الصفحات

2010/01/16

شارع بسادة: استلهام الموروث وصناعة الأسطورة




شارع بسادة: استلهام الموروث وصناعة الأسطورة

أحمد قرني محمد

البداية : استلهام الموروث
يستلهم سيد الوكيل روح التراث الشعبي والديني متكئا على معالجة أتاحت له صناعة أسطورته الخاصة في ( شارع بسادة ) هنا سنجد المتعة على قدر الأوجاع بالمفهوم الصوفي فعذاب الأبطال تمنحهم المتعة هذا هو منطق شخوص رواية "شارع بسادة" لا يوجد نشاز بين هذه الشخوص الموجوعة حتى النخاع "شارع بسادة" ليس مجرد شارع بل عالم ذاخر بالألم، الألم الذي يهيمن على الأحداث ويمنحها قوتها الدرامية هؤلاء المعذبون بأقدار ليس لهم طاقة على مجابهتها ولا فرصة للنجاة منها حتى تلك الأرواح الهائمة التي داسها القطار وتحوم حول النفق لتشكل طقسا في صناعة الأسطورة مثلما نعرف في الموروث الشعبي أن القتيل تظل روحه هائمة في مكان قتله تظهر بين الحين والآخر لتفزع الناس وتخيفهم تظل تلك الأرواح معذبة هائمة في نفس المكان تطارد القطار بالحجارة.. حتى ذلك المعذب سمير وهدان الذي استنجدت أمه بالولي لكي يهبها ذكرا وفعلا بدل الولي جسد البنت التي في بطنها إلى ولد ونسى أن يبدل روحها ، فخرج سمير إلى الحياة بجسد رجل وروح امرأة إنه يستلهم روح الثقافة الشعبية التي تمعن في إعطاء الأولياء كرامات وتنحهم قدرات ليست لهم ولذا تبدو تصرفات الولي وقدرته على تغيير نوع الجنيين في بطن أمه ـ وإن كان غير منطقي ـ إلا إنه يبدو داخل الرواية مقبولا من قبل الجماعة الشعبية التي تؤمن بهذه الأفكار ثم إن هذا التعديل أراح الأم لكنه عذب الولد بما يؤكد على أن اختياراتنا في الحياة قد تكون خاطئة فها هو سمير وهدان أصبح ذكرا لكنه معذب بروح الأنثى التي في داخله وهذا يعبر عن جانب من تراثنا الديني حين نسأل لماذا لا يستجيب الله تعالى الدعاء ؟ فتأتى الإجابة إن الله لكونه الإله وهو عالم بكل شيء فيرى في عدم إجابة الدعاء خيرا لنا ولو لم يستجب الولي لهذه المرأة لكان خيرا لها ولولدها لكنهما لا يعلما ذلك وهذا هو منطق الخضر مع سيدنا موسى حين كان يسأل عن أشياء يفعلها الخضر وتغيب عن موسى منطقها لذا كانت صادمة له ..لكن الخضرـ حسب القصة الدينية ـ كان يمتلك التبرير لعلمه بما كان سيقع من أحداث تغيب عن صاحبه وحدث الفراق بينهما كما تقول القصة لذا يقر في ضمير الجماعة الشعبية أن هناك دائما من يعلمون الغيب أكثر منا ولهم قدرات أكثر على اختراق فوانيين الطبيعة فها هو الولي قد استجاب لها وأصبح الذي في بطنها ذكرا لكنه سيظل معذبا بروح الأنثى التي تسكن جسده دون إرادة منه ( الناس تقول إنني أشبه أبى فولة وانقسمت نصفين الناس لا تنظر إلى روحي التي لم يستطع أن يغيرها أحد أنا نفسي مرتبك ولا أفهم رغبتي في أن أضع رأسي على كتف رجل أن أرتعش بمجرد لمسة منه أو حتى نظرة من عينيه تطال روحي قليلون جدا الذين يدركون اغتراب الروح عن أجسادها ....) وهنا يصبح سيد الوكيل صادما للجماعة الشعبية التي تقبل هذه الفرضيات المسلمة فهذا هو الولي وان كان استطاع أن يلبى حاجة الأم لكنة ما فعله كان كارثة على سمير وهدان وهذا القدر الذي كتبه عليه الولي لا فكاك منه ولا مهرب وسيظل سمير وهدان معذبا به طول عمره يبحث عمن يروى ظمأ روحه ....أيضا الرواية تستلهم الموروث الشعبي لصناعة أسطورة الملاك الذي يصادق الولد الخجول ونراه أحيانا طيبا إلى حد السذاجة حين يحمى الديان الصغيرة ويترك نادية فريسة للأولاد ثم ضحية للشيخ الأعمى وهنا يبدو الوكيل صادما للجماعة الشعبية أيضا فبينما ترى هي الملاك كائنا نورانيا لا يخطئ أبدا فإن سيد الوكيل بالإشارة تلك يهز داخلنا مسلمات كثيرة عن رؤيتنا المثالية لأشياء قد لا تبدو في حقيقتها كذلك كما أنه رصد الملاك الذي حاول أن يدخل جسد نادية وهذا صادم أيضا لحس الجماعة الشعبية التي ترى أن (المس ) من أفعال الشيطان فقط ويدخل في معتقداتها أن الجني هو الذي يعجب بالإنسية ونرى ذلك واضحا حين تسكن إحدى شخصيات الرواية الدير ( وقبل ذلك كانت تسأل نفسها في ليال ذات ريح تسكن زوايا الدير إن كان بإمكانها أن تطلق عفريتها لمرة أخيرة ) ص 99وتمتلئ الحكايات الشعبية عن الجني الذي خطف أنسيه جميلة وتزوجها وما يفعله الوكيل هنا هو دور المثقف التنويري الذي يهز معتقدات الجماعة ويحثها على نقد أفكارها ثم تظهر شخصية خادم الجامع بهيئته المعهودة في تراثنا رجل يحفظ القرآن وهو بالقطع أعمى وهؤلاء العميان من المشايخ يكونون موضعا لقصص وخيلات شعبية عن فحولتهم الجنسية ثم إن الجماعة الشعبية ترفض بشدة واستهجان كبيرين أي خطيئة تصدر عن رجال الدين فيكون الجرم عظيما وهذا ما اتكأ عليه سيد الوكيل حين جعل مغتصب نادية خادم للجامع فالرجل المنوط به حماية الفضيلة هو الذي يرتكب الخطيئة وتلك لازمة في خيال القص الشعبي وحكايات الناس في الحواري وعلى المصاطب ولا أدل على شخصية راسبوتين القس الشهير الذي ارتكب الفظائع في ثوب الدين بل هي أضحت من كلاسيكيات المسرح وأضحت من التراث الثقافي وهنا يسقط الوكيل القداسة التي تمنحها الجماعة الشعبية للرجل المنتسب للدين
· الشخصيات : إن سيد الوكيل كان بخيلا في طرح تاريخ معظم الشخصيات عدا سيدة آلاجا وسمير وهدان حيث ذكر بعض التفاصيل عنهما وباقي الشخصيات تظل معلقة في الهواء لا نعرف قدرا من تاريخها فلا نعرف شيئا عن الجدة الوحيدة التي تصادق ملاكا ولا عن الأم التي تركت وليدها وعادت إلى رجلها ولا عن ناشد أو مارسا إلا حين تقع الخطيئة بينها وبين على ثم مقتل على أظن أن سيد الوكيل أراد أن يعزل تلك الشخصيات عن ماضيها وتاريخها ويقدمها هكذا مثل أبطال الأساطير بعذابها حيث لا يكون هناك مبرر لهذا العذاب كما أن طرحها بهذا التناقض وهذا التمزق هو كمال الاتساق مع مجتمع يفرز هذه الشخصيات باعتبارها منتج من منتجات مجتمع متناقض يحمل بين طياته تلك النماذج
· ليس لدى سيد الوكيل ثرثرة الروائيين التي تتحدث في كل شيء وترصد أدق التفاصيل ومن هنا اختلف عن غيره من أبناء جيله اختلف من حيث التركيب اللغوي الذي لم يكن بتلك السهولة ولا البساطة المعهودة في السرد الحالي ونقرأه في معظم الروايات الآن واختلف من حيث انه قدم لغة محتشدة بالمعنى الذي يفتح الباب لتأويلات عديدة اتسمت بالإيجاز البلاغي حين انقسمت الرواية إلى مقاطع قصيرة بيد أنها تحوى دلالات أوسع كما أن الإيجاز الدرامي وعدم الولوج في تفاصيل ثانوية كثيرة يذكرها الكاتب حول الشخصية مثلما فعل مع مارسا حين وصفها بكلمات قليلة ( لكنى سأحكى لكم عن بنت اسمها مارسا بضفيرة واحدة وعينيين بنفسجيتين يفاجئها الحيض وهى على دكة المدرسة ) (ص 27الرواية)
· لم يكن الوكيل مهموما برصد المكان الذي أوهم به عنوان روايته (شارع بسادة) بمعناه التقليدي حيث ظهر مثلا وصف بسيط عن شارع بسادة وعن منزل الفخرانية ويذكر سيد الوكيل ذلك حين يخلع على المكان صفاتها الخاصة فيقول ( البيوت أيضا لها صفات وأسماء أصحابها ....كل شيء هنا له حضور من لحم ودم ..) (ص 86 الرواية ) وكما نقول في المثل الشعبي ( البيوت أعتاب ) ( اكنس البيت ورشه ما تعرف مين يخشه ) دلالة على أن البيوت قد تدخلها أرواح شياطين أو عفاريت ..الخ أو قد ترفرف عليها أرواح أصحابها الذين رحلوا مثلما حدث مع بيت "على" وكذلك قد ترفرف الروح على المكان الذي تسكن فيه المحبوبة ( يا أبت صل لعلى فروحه عالقة في ديرنا هذا ) لذا خلت الرواية من وصف دقيق للمكان لأنه بات ـ بمعناه التقليدي ـ حدثا ثانويا بل هو الفضاء الروائي الذي تلتحم فيه الشخصيات مع الأمكنة بجملة علاقات متشابكة ويبدو المكان جزءا متفاعلا وحيا على ما سنرى في الدراما والأحداث وبرغم أن الكاتب قدم عنوانا تقليديا يعطى دورا للمكان كأنه مسرح للأحداث التي تقع وصار العنوان مراوغا فهو يحيلك إلى المكان الذي في الواقع وربما جاء تسميته باسم حقيقي لإيهام المتلقي بمصداقية الحوادث وواقعية المجتمع الروائي وإذا كانت رواية شارع بسادة هي رواية شخصيات وليست رواية حدث بما يعنى حسب تقسيم أدوين موير أنها تحتفي بالمكان فهو يرى أن "العالم الخيالي للرواية الدرامية يقع في الزمان، وأن العالم الخيالي لرواية الشخصية يقع في المكان ) لذا كان احتفاء الوكيل بالمكان في الرواية بحيث صنع فضاء حقيقيا يشكل تلك العلاقة بين المكان والشخصيات ساهم في صناعة الأسطورة حول بعض الأمكنة فمثلا هناك النفق بما يشكله ويحيل إليه من تقابلات ضديه عن الإقامة والانتقال والحياة والموت داخل النفق والنور الذي يمثله مصباح وحيد أطفئه الشيطان والنيران التي أشعلها العربجية وبين الظلمة وكذلك الحديث عن ساكني النفق من الأشباح وهم الناس الذين دهسهم القطار يوما وما يستقر في ذهن الجماعة الشعبية عن العفاريت والجن التي تظهر في تلك المناسبات كما أن النفق يشكل معبرا للغرباء إلى المدينة حيث تقع أحداث الرواية كل ذلك ساهم في صناعة أسطورة المكان حيث ضبابية الصورة لنرى تصوير المصباح الوحيد الذي أطفئه الشيطان وكذلك الحديث عن الأرض الفضاء الممتلئة بالحلفاء (أرض أبى خليفة التي تسعى فيها الأرانب وعلى رأسه خص سيدة ألاجا )( ص الرواية52) أيضا بيت على الذي ينتظر الناس كلما أمطرت أن يقع لكنه لا يقع هذا البيت الذي جعل زينب سليمان تطوف به بعد موت على وأمه حسرة عليه هذا البيت الذي هو (ظلام ورطوبة سحيقة..) ص 97 (إنه بيت مبارك بالعناق والشهوة تسكنه أرواح الغرباء فلا تكف عن الرفرفة بين جدرانه من أجل هذا كنت أعرف أنه لن يسقط فقط بالمطر كان يغتسل ويبدأ من جديد ) (ص 98 الرواية) هذا الوصف المتشابك بين ما هو حسي وبين ما هو معنوي يسكن في حس وضمير الجماعة الشعبية حين تؤمن بأن البيوت المهجورة تسكنها العفاريت ويمتلئ المارون بجوارها بروح الرهبة والحذر هذا أيضا ساهم في صناعة تلك الأسطورة لذا لم يكن المكان مجرد مسرح تجرى في محيطه الأحداث ليس هذا إهمالا لقيمة المكان لكن يبقى المكان في شارع بسادة في مواضع كثيرة من الرواية حيا نابضا مشكلا فضاء تتشابك فيه العلاقات بين البشر ليصنع الوكيل من عالمه الخاص الضيق شخوصا وأحداثا وأزمنة تنفتح بتشكلها الجديد وتتشابك مع العالم الإنساني الأرحب
· تقنية المونتاج الزمني والعودة بمكنة إلى الوراء حيث يثبت الزمن في لحظة نهاية عام وميلاد عام جديد ومن ثم تتدفق الأحداث من نقطة ثابتة بحيث تعود بنا شيئا فشيئا إلى الوراء وكان الوكيل رائعا حين ينتقل من اللحظة الثابتة الآن إلى الماضي حيث تحطم مفهوم الزمن مزيلا الفوارق بين الأزمان، هذا الاشتغال على الزمن كما يقول إبراهيم العريس في كتابه "لغة الذات والحداثة الدائمة" يعطي إحساساً بأننا نقرأ رواية أبدية، رواية يتوقف فيها الزمن الحقيقي متيحاً للكاتب أن يدخل في تفاصيل أفكار الشخصيات. وإذا جاز لنا أن نصف (شارع بسادة ) بأنها رواية تداعيات لا رواية أحداث علي أن هناك ظاهرة أسلوبية لافته لابد من العروج عليها وهى استخدام سين الاستقبال لدلالة على زمن الفعل في هذه الرواية، فهناك أحداث مسرودة في الفصل الأول مثلا مسبوقة بسين الاستقبال بحيث نري ذلك لازمة في السرد مثل (سنسمع بضع دقات لساعة الجامعة ....) ص7 ( الملائكة طبعا ستبقى في المدرسة ....) ( ص23 من الرواية) ( لكنى سأحكى لكم عن بنت اسمها مارسا ) (ص 27من الرواية ) ( فيما بعد ستقول جارتكم (أم طارق ) لما ضبطتك تنظر إلى مؤخرتها من تحت لتحت ) (ص 79 من الرواية) ولنا أن نتساءل: ما هي دلالة هذه السين الاستقبالية هل ترسم المسافة الفاصلة بين زمن الكتابة وزمن وقوع الحدث؟ أم هي زمن المستقبل الماضي الذي تعرفه بعض اللغات الأجنبية ولا تعرفه اللغة العربية وهذا الزمن زمن الماضي المستمر مألوف في بعض اللغات الأجنبية ومنها في اللغة الانجليزية فتراها متجلية في مواقع من السرد داخل الرواية فيقول مثلا ( أما مارسا فكانت جميلة وطيبة وتحتفظ بين نهديها بصليب كبير ولم تفكر لحظة أنها سوف تقف أمام قسيسها وتردد وراءه إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل ) وهذا التوتر بين الزمنيين يخلق لدى المتلقي الحماس للبحث عن مصير الحدث أو الشخصية وعندما يصل سيد الوكيل إلى نهاية الرواية يعود إلى نفس النقطة الزمنية الأولى حين ينتظر رجب العربجى وهدان داخل النفق وبدأها بقوله (حمد الله على السلامة يا حاج ) (ص 91 من الرواية )
· اختلاف الراوي في مقاطع عديدة إننا أمام نص روائي متميز، تمكن من حبك تقنيات السرد عبر تداخل الضمائر السردية التي تراوحت بين ضمير الغائب وضمير المتكلم الذي يستبطن الذات، بشكل لافت، بل إن تداخل الضمائر لم يكن ملحوظا من مقطع إلى مقطع بل داخل المقطع الواحد مثلا (ص 91 من الرواية ) انتقل من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم دون فاصل ... و تتعدد أصوات الرواة وتتداخل الضمائر الذي نبه "ميشال بوتور" على أهمية الضمائر في السرد وهذه الانتقالات من ضمير لآخر في الرواية تعد من أهم ملامح الكتابات الجديدة في السرد و في (شارع بسادة) نرى مثلا في المقطع الأول نجد الراوي بضمير المتكلم (نحن ) (نحن في مساء الجمعة في تمام الساعة الثامنة والنصف بالتحديد في تلك اللحظة التي يصدق فيها الشيخ عبد الباسط سنسمع بضع دقات لساعة الجامعة ....) (ص 7 من الرواية ) ثم نجد ضمير الغائب في المقطع( ص67والمقطع ص 61 )وقد استعمل سيد الوكيل ضمير المخاطب الذي يعد أحدث الأشكال السردية عهدا لنقرأ ( ومن قبل كنت تمرن عينيك على الجارات اللاتي يطلعن بنهودهن في الشرفات وكنت ترى أن حمالات الصدر السوداء هي الأكثر إثارة لنهود البنات ) ص79 فضمير المخاطب يعطي قدراً من الانفعال وقدراً من العاطفية، ومن الوعظ وقدرا من السخرية وقدر من الهجوم على القارئ والإزعاج المتعمد، وهذا النوع من الضمير يوجه السخرية للشخصية التي يكلمها أو لنفسه، ولكن في الوقت نفسه تنسحب السخرية على القارئ لإزعاجه.وأتصور أن لعبة اختلاف الضمائر تبدو كما لو كان السارد ممسكا بكاميرا ويحول التقاط المشهد من عدة زوايا فها هو الملاك الذي أحب نادية وذاب عشقا بها ها هو يواجه صديقه الولد الخجول حين خاطبه بنقده اللاذع عن تقصيره في حماية نادية البنت البريئة وحمايتها من الأولاد ومن شيخ الجامع ص 72 ثم ومن زاوية كاميرا أخرى بضمير المتكلم يعترف الملاك ( أنت يارب لم تدخلني في تجربة وهذه أشياء لا تفهمها الملائكة حتى إني تركتها بين فخذي الأعمى وانشغلت بجمع الديدان ....فمن يحمى مخلوقاتك الصغيرة من الهلاك غير ملاك صغير ؟) ص 106 فعندما اختلفت الزاوية التي نرصد بها المشهد اختلفت بالقطع الرؤية وبالتالي حكمنا على الأشياء فبينما كنا نعتب على الملاك من قبل لكننا عدنا وأشفقنا عليه كأن سيد الوكيل أراد أن ينتقد بشدة ثقافتنا العربية التي ربما تنشغل بالصغائر أحيانا عن القضايا الكبيرة وربما يحدث هذا عن غير قصد منا وكذلك بيت الفخرانية حين تناول أسطورته من خلال حكاية الجدة عن المهرة التي انطلقت من البيت ولم تعد ولا يعرف احد حتى الآن أين هي ولا أصحاب البيت الذين كانوا معها هذا هو الخيال الشعبي الذي ينزح إلى تبرير الأحداث بخيال جامح لكن الملاك يعدل إلى الرواية الحقيقية وهى أن المهرة نزلت إلى النهر فجأة بعدما أفزعها صوت انفجار في مصنع الغزل وهنا المحاولة من جانب الوكيل لانتقاد البنية الثقافية للجماعة الشعبية التي ترضى بالرواية الأولى التي تجنح نحو الخيال والخرافة
· إن خبرة تفتح الحواس في بدايتها وإحساس المرء بجسد تجتاحه اللذة والعنف لأول مرة تلك الرغبة الطازجة تغرى سيد الوكيل فيرصدها في أكثر من موضع فمثلا يقول عن على ( أبدا لم تكن مجرد نظرة لولد السطوح على امرأة تستلقي وتعرى فخذيها للشمس ....كانت يقظة الحواس الأولى التي مازالت تخايلك بوخزاتها البرية ) (ص 79 الرواية) يقول الملاك ( كيف أعرف بيقظة الحواس وأنا لم أجربها ) ويقول عن مارسا ( لذلك كان من الضروري أن ينقطع التيار الكهربائي فجأة ويصمت الكون تماما هذه اللحظة التي تستيقظ فيها الحواس فجأة حيث تتعطل فوانيين القبض والبسط ) (ص 100 من الرواية ) وعن سمير وهدان ( أذكر أول مرة دخلته كنا أطفالا ولم تكن روحي قد استيقظت بعد )
· هل هي كتابة الجسد ؟
إن الانغماس في تفاصيل الوجع الجنسي والميل للآخر المقابل الضد تلك الثنائية حيث يبلغ الجسد ذروته في اشتهاء الآخر هل يضع تلك الرواية في تصنيف كتابة الجسد الجسد الذي لا يهدأ ولا يكف عن الانفعال بالغريزة إلى مداها ويصل التأزم إلى سقوط على الولد الطيب الذي يشبه النبي في الخطيئة مع مارسا لأن يديه طالت نهدى مارسا ولأن الجسد ينتفض بالشهوة فنجد المرأة العاهرة سيدة ألاجا التي تفتح بيتها للرجال والمرأة التي تركت ابنها وحيدا مع جدة مسنة وعادت لتلبى نداء جسدها مع رجل آخر ونادية التي تركت عليا ينام على سريره وخرجت إلى الصالة للقاء بائع القفف ص 49 إن سقوط الملاك في النهاية هل هو حدث لصالح الرواية ؟ هل هو سقوط لقيم المثالية نحو قيم المادية هل هو سقوط للروح أمام شهوة الجسد الوحيدة التي نجت هي زينب سليمان التي حرصت الرواية على أن تقدمها ببراءة ، زينب هي الفتاة التي أحبها الولد الخجول ورسم صورتها بشكل مختلف عن الواقع بحيث صورها على هيئة ليست كهيئتها( لكنها بنت رومانسية والله صحيح هي شهية ولكن بلا وهج كزهرة قرنفل ومباغتة بلا ارتعاش يسكن جسدها ثم إنها لا تشبه صوفيا في شيء لكن الشيطان هيئ للولد ذلك حتى يعيش في الغواية فنهداها طالعان بلا تفجر وما في عينيها حزن وليس شهوة ) ص 32 لذا نلمح رغبة الكاتب في الخلفية حين ينزع عن زينب كل صفات الأنوثة التي هي صفات الغواية ربما لأنها رفضت وردته الحمراء التي وضعها لها في كتاب الجغرافيا الولد الخجول ! هل هو انتقام منها أن سلبها كل صفات الإغراء كأنثى ربما !
· هل شارع بسادة رواية النخبة ؟
كون الرواية ليست رواية أحداث بالدرجة الأولى، بل هي رواية مونولوج داخليّ و تداعيات ذهنية تعتمد اللغة ميداناً لعملها وتحرّكها، هذا النوع من الرواية لا يستهوي كثيراً من القراء الذين يبحثون عن نمو الحدث السرديّ والعقدة والحل والصراع،هل يجعلنا نطلق عليها الحكم بأنها رواية النخبة المثقفة مثلما يتحدثون عن الأفلام التي لا يقبل عليها الجمهور على أنها أفلام مهرجانات هل سيد الوكيل يخاطب النخبة الواعية المثقفة فقط ؟ هل يريد الوكيل قارئا بعينه على درجة من الوعي ؟
· سؤال الاتفاق والاختلاف في الرواية
ولعل من مزايا هذه الرواية أنها استطاعت أن تجمع شتات الهم الإنساني المشترك برغم الاختلاف ...فمثلا يبدو الفارق الاجتماعي بين سمير وهدان وسيدة آلاجا من حيث الطبقة الاجتماعية العلاقة الجنسية بين على ومارسا تختلف عن واقعة الشيخ الأعمى مع نادية وحسونة بالقطع يختلف عن سمير وهدان ..الخ أيضا خطيئة مارسا تختلف عن خطيئة سيدة ألاجا فبرغم من وجود تشابه ظاهري بينهم لكن في واقع التجربة يوجد اختلاف كبير
· الانتقال من الرسم بالصورة إلى الرسم بالكلمات
تدهشك قدرة سيد الوكيل على تركيب الصورة في شارع بسادة التي تظل تمنحك رؤية بصرية لترى لوحات مكتملة وتدهشك حتى لتظن صاحبها أحد الرسامين فتلك الطاقة الشعرية الكامنة داخلة تحولت إلى مشاهد تشبه لوحات فنية مثل تصويره داخل النفق لذا يبدو في الخلفية البعيدة صراع بين ما هو في شارع بسادة وما هو قابع داخل لوحات الولد الخجول ..إن هناك شخصيات تظهر في لوحات الولد مثل سيدة ألاجا ( رسمها بقلمه الرصاص فوق ورق البريستول الذي اشتراه خصيصا من مكتبة المعهد امرأة ورجل يتحادثان وفتى نحيل بساقين مكشوفتين ينام بجوارهما ..........ثم جعل خلفية المشهد غائمة كأنه عفار تسبح فيه رؤوس حمير وبقر وبشر هذا يعنى أن السوق الذي طلب منه مدرس الرسم أن يرسمه لا وجود له من غير سيدة آلاجا )ثم نقرأ تعليق الملاك على تلك اللوحة (والله أنا لا أفهمك يا ولد كيف ترسم وجها فيه كل هذا القبح وتظنه جميلا ؟ ) ص 33 ونلحظ ذلك أيضا مع حسونة ( ظل يحفر الوجوه على حوائط الطين ثم يتحدث إليها بعد أن يعجب بها الله يمنحها أرواحا ملونة لكنه لا يمنحها مصائر أخرى غير تلك التي حفرها في لوح مسطور فمثلا ذلك الفتى الذي يمشى في السوق ويصدم مؤخرته بالفلاحين ....) ص 29 وينتهي المقطع بقوله ( هل الولد شرير هكذا حتى ليعجز قلبه عن الخفق إلا لصور يرسمها الشيطان ؟!) ثم ينتقل الولد البدين لكي يرسم بالكلمات بديلا عن التصوير بالرسم ص 39 ( ليس كمن يرسم على جدار أو لوحة الولد البدين يرسم بالكلمات مشهدا سيجعله شيئا ساكنا في مساحة من الزمن وربما عالقا هناك ) ويبدو وكأن شخصية السارد تتماهى في شخصية المؤلف
· سنجدنا على مقربة شديدة من أنفسنا ومن السارد / المؤلف حين يطرح أسئلة شائكة اخترقت محدودية العمل الأدبي حيث تطرح الرواية أسئلة صعبة عن الخير والشر عن المقدس والمدنس عن الشيطان والملاك لقد أجاد الوكيل في طرحها بمهارة دون مباشرة أو سطحية ليمنح الرواية بعدا إنسانيا يتخطى حواجز المباشرة ويلج بعمق إلى قضايا إنسانية تظل تشغل العقل البشرى من قديم الزمان ولا يكف عن طرحها دون إجابة شافية لأنه ببساطة لا توجد إجابة شافية أسئلة عن الخير والشر عما نملكه ولا نملكه عن فعل الاختيار الإنساني وهذا ما بدا واضحا في قول الملاك للرب ( هذا ليس عدلا فنادية كانت بريئة وأطهر من قطرة ماء تنز من عرشك العظيم ......لماذا تعذبها من أجل خطايا الآخرين ) ص 70
· الميل لذات النوع
ويظل السؤال هل أسئلة الرواية وموضوعها يقعان في دائرة اهتمام المتلقي الآن إن ما يكسب أي رواية رواجا هوـ تحديدا ـ الإجابة على هذا السؤال وإذا كانت الرواية تقدم جنسا وتقدم الشذوذ والمثلية فإنها لا تقدمه على انه مادة للتسلية وخداع المتلقي ودغدغة مشاعره مثلما يفعل معظم الكتاب الآن ولكنها تقدمه في شكل أسطوري يتكأ على وعى الكاتب بتراثه والجنس في شارع بسادة أداة الكشف عن الجمال وعن القبح الإنساني في آن واحد فهو الخلق والإبداع حتى أن الملاك يناجى ربه ( نعم أحببتها منذ رأيتها أول مرة مع العيال تلعب تحت شجرة التوت هي بريئة وجميلة وعشقي لها مثل عشقي لجمالك وجلالك عل الأقل اسمح لي أن أطير بها ولو لمرة واحدة ) ص 70 ( كان على ينفخ النار ومارسا تمد أنفها وتستنشق فتجدها أنفاسا ذكورية لها رائحة خوض النخيل المبلول التي تغمرها بالفرح في آحاد السعف ) ص63 هذا الوصف لاشتهاء امرأة برجل يقترب من العشق الصوفي ... تبقى طرح قضية شائكة مثل المثلية قدمت الرواية شخصية حسونة الذي تحتك مؤخرته بالناس في السوق وشخصية هذا اللقيط الذي لا نعرف له أبا ولا أما ولا تقدمه الرواية في سياق تاريخي للشخصية ولكننا ندرك بحدسنا أن حسونة مثال لمعظم اللقطاء أولاد الشوارع الذين يمارس معهم كافة أشكال الرزيلة أما سمير وهدان فهو شخصية الشاذ جنسيا بكل ما يحمله من أفكار وأحاسيس وربما بطريقة علمية أيضا من خلال رصد مشاعر هؤلاء بالاغتراب والعذاب الذي يعيشون فيه وحتى طريقة التعامل المجتمعي معهم وطريقة تعاملهم مع أنفسهم لكنه حين عالج مسألة السبب نهج نهجا فلكلوريا حين تحدث عد دور الولي في تغيير نوع الجنيين في بطن أمه فجعله يبدل الجسد وينسى الروح وأظن أن الوكيل أراد أن يرصد فكرة اغتراب الروح عن الجسد لدى الشواذ فقدمها بهذه الصورة لكنه وفى الآن نفسه قدم بعدا آخر يبدو جديرا بالاهتمام وهو الحديث عن رفض الأب ليكون( أبو البنات) وسعيه للحصول على ولد وقد استعان أيضا الوكيل بالأغنية الشعبية ( لما قالوا لى ده ولد ...انشد ضهرى وانسند ) بما يجعل الثقافة الشعبية مسئولة عما وصل إليه سمير وهدان وهو نتيجة حتمية لسلوك المجتمع القمعي الذي يرفض البنت ويزهو بالولد وهو عين ما هو مطروح في الثقافة الإسلامية التي هي جزء مهم ورافد من روافد ثقافتنا التراثية بل حين تنتقد ذلك الذي يمتعض وجهه حين يبشر بالأنثى هل لهذه الثقافة دور في الشذوذ هذا ما تجيب عنه الرواية في ملمح هام فكثيرا ممن يطرحون الظاهرة يغفلون عن أسبابها وتصرف المجتمع هذا التصرف العدواني هو في حد ذاته شذوذ اجتماعي إن صح التعبير.... لكن يبقى أن نقول أن سيد الوكيل ظل محافظا على الصورة النمطية عن الشواذ من خلال رسم هيئته على أنه غلام مخنث بشعر أصفر تابعه وهو يصف حسونة ( وفتى أمرد يسير ويا للغرابة في السوق بين الفلاحين رافعا زيل جلبابه كاشفا عن مؤخرته بلا خجل ) ص 31 ثم يصف سمير وهدان ( بعد سنوات سيمشى في نفس الشوارع ولد جميل بعينيين رماديتين وشعر أصفر وجسد أبيض ممتلئ قليلا ...) ص 95 وهو نفس الصورة للشاذ التي ظهرت عند نجيب محفوظ في (زقاق المدق )صورة الغلام الرقيق المخنث الذي يشبه الفتاة وسيرصد الوكيل صورة مقربة لمجتمع الشواذ حين يرصد كيف يتم التعارف بينهم ( يراجع ص 101،102 من الرواية ) ومن ثم فالرواية وان رصدت الشذوذ فإنها لم تقدم احتقارا للعلاقات المثلية
· ينسج سيد الوكيل من حكايات الشخصيات مادة روايته مقيما معمارا تتداخل فيه حكايات شخصياته وتتراكب ويضيء بعضها بعضا ويوضح البقع الغامضة في بعضها الآخر عبر مقاطع أظن أن كل مقطع يصلح أن يكون قصة قصيرة بما تملكه من لغة شاعرية محتشدة بالمعنى وإذا كانت الحكاية المركزية في الرواية هي الولد الخجول الذي تركته أمه مع جدته ، حكاية الراوي نفسه، فإن حكاية حسونة وحكاية سيدة ألاجا ونادية وسمير وهدان وعلى مع مارسا لا تقل مركزية عن تلك الحكاية الأساسية التي تشد الحكايات الأخرى إلى بعضها بعضا والتي تتداخل من حيث إعادة إنتاج ذات المشهد بتصوير ورؤية مختلفة مثل مشهد مقتل على ،ومشهد نادية مع الأولاد والشيخ الأعمى وهو بهذا يخلق جسدا متماسكا حين يقوم بإعادة تركيب المشهد مرة أخرى وبرؤية أو زاوية مختلفة ليدخل إلى بنية الرواية وتمتزج المقاطع فلا نرى هذا الفصل بين المقاطع التي يقوم بتضمينها في جسد حكاية شارع بسادة وتوزيعها على مدار النص انعكاسا لمبدأ تعددية المراكز داخل النص للوصول في النهاية إلى لحظة الذروة وصعود الحكاية إلى أعلى وتمرد الملاك برغم أننا نلحظ انفصال كل حكاية عن الأخرى لكن يبقى ذلك العالم الذي نجحت الرواية في تحقيقه متماسكا
· تتجاذب رواية شارع بسادة قوتان: قوة الأرق الوجودي الذي تمثل في صراع الثنائيات الخير والشر الروح والجسد المقدس والمدنس الملاك والشيطان ، وقوة الحكايات اليومية وعنف الواقع هنا يتجادلان لصناعة تلك الأسطورة حيث تتقارب القوتان وتمتزجان إلى حد كبير وتمحى الفواصل تماما حتى يصير الخير والشر متلازمين فنجد التعليق على مقتل على ( ولماذا ولد طيب مثله يموت ميتة بشعة كهذه ؟) إن خلفية المثقف هنا تقف وراء السارد ليمتلك الدور النقدي لنقد تلك المقولات الجاهزة التي تنتجها ثقافة تميل إلى الفصل التام بين ما هو خير وما هو شر وتعطى لكل كائن دورا فملاك طيب وخير طوال الوقت والشيطان شرير طبعا لكن الرواية تطرح رؤيتها المختلفة عبر النص والحكاية تبدأ من ( عندئذ أمسك الشيطان بيده ووضعها على نهد مارسا الذي فوق القلب ) ص47ناشد الذي كان يحب عليا ويصفه بالنبي يقتله ثم نكتشف بعد قليل انه ضحية سمير وهدان الذي وشى به انتقاما منه لأنه تركه وهو في الحقيقة ضحية أمه التي كانت على علاقة بتاجر القفف الذي كان يأتيها في البيت هنا تلتبس الحقيقة فيبدو على جانيا في نظر ناشد لأنه اعتدى على زوجته مارسا وهو في ذات الوقت مجني عليه من أمه وسمير وهدان ثم نرى أن سمير وهدان نفسه هو ضحية لعبث الولي بجسد ه وهو في بطن أمه ثم نرى مشهد قتل على الذي ظل ينزف دون أن يهب أحد لنجدته أو حتى مجرد التعاطف معه برغم أنه ولد طيب كما تقول الحكاية إلا أن جريمة الخيانة التي تقبع في ثقافة و ذهن الجماعة الشعبية على أنها جريمة بشعة منكرة حالت دوت نجدة على حتى بشربة ماء قبل أن يموت والرواية تقدم وترصد مشهد على كما شاهدناه كثيرا في السينما الكلاسيكية حينما نشاهد مصرع العاشق تحت شباك محبوبته وهو يضع كلتا يديه على صدره ويرتفع ناظريه إلى الشباك الذي في الأغلب سيكون مغلقا ( هذا هو الباب الذي توقف عنده على ليموت ولا احد يمكنه أن يخبرنا إن كان على قد فكر لحظتها في مارسا أو أنه تمنى أن تشهد من شباكها موته المقدس ) ص 85 موت العاشق في سبيل محبوبته شيء مقدس في الثقافة الشعبية والثقافة العربية عامة فقصائد الشعر تذخر بمشاهد تمنى الموت في سبيل الحبيبة بداية من امرئ القيس وحتى أصغر شاعر عربي
· التناص مع التراث الديني من خلال حكاية الملاك الذي وقف على باب حمام نادية يريد أن يدخل أحلامها بجسده الشفاف فلا يستطيع ومن ثم يقف في نهاية الرواية أمام ربه طالبا منه أن يمنحه ذلك الجسد (أما الآن وقد أصبحتُ شابًّا يافعًا، فامنحْ لي جسدًا حتى أسكن أحلامها فلا أتركها حتى ترتوي، لأخلصها من خطيئتها الأولى، أو أني ـ وعزَّتِك وجلالِك ـ لأُغْوِيَنّهم أجمعين" وهى تتناص مع حكاية الشيطان الذي رفض أن يسجد لآدم لكن كلا الحكايتين تفترقان في نقطة هامة فبينما يرفض إبليس أن يسجد لجسد آدم نجد الملاك في شارع بسادة يتوق إلى الجسد ! أيضا حكاية على التي تقترب من حكاية النبي يوسف حين طلبته امرأة العزيز الذي كان يعمل عنده وعلى هنا لا يستطيع أن يرفض مارسا لأن الشيطان ساعده على ارتكاب الخطيئة التي كانت مارسا مهيأة لها ( أما مارسا فجذبته إليها بقوة وصخب إذ كانت مهيأة تماما للمسة واحدة حتى إن عليا أضطر أن يضع كفه على فمها كي لا يسمع ناشد زفزفاتها ) ص 47 وامرأة العزيز فعلت نفس الشيء حين جذبت سيدنا يوسف إليها وامرأة العزيز كانت مهيأة هي الأخرى حين فتنها جمال يوسف عليه السلام وكادت الخطيئة تقع لولا أن رأى يوسف برهان ربه أما علي أيضا كما تقدمه الرواية ولد جميل وقد وقع في الخطيئة بمساعدة الشيطان والرواية تصف عليا بكل صفات العفة الطهارة ( ما كان عليا سوى ولد طيب يمشى سرحان ورخيا فلا يكاد يلمس الأرض ولا يحدق مثلنا في النساء ...) ص 64 ثم يأتي الشاهد في الرواية الدينية ليعقب على الحدث فيسأل عن موضع قطع القميص إن كان من قبل أم من دبر وهو عين ما حدث مع على حين رأى ناشد الجروح التي في رقبة على نتيجة لأظافر مارسا وهو فعل معها نفس الشيء كما لاحظت مارسا وهى تغتسل ويدل سمير وهدان زوجها ناشد على مكان الجروح ويقتل على بينما يسجن سيدنا يوسف وفى نهاية القصة تعترف امرأة العزيز ببراءة يوسف أمام الملك وكذلك فعلت مارسا في اعترافها أمام قسيسها ( وبعدها يا أبت عملت بضع خطايا في ليال آخر لكن الله آمين وعادل) ص
· الأسطورة والواقع والتراث والغرائبية إن طرحا كهذا يحتاج إلى قدرة شعرية كبيرة والى لغة رمزية كثيرة الإحالات والمرجعيات والمقاصد يستند الكاتب فيها إلى لغة المجاز والتشخيص وتوليد الاستعارات الرمزية الشاعرية، وتوظيف الكنايات والمستنسخات النصية تقترب من الغنائية الشعرية وهذا بالتحديد ما فعله سيد الوكيل في هذه الرواية أنظر إلى ذلك المقطع الشعري ( البنت التي تأوي روح البنات كلهن.... طلعت السلم... وجاءها الهواء حزينا فلم يمسها ..ومع ذلك فهي تضم فستانها بين فخذيها... وكلما قاربت الحافات ...وتتأمل طيور السماء تحوم في جماعات صغيرة... فيما يرقص الثعلب على سطح البيت المقابل ...ويرقص دون أن يلفت انتباه أي طير... ربما كانت مشغولة بجراحها اليومية ...والشيطان الذي انتهز الفرصة وقف يرسم صورته بنفسه ) ص 61( الآن وظله يلمسها على سلم الدير لابد سوف تميل مراكبها بعنف مباغت يسمح بانسكاب عطرها فوق درجات السلم وسوف تحس عفريتها يموج في أسفل بطنها فتقول آه وتضطرب فيضحك عفريتها إلى لم يصدق بعد كل هذه السنيين يمكنه الآن أن يطال روحها أيضا وسوف تمتلئ بلذة طازجة وكأن كل شيء يكون بالحقيقة قائم فتحس رطوبة الظلال والوهج وينتشي جسدها المبلول والماء على زهرته يشف ) ص100، 1002 ثم نرى مشهدين متقابلين عن النفق ص39 إن هذه الطاقة الشعرية تسرى في جسد النص الروائي فتمنحه دلالات أوسع وتأويلات تنفتح وفضاءات لا أعرف كيف امتلك سيد الوكيل تلك الشجاعة ليحكى لنا بتلك اللغة في زمن أدار الكتاب ظهورهم للمجاز وارقونا بمقولات عن رفضه والتخلص منه
· ما الذي يدفعنا إلى التلصص على شخوص الرواية هؤلاء حيث تقوم قوانين الجنس بدور القدر اللحوح المتسلط الذى يُخضِع كل شئ ، والذى لا يمكن لأحد أن يفعل شيئا ضده شارع بسادة تطرح نضال أبطالها ضد هذه الحالة ساعية بشكل أو بآخر إلى تحرير الجنس ساعية لاكتشاف النطاق الحقيقى للتنافر والصدام والتناقض بين شخوص الرواية . والذي لا يتحدث عن مجتمع من الأولياء الأتقياء إنه مزيج من الخير والشر والثورة ليست دائما في يد الأخيار من الناس بل إن تنامي الإحساس بالعجز و عدم كمال العالم هو بداية الإقدام على الثورة إنها تطرح أحداثها بوصفها افتراضا وليست احتمالا والدخول إلى منطقة تسمح بالتقاطع مع أشكال السرد حيث تتجاوز الرواية حدود النوع ليتجاور ما هو شعر وما هو قصة وما هو رواية كما يبدو السؤال الملح هل شارع بسادة هي رواية لغة حيث تحتشد اللغة المجازية الغنائية لتنتج دلالتها في السرد ؟ أم هي رواية سيرة ذاتية أو الرواية السير ذاتية التي تنطلق من الداخل لتعبر عما هو موجود وحسي وخارجي أم هي رواية أفكار تطرح أسئلة عن المعاني الكبيرة عن الوجود والخير والمقدس والمدنس أسئلة أرقت الناس قديما ومازالت ؟
· الموت وفعل التطهر
· يبدو الوكيل متعاطفا مع أبطاله المقهورين المدفعوين مضطرين الى السلوك المشين والى الخطيئة المبررة أحيانا و حيث الحضور بشكل أو بآخر لإرادة المؤلف أقوى بكثير من التطور المتواصل للحدث حتى النهايات المتشائمة مثل مقتل على ومارسا تدخل الدير مارسا الفتاة ذات الجمال والجسد المتقد بالشهوة تقف لتواجه عجز زوجها ناشد ومرضه ( ومارسا التي لم يتقوس ظهرها تحت رجل منذ باغت الدرن صدر ناشد جذبته إليها وبكت فتقاطرت الدموع على شعره وعندما رفع رأسه إليها قالت أنفاسك طاهرة يا على فقرب منى شفتيك ) وهنا يصبح مقتل على وموته نوعا من التطهر من الخطيئة يرضى الجماعة الشعبية بل ويدفعها إلى التعاطف معه وهنا يهب المورث الشعبي ليعطى مقتل على نوعا من البطولة لكي يفدى محبوبته وخاصة وصفه لمشهد الدم الذي سال حتى شباك مارسا ولا يدع حتى سيدة ألاجا حتى تشعر بفتور الجنس والوهج والحماسة لديها هي وعشيقها القديم عنتر تاجر المواشي الذي تموت زوجته ثم يأتي فعل التذكر وما جره عليهما من حسرة وفتور الشهوة يساوى الموت عن سيدة عاهرة ثم إنه جعلها تعطف على الولد حسونة ويتطهر سمير وهدان باعترافه انه السبب في مقتل على ويبوح بحبه له وانه وشى به عند ناشد انتقاما منه لتركه... وموت أم الولد الخجول ربما تطهيرا لها حيث تركت ابنها عند جدته سنوات وعادت لتمارس الشهوة مع رجل آخر... وتموت نادية هي الأخرى بعد موت ابنها حسرة وألما عليه تطهيرا له حينما كانت تترك عليا بمفرده في السرير وتخرج إلى بائع القفف فسنجد دائما الموت هو فعل التطهير من الخطيئة ... وقد بدا واضحا حكم الكاتب على العالم حيث العفو العام عن أبطال الرواية العفو عنهم والغفران لهم . وهذه نتيجة حتمية حيث الابطال غير قادرين على حل مشكلاتهم بإيجاد حلول وسـط مناسبة حيث أنهم مدفوعين دفعا إلى مصائرهم المحتومة إضافة إلى ذلك أيضا وعدم وجود تبريرات لائقة لأية حلول وحيث نجد الرواية صادمة لثقافة المتقى الشرقى الذى جبل على عدم اختراق مقولات نشأت فى ضميره عن الحرية والاختيار وعن الملاك والشيطان وعن المقدس والمدنس وأى اقتراب من هذه الحدود فهو اقتراب محفوف بالمخاطر حيث اعتاد في قراءاته على أن جزاء المذنب دائما هو العقاب سواء البشرى أو الإلهي ومن هنا فإن الرواية تبدو وقد حققت أهدافها في الظاهر حين تخلصت من أبطالها المذنبين لكي تحقق الرضا الاجتماعي لكنها ومنذ البداية تدفع تلك الجماعة لكي تعيد النظر في مسلماتها وقد نجحت في أن تخلق تلك الحميمية والتعاطف مع أبطالها إلا إنها تبدو صادمة فيما تقدمه لهذا المجتمع من رسالة تنويرية تدفعنا جميعا أن نسلم بأن المقولات الجاهزة لا تصلح إلا لإنتاج تلك النماذج وتميل الرواية إلى النهاية المفتوحة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق