قصةٌ عَنْ كلبٍ
أحمد طوسون
(هُوْهُوَا ) كلبٌ دائمُ النباحِ ، لأتفه الأسبابِ .
إذا جَاعَ نبحَ .. إذا رأى شبحاً نبحَ .. إذا شاهدَ لصاً نبحَ .. إذا لمحَ شرطياً نبحَ .. إذا خافَ نبحَ .. إذا غضبَ نبحَ .. إذا فرحَ نبحَ .
حَتَّى أَطْلقَ عليه أصحابُهُ وجيرانهُ اسمَ ( هُوْهُوَا ) .
في البدايةِ ،كانَ يَغْضَبُ كُلَّما سمعَ أَحَدَهم يناديه بهذا الاسم .. ويقولُ : (كُلُّ الكلابِ في الشَّوارعِ تَنْبَحُ لأتفهِ الأسبابِ ، فلِمَ يتهمونني وحدي بإنَّني دائمُ النباحِ ) .
لكنَّهُ بَعْدَ فترةٍ اعتادَ الاسمَ ، ووَجدَهُ جميلاً ، وأَصبحَ يقولُ لنفسِه : ( مَا العيب في هذا الاسم ؟.. أنا حَقاً كثير النباحِ .. واستمتعُ بنباحي .. وهُوْهُوَا اسمٌ جميلٌ ).
ويظلُّ يُدَنْدنُ باسمِه ،ويتغنى بهِ :
هوو ..هوو..هُوْهُوَا هوو ..هوو...هُوْهُوَا
ولـمْ يكن يُدْرِّكُ أَنَّ نباحَهُ المسْتَمِرَّ يسببُ إزعاجاً للآخرين .
ليس نباحه وحدَّهُ ما يسببُ الإزْعَاجَ ، بَلْ أيضاً تصرفاتِهِ الطائشةِ .
فإذا رأى أحداً نَبحَ عليه وهاجمَهُ ، ليروِّعَهُ ويخيِّفَهُ .. وإذا جاعَ قفزَ إلى صناديقِ القمامةِ وقَلَبَ محتوياتها على الأرضِ بحثاً عن طعامٍ .. وأحيانا يتبوَّلُ في الشَّوارعِ فتنشرُ الأمراض والأوبئةُ .
لذلك لَـمْ يكن يحبُهُ أحدٌ مِنْ الناس .. وكلما رآهُ أحدٌ نهرَّهُ وطردَهُ بعيداً عَنْ بيتِهِ وشارعِهِ .
فليس هُنَاكَ مَنْ يُحبُ أنْ يعيشَ في مكانٍ قذرٍ وغير نظيفٍ .
أمَّا ( هُوْهُوَا ) فكان حزيناً مِنْ تصرفاتِ الناسِ معَهُ .. ويسألُ أصحابَهُ مِنْ كلابِ الشَّوارعِ الضالةِ ويقولُ :
ـ لِمَ لا يحبنا الناسُ ؟!
لقد كنتُ أتمني أَنْ يُصبح لي صاحبٌ من الناس
تضحكُ الكلابُ الضالةُ مِنْ سذاجةِ ( هُوْهُوَا ) ويقولون :
ـ لِمَ تُشْغِّلُ بالكَ بالناسِ ..
وما أهمية أنْ يُحبَّنَا الناسُ أو يكْرهونَا ..؟!
لكنَّ ( هُوْهُوَا ) رغم تصرفاته الحمقاء .. ورغم إنَّه لا يعرف السببَ الذي يجعلُ الناسَ لا يحبونَّهُ .. إلا إنَّه يرى أنَّ الآخرين جزءٌ من حياتنا ، ولا يوجد مَنْ يعيش وحدَهُ فوق كوكبِ الأرضِ ويستطيع أنْ يستغني عَنْ الآخرين ، ومِنْ الواجبِ علينا أنْ نعرفَ السببَ في ابتعادِهم عنا ونفورِهم منا .
حاولَ ( هُوْهُوَا ) الاقترابَ من الناسِ ، لكنَّهم إما يهربون منه ، أو يطردونه بعيداً عنهم ، حَتَّى بات ( هُوْهُوَا ) حزيناً دائماً .
لا يُكلِّمُ أحداً ولا يكلمُهُ أحدٌ .. فمَا أقْسَى الإحساس بأننا منبوذون ممن حولِنا .
***********
وفي أحدِ الأيامِ ، بينمَا كان (هُوْهُوَا ) يسيرُ في الشَّوارعِ ، شاهدَ كلبة ترتدي ملابسَ أنيقةً ونظيفةً ، وتسيرُ إلى جوارِ صاحبِها وقد طوَّقَ عنقَها بطوقٍ جلديّ جميل .
ثم شاهدَ صاحبَها يتركُها أمامَ أحدِ الحوانيت ودَخَلَ ليتسوقَ .
شعرَ ( هُوْهُوَا ) بخفقانٍ في قلبِهِ وتمنى لو كان مكان هذه الكلبة ، له مَنْ يرعاهُ ويحبُّه ، وقال لنفسِه : ( لابُدَّ إنَّ هذه الكلبة تستطيعُ مساعدتيّ .. وتخبرني لِمَ يُحبّها الناسُ ولا يحبون أمثاليَّ مِنْ كلابِ الشَّوارعِ ).
وأَسْرَعَ إليها ليسألَها .
لكنَّ الكلبة الأنيقة خافَتْ على نفسِها وعلى نظافتِها ، ورجعَتْ إلى الخلفِ خطواتٍ لتلحقَ بصاحبِها داخل الحانوتِ .
(هُوْهُوَا ) استعطفها أنْ تبقي معه للحظاتٍ .. فهو لايفكرُ في إيذائها وكلُّ ما يريده أنْ يتحدثَ معها قليلاً .
ترددَتْ الكلبة الأنيقةُ قليلاً .. فهي لمْ تكن تثقُ في الكلابِ الضالةِ أو أخلاقِهم .
لكنها أحسَتْ بصدقِ كلامِ ( هُوْهُوَا ) وشعرَتْ بالشفقةِ تجاهَهُ ، فوافقَتْ على الحديثِ معه على أنْ يبقى على مسافةٍ بعيدةٍ عَنْهَا .
فالكلابُ الضالةُ لا تخضع لرعايةٍ طبيةٍ جيدةٍ وربما تنتقلُ إليها عدوى إحدى الأمراضِ إنْ اقتربَ منها .
(هُوْهُوَا) سألها عن السببِ الذي يجعلُ الناسَ يحبونها بينما يبتعدون عنه وعن أصحابِهِ من كلابِ الشَّوارعِ ؟
قالَتْ الكلبةُ الأنيقةُ :
ـ الأمرُ لا يتعلق بالكلابِ ..
تصرفاتُكَ التي تجعلَ الناسَ يقتربون مِنْكَ أو يبتعدون عَنْكَ ..
فمَنْ لا يحترمُ الآخرين ونظامَ حياتِهم
ويتسببُ في إزعاجِهم لا يحبّه الناسُ ! .
قالَ ( هُوْهُوَا ) باندهاشٍ :
ـ لكنَّني أحبُّ الناسَ ولا أزعجهم !
لـمْ تعجبْ كلماتِ (هُوْهُوَا ) الكلبةُ الأنيقةُ .. فليس مهما ما نعتقده في أفعالِنا ، المهم وجهة نظر الآخرين فيها .. هل تضايقهم أم لا ؟
ـ يا عزيزي ..
الكلابُ الضالةُ غالباً ما تتصرف بحماقة ٍ..
وربما لو راجعَتَ نفسَكَ
لإكتشفَتَ الكثيرَ مِنْ الأخطاءِ التي تقوم بها..
والتي بسببها يبتعدُ الناسُ عنكَ .
***********
تلك الليلة لم ينمْ ( هُوْهُوَا ) ، ظل يفكرُّ في كلامِ الكلبةِ الأنيقةِ ويستعيدُ صورتَها أمامَ عينيه .
يلهثُ لهاثاً موجعاً ويقولُ لنفسِهِ بأسى : ( إنَّها حقاً جميلةٌ ، وهبَّها الله جسداً فاتناً وعينين رائعتين وأذنين لم أرَّ مثلهمَا مِنْ قبْل ، بخلافِ صوتِها الناعمِ الرقيق .. لذلك يحبُّها كلُّ مَنْ يراها ! ) .
ثم يعودُ ويتقلبُ على الأرضِ الخشنةِ ويتفحصُ نفسَهُ جيداً ويقولُ لنفسِه بثقةٍ : ( وأنا أيضاً منحني ربي نعماً كثيرةً ، أعطاني جسداً قوياً مشدوداً ونظراً ثاقباً وصوتاً عالياً ، وأشياءً كثيرةً يمكن أَنْ يحبَّني الناسُ مِن أجلِها ) .
ويعودُ ويضربُ كفاً بأخرى ويقولُ :
- فقط لو أستطيع استخدامها بشكل صحيح !.
ولم يكن يعرفُ أنَّ تلك الليلةَ ستؤثرُ كثيراً في حياتِه بعد ذلك .
صحيحٌ إنَّهُ لم يستطعْ أنْ يكفَّ عن النباحِ .
إذا جاعَ نبحَ .. إذا رأى شبحاً نبحَ .. إذا شاهدَ لصاً نبحَ .. إذا لمحَ شرطياً نبحَ .. إذا خافَ نبحَ .. إذا غضبَ نبحَ .. إذا فرحَ نبحَ .
لكنه لم يعدْ يُخِيفُ أحداً بنباحِهِ أو يُروِّعُهُ ، ولا يحبُّ أنْ يُزْعِّجَ شيخاً أو مريضاً ، ويساعدُ مَن يستطيعُ مساعدتَهُ ، ويحرسُ البيوتَ التي يتغيبَ أصحابُها ، ويمنعُ اللصوصَ والغرباءَ من الأقترابِ منها .
ولم يعدْ يعبثُ بصناديقِ القمامةِ ، وأصبح حريصاً على نظافةِ نفسِه وشارعِه وبلدتِه .
بعدها لاحظَ أنَّ الناسَ تغيروا معه وأصبحوا لا يهربون منه كما اعتادوا .
على العكسِ ، بعضهم أصبح يُحضرُ له الطعامَ كلَّ يومٍ ، وأحدُهم طوَّقَ رقبتَهُ برباطٍ جلدي جميلٍ – حسدَتهُ الكلابُ عليه وقالَ أحدُهم إنَّه مِن جلّدِ التمساحِ و لابُدَّ إنَّ ثمنَهُ ليس بمقدورِ أغلب الكلابِ أنْ تدفعَهُ .
وحين تسألهُ الكلابُ باستغرابٍ :
- وكيف أمكنكَ أنْ تكسبَ حُبَّ الناسِ ؟
يهزُ ذيلَهُ مزهواً ويقولُ بتواضعٍ وثقةٍ :
- ليسَ بالكثيرِ ..
إنَّهُ أمرٌ بمقدورِ كلٍّ مِنَا أنْ يفعلَهُ لو أرادَ !.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق