الصفحات

2008/07/21

السرد وأنساقه التراثية-قراءة في رواية (حارس السور ) لأحمد قرني


السرد وأنساقه التراثية
قراءة في رواية (حارس السور ) لأحمد قرني


أحمد طوسون


تتألف رواية حارس السور(1) من قسمين، تعتمد الكتابة السردية فيهما على الحكي الروائي الذي يتوالد بشكل مكثف، ليجد المتلقي نفسه أمام حكايات قصيرة متتابعة داخل المتن الروائي وتشكل جزءا من نسيجه وفي حدود المرجعية المكانية المرتبطة بالسور ( المقابر ) وأهله وينعكس على البلدة وأهلها.
ويعني القسم الأول من الرواية بالحدث المتمثل في قيام الحاج معتوق – بعد عودته من سفره الطويل للبلاد البعيدة بزكايب المال وبناء بيت كبير يشبه القصر- بمحاولة إعادة بناء قبر جده بالطوب الأحمر والخرسانة المسلحة، على عكس ما رسخ في وجدان الجماعة الشعبية واعتقدوا به من أن الطوب الأحمر والأسمنت لا تبنى بهما المقابر وإن حدث فهو مخالفة لشرع الله ويصبح قبرا لا تدخله الملائكة.
فيبدأ الصراع الذي يقوده مولانا ( إمام الجامع ) والذي يمثل المرجعية الدينية لأهل البلد ضد خروج الحاج معتوق على الجماعة الشعبية ( تهلل الحاج معتوق لقدوم سيدنا إلى السور في هذا الوقت وسأله إن كان هناك ميت من أهل البلد خرج سيدنا يشيعه، وقطع تهلل الحاج صوت سيدنا:
- ماذا تريد أن تفعل يا حاج معتوق؟
- ما وراءك يا سيدنا...؟!!
- سمعت كلاما كثيرا أريد أن تنفيه في الحال.
- وماذا سمعت يا سيدنا؟!!
- أنت فعلا تنوي أن تبني قبر جدك معتوق الكبير الله يرحمه بالطوب الأحمر والخرسانة المسلحة.
- وما في هذا يا سيدنا؟!!
- حرام يا حاج معتوق.. حرام بالثلاثة. ) (2)
لكن لم يثن مولانا من عزم الحاج معتوق ولا نجح الوفد من كبراء البلد في ذلك، وكاد الحاج معتوق أن ينتصر لرأيه لولا ظهور سالم معروف بشخصيته الأسطورية الغرائيبية التي جعلت مولانا يقول عنه إنه ( متزوج من جنيه والعياذ بالله )(3) ويدعو الناس إلى الابتعاد عنه واجتنابه حتى لا يؤذيهم لإجماعهم على إنه ( مخاو )(4).
وعندما يحاول عمال الحاج معتوق هدم مقبرة جده لبنائها يخرج عليهم سالم معروف من داخلها فيصيبهم الفزع ويتأكدون من صدق وعيد مولانا للحاج معتوق ويهربون بعيدا عن السور وأهله ويتحول سالم معروف إلى بطل انتصر لإرادة الجموع ( وسكت الناس عن الكلام وهم يتابعون ما يحدث أمام عيونهم، لماذا لا ينقض الناس وهم جموع غفيرة على الحاج معتوق والعمال ويقذفون بهم خارج السور، أمور كثيرة لا أفهمها. قلت أذهب بنفسي وأرى قبر آل معتوق وأعرف ماذا حدث في موضوع سالم معروف. أسرعت ناحية القبر والناس يفرون في ذعر ناحية باب السور ولا يسأل أحد عن أحد..............وحين وصلت كان الناس جميعا قد انفضوا من حول القبر وحتى الحاج معتوق لم أجده ولم أجد العمال.)(5)
أما القسم الثاني من النص الروائي فيحرص على رصد المتغيرات التي طرأت على السور وحولت المقابر اللبنية إلى مقابر من الطوب الأحمر والخرسانة المسلحة، كما يرصد التحول الذي أصاب البلد بعد واقعة سالم معروف والتي حولته إلى بطل شعبي يحتفي به أهلها ويجعل مولانا يتوسط له ليزوجه من فرحة أجمل بنات البلد بالرغم من معارضة أهلها لوضاعة شأن سالم، لكنهم في النهاية يخضعون للرغبة الجمعية ويزوجونها له ( ومضى الناس خلف مولانا قاصدين بيت المعلم إبراهيم دون أن يعرف واحد منهم السبب ولا يستطيع أحد أن يسأل مولانا عن شيء وسار مولانا بالناس حتى إذا وصلوا إلى بيت المعلم كانوا قد أصبحوا جمعا كثيرا وكلهم يريدون أن يعرفوا السر، فلما أطل المعلم إبراهيم من شباك بيته ووجد مولانا يتقدم الصفوف، صرخت فيه زوجته، وقالت:
- تريد أن تخرب البيت، البلد كلها ضدك، زوج فرحة لسالم يرضى عنك مولانا والناس.
تردد المعلم إبراهيم قبل أن يجيب زوجته حتى سمع صوت الناس في الخارج يريدونه، فأرسل زوجته إلى الشباك، وقالت:
- مبروك يا مولانا.)(6)
ومن خلال مونولوج وحوار مع النفس يتنقل السارد ليرقب التغيرات ويستشهد بالحكايا المتدفقة دوما عن شخوص البلد فكل حكاية تحتوي، بشكل ضمني أو صريح، على إمكانات توليد صيرورة دلالية أو تأويلية قد تتطور في اتجاهات لا حصر لها من خلال نقطة ارتكاز يعتمد عليها للربط بين وحدات السرد قامت على فكرة التغيير الذي حدث بوفاة سالم معروف أو اختفائه للمكان والناس وأعقبه مرض مولانا الذي أقعده في بيته طريح الفراش وسمح لمشايخ البندر أن يعتلوا منبر الجامع فتفقد الجموع مرجعيتها في مواجهة الأزمات، ويظل السارد يتحرك لتوثيق الفكرة التي انتهت بموت مولانا.
استلهام النسق التراثي والموروث الشعبي:
يعتمد البناء الفني في رواية حارس السور على استلهام الموروث الشعبي لأشكال السرد العربي والاستفادة منها، دون أن يختار قالبا تراثيا، بل قدم روايته في القالب المتعارف عليه للرواية الحديثة وطوع الموروث الثقافي الشعبي بصورة غير مباشرة داخل النص الروائي وكأن الكتابة تطمح إلى خلق صيرورتها ونسقها الخاص.
ولعلنا نتتبع في النقاط التالية مظاهر النسق التراثي داخل السرد الروائي:
1- السرد الروائي يقوم على نواة حكائية بسيطة يتم توليد سلسلة لامتناهية من الحكايات منها انتقاها السارد بقصدية مكنته من خلق أجواء الأسطورة الشعبية على نسق توالد الحكايا داخل نصوص ألف ليلة وليلة وربطها بالمكان، وكما يقول ميشال بورتو (إن للأشياء تاريخا مرتبطا بتاريخ الأشخاص لأن الإنسان لا يشكل وحده بنفسه ) لذا كان ارتباط الشخوص بالسور يمثل مرتكزا يرتكز عليه السارد في رسم الشخوص والمكان المحيط. فسالم معروف أقرب على صورة البطل الذي تصنعة المخيلة الشعبية.. البطل الضد الذي يكون وليد اللحظة ولا يحمل أي مظاهر بطولة قبلها سوى بعض الصفات الغرائبية وحكايا الخوارق التي يتناولها العامة دون دليل يؤكدها وصورته لا تختلف عن نمط الدرويش في كثير من النصوص الروائية ( البلد كلها تحكي أن سالم معروف لا يحب ناسه ولا يهوى الجلوس بين أصحابه بل إنه منذ صغره شب غريبا ولم نعرف له صاحبا طول عمره )(7) عاطل بلا عمل يرتزق منه (ولما مات معروف قال الناس إن ولده سالم يرث صنعة أبيه وجده.....،ودهش أهل البلد عندما رأوا سالم يلقي بكيس عم معروف في بحر سنورس، بل وألقى خلفه القادوم والشاكوش والمنشار.)(8)لا أحد يعرف كيف يعيش وأين ينام (يلف ويحوم حول سور المقابر البلد كل يوم بعد المغرب، ثم يختفي من المغرب حتى الصباح، ولا يعرف أحد من أهل البلد أين يذهب..؟! أو أين ينام..؟!)(9) تنسج عنه الحكايات التي تشبع نهم المخيلة الشعبية ( أنصت الجميع لرواية ربيع، ودار الحديث في البلد دوران طاحونة صلاح رفاعي التي تندفع مع تيار الهدار الواقع شرق البلد، وقال إنه سمع من أبيه رفاعي أن جد سالم كان مخاويا مثل سالم،وكان يسميه أهل زمان المخفي........لم يكن في البلد كلها حديث يشغل الناس غير حديث سالم معروف، والجميع ينظرون إليه عندما يقابلونه في أحد الشوارع ولا أحد يلقي السلام أو يحادثه في شيء. لم يعد أحد في البلد كلها لا يعرف سالم معروف، حتى الأولاد ينظرون إليه ويسيرون خلفه، حتى إذا التفت إليهم فجأة جرى كل واحد منهم إلى ناحية.)(10) والموقف الذي يحول سالم معروف إلى بطل تنعته الجموع بحارس السور يصدر عفويا ودون إرادة أو تخطيط منه كما يكشف السرد ( دخل النعاس إلى عيني سعيد، ولم يكد يروح في النوم العميق حتى أيقظه صوت سالم: - ياسعيد أريد أن أنام الليلة في قبر من هذه القبور..)(11) لكن الرغبة الكامنة في سعيد خادم السور كونه أحد أفراد الجماعة الشعبية التي كانت تطوق إلى البطل ربما بلا وعي دفعه إلى قبر آل معتوق.وكما تتميز الحكاية الشعبية بحسها الاجتماعي وبواقعيتها التي تخلو من التأملات الفلسفية والميتافيزيقية مركزة على أدق تفاصيل الحياة اليومية(12) ينحو السرد إلى رصد الأوضاع الاجتماعية لأهل البلد وتفاصيل حياة السارد خادم السور الذي هو في حقيقته البطل المقنع داخل النص. ويتشابه البناء مع البناء الملحمي في السير الشعبية ويحقق رغبة الجماعة في تجاوز محنتها وتحقيق رغبتها في بقاء المقابر بالطوب اللبني.. لكن يكشف القسم الثاني عن تبدل الأوضاع من جديد بعد اختفاء سالم معروف ووفاة مولانا ويبقى علينا استشراف قدوم بطل جديد.
2- معظم السرود الواردة في النص الروائي تتعلق بأخبار عن حوادث وأشخاص على نمط السرود الواردة في الموروث الثقافي العربي والإسلامي واستكمال ما انقطع من حديث لسبب أو آخر مرتبط بالشخصية المتحدث عنها.كما أن الحكايا يستمد مدادها من الموروث الشعبي وأصداء لحكايات ألف ليلة وليلة ( وقال الناس إن سر قوة محمود لأنه شرب الماء وهو نائم ، وعم فرج كان يحكي لي أن الماء في الترعة البحرية ينام كل عام ثانية واحدة، وذو الحظ العظيم من يغترف بيده من الماء النائم ويشربه )(13)
3- البطولة في النص فردية كما في الحكايات القديمة وكنسق الأبطال الشعبيين يحتاج البطل إلى مساند له، فإلى جانب عنتره نجد شيبوب، وإلى جانب الظاهر بيبرس نجد الأسطى عثمان، وإلى جانب ذات الهمة نجد أبو محمد البطال..إلخ، وفي نصنا نجد مولانا المساند لسالم معروف في الحكاية الأصلية فهو أول من يعترف بطولته ويصر أن يزوجه بفرحة.. وصورة المساند في النص ليست نمطية على النسق التراثي بل لأنها شخصية قوية وحاضرة بشدة وتمثل المرجعية الدينية والفكرية للجماعة الشعبية هي التي تعطي للبطل الشعبي شرعيته.
4- من أهم مكونات البنية السردية في النص الروائي اعتمادها على أسلوب الخبر، ويقوم الخبر على الصياغة التاريخية للأحداث داخل النص ومن أهم مظاهره استناده إلى سند مستمد من الموروث الديني سواء كان سندا مفردا معلوما ( قال عنه سيدنا الشيخ عبدالله دراهم إمام جامع الحكومة )(14)(أنصت الجميع لرواية ربيع)(15) وهو الغالب على البنية الإخبارية داخل النص.أو الاستناد إلى سند جمع ( البلد كلها تحكي – قالوا – والناس يقولون.. إلخ) وكأن السارد يبحث عن شهود لروايته وإضفاء مصداقية أكبر عليها.. ويستخدم السارد ضمير المتكلم المفرد مع الإسناد إلى راوية تلقى منه الخبر ليحدث إيهاما بحضور الحدث المروي عدا بداية النص الذي كان السارد فيه الراوي العليم حتى ص 16 الظهور الأول للسارد بضمير المتكلم، كما حدث تزاوج لاستخدام ضمير المتكلم وضمير الغائب للراوي العليم في الصفحات من ص 16 إلى ص 25. ومن السمات الواضحة المعرفة الواسعة للسارد بأخبار السور والبلد، والخبر في النص يرادف الحكاية بما يمتلكه من خصائص في سياق البنية الخبرية.
5- تميزت لغة النص على نسق لغة ألف ليلة وليلة بسمات أسلوبية خاصة مثل شعبية الألفاظ ، الاستهلال الشعائري، ..،الوصف التفصيلي والاستطراد، الحوار المتضمن في السرد(16) فحرص السارد على استخدام صيغ للاستهلال الشعائري على نسق الحكايات القديمة مثل ( حكى لي- ويحكى عن- يحكى له- يحكى لي- وحكاية الولد.. إلخ). كما كانت لغة النص اللغة الشعبية للفصحى الدارجة .
6- الزمن في النص غير محدد على عكس الرواية والكتابات الحديثة وسار على نسق الزمن الغير محدد في حكايات ألف ليلة وليلة مثل (بعد فترة من الزمن ص12 ) ( مرت سنوات متعددة لا تحصى ص48 ) (أمور كثيرة حدثت في السنوات الأخيرة ص50 ) ( مضت أعوام كثيرة ص53 ) ( ومنذ أيام زرت مولانا في سريره ص53 ) ( فرغم مرور السنوات العديدة ص 60 ) ( دارت الأيام وأصبح ولده جابر....ص65 ) وهكذا.
7- صورة المرأة في النص نمطية، تقدم على النسق القديم والتقليدي للمرأة في الحكي الشعبي ، فالمرأة في النص حلية تقدم هدية وغنيمة للبطل الشعبي المنتصر، كما فعل مولانا حين أن يزوج سالم معروف لفرحة أجمل بنات البلد، كما أن شخصية فرحة جاءت في النص هامشية لم تظهر إلا لتقدم كهدية لسالم وكمكافأة على تحقيق أمال وتطلعات الجماعة الشعبية .
8- تقلدية الصراع في نسق الموروث الشعبي بين الخير والشر يوازيها في نص حارس السور تقليدية الصراع بين الأصالة والتجديد من منظور التأزم الذي يعيشه عقل الجماعة الشعبية في النص الروائي، أو كما يقول فاروق خورشيد في كتابه عن السيرة الشعبية ( يعكس بطل السيرة الأدبية حقيقة العلاقات التي تربط أفراد الجماعة في المجتمع الذي أنشئت فيه السيرة ويعكس أيضا حقيقة ما يسود هذا المجتمع من نشاط إما نحو البناء والتطور وإما نحو الهدم والتخريب، فالمجتمع المتأزم غير المستقر الذي تلتقي فيه العلاقات بين أفراده حول معاني الصدام يقدم لنا في أعماله الأدبية بطلا تنعكس فيه كل صور هذا التأزم ) .





الهوامش:
1- حارس السور – أحمد قرني محمد – الهيئة العامة لقصور الثقافة – أقليم القاهرة الكبرى – طبعة أولى 2007.
2- السابق ص 16و17.
3- السابق ص 10.
4- السابق ص 9.
5- السابق ص 38و39.
6- السابق ص 58و59.
7- السابق ص9.
8- السابق ص9.
9- السابق ص10.
10- السابق ص11.
11- السابق ص12.
12- دراسة نقدية بعنوان الحكاية الشعبية.. سطوة المفاهيم النقدية- معجب القدواني.
13- حارس السور- ص56.
14- السابق ص10.
15- السابق ص11.
16- الصوت والصدى – دراسة في تأثير ألف ليلة وليلة في الرواية العربية المعاصرة – د. محمد نجيب التلاوي- دار حراء 1991

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق