألون :
- وماذا لو نجح هذه المرة ؟ !
ريم تئن حديقة مشاعرها .
تهتز شجيراتها لكنها لا تساقط إلا الألم والوحدة والعجز .
تراه يدنو ويبعد .
يلامس الطريق فتأخذه المتاهات بعيدا .
تريد أن تصرخ فيه .. تناديه ، لكنه ما زال حبيس أسره ..
يعلق انكساراته على مشجبه ويسير.
عند المصلى يتوقف .. شجن الصباح كان ثقيلا وكثيفا .. نداء قديم يستدعيه .. نداء قادم من وراء الذاكرة الممحاة .. يسكن أعماق النفس العطشى وسط صحراء التيه .
هل يدق باب الشيخ ويسأله ؟.
محمود قاده إلى هنا للمرة الأولى .
كانت الكافتيريا تضج بالمرضى حين دنا منه وسأله :
ـ أنت مسلم ؟ !
لم يخطر هذا السؤال بباله من قبل .. لم يخبره أحد عن ديانته ! .
كل ما صرح به المحقق مجرد أسم بلا تواريخ أو بيانات ..لم يفكر بينه وبين نفسه في هذا السؤال .. أي شريعة لابد أن تقوده إلى يقين ما.. لكنه يجالس الوهم بين العنابر والغرف .
نجحوا أن يجعلوه يشك إن كان حيا أم ميتا .
لن يختلف الأمر عندهم أيا كانت ديانته.
مط شفتيه طويلا دون أن يتكلم .
محمود قطع حيرته .. شده من ساعده وربت على كتفه مشجعا وقال :
ـ تعال معي .
لم يكن يعرف إلى أين يقوده.. لكنه أستسلم لإصراره .
ـ سنصلي الجمعة بمصلى المستشفى .
رهبه سكنته عند باب المصلى.
استسلم لنداء بعيد ظل يتردد بأذنيه وجلس خاشعا بآخر الصفوف ، يرنو إلى الشيخ ذي اللحية البيضاء .
كان وجهه مضيئا .. كلماته هزت طائرا حبيسا بالقلب .
راوده خاطر إن الشيخ يعرف الكثير .. ربما وجد عنده ما لا يجده عند الآخرين .. فكر أن ينتظر بعد الصلاة ويسأله .. لكنه لم يفعل .
استشعر عيونا ترقبه ، تخترقه ، تفتش في أعماقه لتستبيح كل شيء .
يقرأون سطور وجدانه ، يسمعون صوت خضر يتردد صداه عميقا ، ( لكي تعرف لا بد أن تؤمن بفكرة ).
بحث في أعماقه ..لم يجد إلا شبح الغرفة يطارده .
سحب خطواته وارتد عائدا إلى عنبره.
الجمعة التالية لم يصلِّ .
لم يسأله محمود أن يصحبه .. لم يفكر إن كان لزاما عليه أن يصلى كل جمعة .
ـ هل يجد عنده أجابه ما ؟
خطوات وجله لم تنزع كلمات الشيخ عنها الرهبة :
ـ كنت أنتظرك .
يسرج قناديل الدهشة بين جدران السكون الخاشع .
بدا النور بالمكان فيضا خالصا لا ينتهي .. نور أبدى لا يتبدل إلى ظلمه .. نور يجعل ندف الروح ترفرف بجناحيها وقطرات الدمع تغسل الجراح .
بين يديه جلس .. خلع رداء الصمت وسأله :
ـ هل نحن مرضى ؟
أبتسم الشيخ .
تطلع بعينيه إلى السماء .. مرر أصابعه بين لحيته البيضاء التي أعطته وقارا ورهبه وتسلل بعينيه من باب المصلى إلى المباني الرابضة هناك وقال :
ـ الحقيقة الوحيدة إننا لو لم نكن مرض لما استمرينا في
هذا المستشفى كل هذا العمر .
ـ والعلاج ؟
ـ أعرف الداء تعرف الدواء .
ـ أين ؟
ـ ....................
ـ أين ؟؟ ؟
ـ أبحث بنفسك.. لابد أن تجد علاجا.
......................................................
ربما تحتاج أيمانا مطلقا
................................................
قدماه تحملاه إلى الإسفلت مثخنا بالأسئلة .
نفس كلمات خضر يعيدها الشيخ على أذنيه ..كلمات غائمة لا تسقط مطرا يجلي الغبار عن الأشياء .
تتساقط علامات الاستفهام على رأسه مثل صواعق .
أحيانا يشعر أن كل من حوله كائنات من عاج .. تماثيل لمخلوقات أخرى لا يعرفها .. أطروها ووضعوها متاحف الشمع .
يبحث عن بشر من دم ولحم .. يبحث عن حقيقة ما بين أشباح الأشياء .
تخيل أن تفضي خطواته إلى هاوية ما لا قرار لها .. أستولي عليه فتور غامض.. شعر مرة أخرى بهذا الدوار الغريب .. أثارت الدكة الخشبية الموضوعة قبالته اهتمامه وأستسلم لها .
في البداية أشتكى من صداع نصفي .
طارده وجهه في المرايا بأشكال متعددة .. يتحسسه بأنامله مدركا الورم الذي لفه .
باتت نبضات رأسه تزداد مثل طلقات متتالية من رشاش آلي .. لم يقو على التحمل .. ظل يصرخ ويصرخ .. يتردد صدى صرخاته في الفراغ ألانهائي حتى فقد الوعي وحملوه إلى هناك .
حين أفاق مسح بنظراته المكان واختبأ داخل قوقعته .. راوده شك إنه عاد ثانية إلى الغرفة .. ستبقى تفاصيل أيامها موشومة في قعر الذاكرة .. رغم تشابه الأمكنة إلا أنه وجد أسره هناك..ترقد فوقها هياكل عظمية يلفها العجز والأسى .
تأمل الأسلاك التي تمتد من أبهامه وصدره إلى الشاشة التي تنتصب بجوار رأسه والخطوط الأفقية التي تتوالى أمام عينيه .
دنت إحداهن منه وقالت :
ـ حمد الله على السلامة
بتر أخر الأفكار برأسه وقال :
ـ ماذا حدث ؟
ـ لا شيء
مجرد ارتفاع بسيط بالضغط .
ـ ومتى سأعود إلى العنابر ؟
تأملت الشاشة المنتصبة فوق رأسه وقالت بلا اهتمام وهى تغادر سريره :
ـ سأعود لأنزع الجهاز عنك .
.........................................
ترك الباب خلفه وأستند إلى الجدار .. قرأ اللافتة الباهتة .. (العناية المركزة) .
أرخى عينيه إلى الأرض .. تردد في أذنيه وقع ثرثارات مهموسة .. رأسه الغائم المرهق يصخي بسمعه لصوت أنفاسهم .
كانوا ينتظرون في الفراغ الضيق أمام الباب .. عيونهم كانت حزينة يسكنها الخوف والعجز .
وجوههم لم تكن مألوفة .
قال لنفسه : (بالتأكيد ليسوا من ساكني العنابر ) .
أخيرا عليه أن يقابل أحدا بعيدا عن متاهته .
ـ لا أحد يسأل عنا !
ظل ينتظر ويترقب طيلة الوقت .. يتسمع لما يدور بين النزلاء من أحاديث ، يبحث عن اشارة أو علامة تدلل على أن هذا المكان يعرفه البشر بالخارج .
بعد الجمعة الحبيسة قالوا إن لجنة زارت المستشفى لتطمئن على أحوال المرضى وإجراءات العلاج .
لجنة لا علاقة لها بنا .
لم تسأل عني .. لم تتحر الوصول إلينا خلف جدراننا المصمتة .
لجنة جاءت لتمر بين الجدران والعنابر الفارغة .
أي مرضى زارتهم إذا كنا جميعا لم نرها ؟؟! .
مشوار يائس داخل فؤاد مخزون .
إذا كان قد فقد ذاكرته ، فماذا عن الآخرين .. كل نزلاء العنابر فقدوا هويتهم وذاكرتهم .. لم يخطأ أحدهم مرة ويتحدث عن زائر ؟.
لا تسمع سوى خوار أبقار تتداعى .
ولو مجرد زائر وحيد يطرق أبواب المستشفى ؟ !
كل النزلاء بلا أهل أو معارف أو أصدقاء .. هل فقد الناس خارج أسوارنا ذاكرتهم أم طمسونا من حساباتهم ؟.
لا أحد يسأل عنا .
إذا كنا حقا مرضى وكان هذا المكان الذي يقودنا إلى الجنون مستشفى ، لم لا يزورنا أحد ؟ ! دنا من أحدهم .. حدق في ملامح الأسى التي تحفر مجراها بعينيه .. قدر أنه ينتظر مريضا بالداخل .
اصطنع تعاطفا معه وقال :
- حالته حرجه ؟
باندهاش رفع عينيه وسأله :
- من؟!
أشار بسبابة كفه اليمنى ناحية باب العناية المركزة المغلق وقال:
- المريض .
.................................
- أي مريض ؟!
- مريضكم .
- لكننا لا ننتظر مريضا
ليس لنا أحد بالداخل .
حدق في وجوههم جيدا ..لم يصادف ملامحهم بالعنابر أو بين الطرقات من قبل .
- وما الذي أتى بكم إلى هنا؟
ألتفت عيونهم حوله .. تأملوه كأنما ينظرون إلى ضفدعة تردد نقيقا ببلاهة .. أحدهم أزاحه من طريقه قائلا :
- ننتظر الطبيب !
تدافعه الأيدي .. أصابعهم بدت مثل مخالب لطيور جارحة ، ظلت تنعق :
- إننا نسكن العنابر من قبلك .
- المباني كثيرة لا حصر لها ..
- المرضى كثيرون بلا طائل ..
- نريد الطبيب ..
- إذا كنت تعرف طريق الطبيب دلنا عليه ..
الطبيب .. الطبيب .. الطبيب .. الطبيب .. الطب .... ال ....
لا يعرف كيف استخلص نفسه من بين مخالبهم .. جر خطواته بتثاقل فوق الإسفلت الرمادي القاتم ، كأنه يحمل جبال الدنيا فوق كتفيه .
ظل يسير بخطوات يائسة متعبة حتى وصل إلى عنبره .
إلى جانب يحيى جلس .
رنا إلى لا شيء وقال بصوت مهدود :
- لا أحد ..
..........................
لا أحد يدخل إلى هنا أو يخرج .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق