الصفحات

2010/02/16

الحياة بحثا عن المكان (مجموعة "مجرد بيت قديم" لأحمد طوسون نموذجا)

الحياة بحثا عن المكان (مجموعة "مجرد بيت قديم" لأحمد طوسون نموذجا)

د. أحمد عوض جنيدى

أصدر أحمد طوسون ثلاث مجموعات قصصية هي "مجرد بيت قديم" 1999، و"شتاء قارس" 2000 ، و"عندما لا تموء القطط" 2003 .
تتجلى فى المجموعه الأولى رؤية مشبعة بروح التأمل العميق قي المكان من جوانب متعددة تتبادل الظهور والخفاء ، أو السعة والضيق من دون تناحر أو فوضى . وهذه الرؤية أيضا قرينة البحث عن العلاقة الممكنة في عقولنا عن روح المكان الذي يشكل ما لا نتصوره ، ويرشد إلى ما لا نعرفه بحيث يصبح منفذا للإطلال على فضاءات واسعة ، مهما تكن المساحة التي يشغلها في السياق النصي .
تتكون المجموعة من عشر قصص يحظى المكان فيها باهتمام بالغ ، فهو هم القاص وشاغله الأول ،ذلك أنه موجه للاتصال بين الشخصيات القصصية والرابط بينها ، بل إنه ذاكرة ثقافية تختزل فيها الشخصيات تجاربها المتنوعة بين السعادة والشقاء ، فيغدو بؤرة مفتوحة على كل الاحتمالات .
وعلى الرغم من أن الشخصيات بائسة ،مطاردة ،تفتقر لأقل مقومات المعيشة ،لكنها تحاول العيش ، والبحث عن متسع لتحولات الحياة بالهروب إلى الداخل باعتباره بديلا عن معاناة الخارج ،وفى الوقت ذاته ضربا من التحدى الذي يعيد صياغة الواقع المعيش ،لاسيما عندما يشتد الضيق بالشخصية . والمعنى أنها شخصيات إيجابية لا تستلم للمحن وإنما تجيد التحول ، وتعي ما تقدم عليه .
ترتبط الشخصية بالمكان في صوره المتنوعة وهو ما يجعله عنصرا حيا متفاعلا معبرا عن المظهر الخارجي للشخصية ، ومتعمقا في أغوراها .
ولعل توظيف المكان يشي بدينامية النص القصصي وثراء الخيال والإحساس المرهف بجمالياته ، فليس ثمة انشغال بالأبعاد الجغرافية للمكان ، حيث ينصب الاهتمام على المكان المتخيل عبر الذاكرة ، فيرسم صورة فنية موحية ، تفض مغاليقه ، فتنفتح الأمكنة بعضها على بعض من خلال مسارات متكاملة تمضي إلى فضاءات غير محدودة .
يتغلب الشقاء في تجربة الشخصية القصصية على السعادة ، وإذا صح ذلك ، فالحياة نفسها لا تكتمل إلا بالاستقرار في المكان وهو ما لم يتحقق بالرغم من أن المواقف المتعثرة التي تتعرض لها الشخصيات – بالرغم من قسوتها – لم تثنيها عن التشبث بأمل قد يأتي ، فتتصدى بضمير خالص دفاعا عن حقها في الحياة . ذلك "أننا ننسى غالبا أن هناك تأثيرا متبادلا بين الشخصية والمكان الذي تقيم فيه ، وأن الفضاء الروائي يمكنه أن يكشف لنا عن الحياة اللاشعورية التي تعيشها الشخصية"(1) .ومن ثم نرى وجه الشخصية في المكان ونلحظ المكان مضمرا في جوهرها .
يبدو اهتمام أحمد طوسون بالمكان في جميع أعماله القصصية ، وفي هذه المجموعة خاصة ، التي تتميز بتضمين المكان عنوانا لها . ويمكن تقسيم المكان إلى قسمين فيها:
أولا: الأماكن الضيقة. وينضوي تحتها :
البيت – المدرسة – الشرفة والنافذة – الزنزانة – الشارع – الرصيف .
ثانيا : الأماكن الواسعة . وتشتمل على :
القرية – المدينة .

أولا: الأماكن الضيقة:
أ: البيت :
مكان الألفة ، وعلاقة الإنسان به ممتدة ، يؤثر بدرجة كبيرة في شخصيته – إيجابا وسلبا – ويحفظ سره وكينونته وانتماءه لجذوره ، ويحميه من الخارج في حالة الصدام والتنازع . وطبيعي أن يعكس البيت أسلوب حياتنا وذاكرتنا وذكرياتنا أيضا . ولعل هذا ما أراده وارين بقوله "إن بيت الإنسان امتداد لنفسه، إذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان" (2). ولعلنا نألف في البيت الدفء والأمان والراحة والهدوء ، وغيرها من المعاني الدالة على الحب والانتماء والتجذر . فالبيت هو الإنسان ، والأخير لا يحيا من دونه ، إذا فقده فقد إنسانيته وطمست هويته ، وضاعت معه كل حقيقة . وفي كل ذلك ما يؤكد فكرة التداخل والتماهي بين البيت والإنسان . ولا يقوم في التصور حدوث تنافر بينهما إلا إذا تصورنا استغناء الإنسان عن ذاته ، والمعنى أن البيت استشفاف لروح الإنسان ، وصحة الانتماء ، بحيث يبدو أن نكران ذلك يؤدي إلى عدم معرفته لنفسه ، ولا يكاد يعرف غيره .
تتفاوت صورة البيت في المجموعة بين الضيق والاتساع على النحو الأتي :
1: نموذج البيت الضيق:
يرادف السجن من زاوية الضيق والإغلاق والإحكام ، ففي قصة "مفتاح الجنة" تصطدم الشخصية ببيت موحش ، تشي محتوياته المبعثرة فوق "إفريز النافذة" بالفوضى والعبث من جانب ، والحياة القاسية بما تتضمنه من شقاق بين الشخصية القصصية وأشياء البيت من جانب آخر .
تئول صعوبة التعايش ، واستحالة الحياة في البيت إلى مجموعة حواجز مادية ومعنوية ، فالحواجز المادية تتمثل في محتويات المكان : "على إفريز النافذة لمبة جاز بفتيل محروق وكتاب ورقه أصفر كأوراق الخريف وحشرة ميتة بين خيوط عنكبوت عجوز ، دولاب صغير بضلفة واحدة وقبقاب من الخشب أسود اللون – لم يعد له صوت – تحت السرير النحاس ، قشور الجير غطت صورة الجد المعلقة على الحائط وسحلية صفراء – من شق الجدار – تطل على الولد الجالس فوق السرير ، سكون له طعم الأيام القديمة ورائحة البكارة" (3) .
تحمل أشياء البيت أمارات الخراب المطل من جميع الأركان ، فاختفت معالم الحياة وحلت محلها ملامح الحقائق التي يصعب النظر إليها ، حيث إن الزوال المصاحب لتولي الزمن وعصفه بمحتويات البيت حاضر ، والوحشة الدالة على انقطاع الحركة في المكان
منذ زمن بعيد لا تخطئها العين حتى نسجت العناكب خيوطها ،وصار مأ وى للحشرات الميتة. والمدهش أن الولد يجلس فوق السرير متجافيا عمن حوله على الرغم من أنه لايستطيع الاستغناء عن البيت لكنه فى الوقت نفسه غير راضى عما أصابه من بلى ولذلك كان العجب هو عدم رفض الولد للأشياء غير المنظمة حوله ،وعدم تنكره لها وإن لم يحفل بها. وكأنه في راحة من التأمل والفكر غير قادر على التواصل مع الماضى "صورة الجد" أو الحاضر" أشياء البيت " إنه الإحساس بتسرب الزمن، وإخفاق الالتئام مع البيت نظرا للسيطرة المحكمة عليه .
تمضي الحواجز المادية مثل السيل تعصف بما تبقى داخل الشخصية القصصية ، فتجد نفسها أمام حصار من نوع آخر ، حيث السلم الخشبي الجاثم فوق صدر الولد ؛ ليحول بينه وبين محبوبته ، "كان الولد تحت السلم الخشبي بمدخل البيت وأمامه تقف البنت ، وفوقهما تهدل حمامتان "(4). يشكل الموقف ثنائية المقيد/المطلق ، أو المغلق / المفتوح . وهنا يكمن التناقض بين أعماق الشخصية القصصية المقيدة وحركة الطائر الحر الذي يصعب أسره . فالصعود مثل الطائر المحلق مطلب مهم ، وغاية ينشدها الولد/المحب . لكن النزول "تحت السلم" إلى ما لا نهاية مصير لا مفر منه . ذلك تركيب متناقض بين الداخل والخارج ، وعليه يتسرب الحب – مثلما تسرب الزمن – من دون أن يتحقق حلم الانطلاق .
ولا تقف قيود المكان عند هذا الحد ، ولكنها تتخطاه مضيفة معوقا جديدا يصعب احتواؤه – وإن كان على المستوى المعنوي أعمق – ممثلا في صوت الأب وعصاه التي تلاحق الولد في اللحظة التي يكاد يقترب فيها من البنت . يظل الولد على حاله ، لا يبذل أدنى جهد ليقاوم هذا الخليط المتنوع من الحواجز ، فالمناوشة لا تنتمي إليه بسبب ، على الرغم من أنها تزكي البحث عن أشيائه / محبوبته ، وتحرك العقل – ولو من خلال موقف جزئي – للسؤال عما يقوض أحلامه ، ويحاصر وعيه ، فالمهم ان تكون ثمة حركة نحو خطوة صعبة – مواجهة الأب – لكنها موجودة .
ولا غرو أن تأتي الحركة على غير المتوقع فيفر من قسوة الأب إلى حجرة الجد متحصنا بها من البيت وأشخاصه وزمانه . ولا غرو أيضا أن الولد لم يكره البيت ، وكأنه ينتظر لحظة الخلاص ، التي تأتي مع السحلية ، فتبدد ما بداخله من جدل مضطرب ، لم يظهر بعد ، "وهي تنظر إلى أحلام عينيه الصغيرة وخبطت اللمبة الجاز فسقطت من فوق إفريز النافذة – على الأرض – " (5) . يظل الولد على حاله حبيس مخاوفه وهواجسه . ولكن يبقى التأكيد على أن الصعود إلى المطلق ، وتحرر الشخصية القصصية من قيود المكان لن يتحقق بالهروب إلى الخارج ، أو الصمت المرادف للعجز ، وإنما بإعادة صياغة محتويات البيت لتناسب طبيعة الشيء المدفون الذي يقفز عند الحاجة ، وهو الوجه الفعال الباحث عن تحرير النفس .
وإذا مضينا وراء هذا النموذج ، تتكشف لنا صورة مغايرة للبيت ، بيت بلا أب، وذلك في قصة "مجرد بيت قديم" يعود الرواي /ضمير المتكلم من الغربة ، فيفاجئه زحف الزمان على بيوت القرية ما عدا البيت القديم ، وتغير أحوال الناس حتى أنه صار غريبا عنهم وعن نفسه ، وحينئذ تداعت على ذهنه تلك المكانة السامية التي كان عليها في الماضي، وهو صورة تناقض واقع الحال ، فهناك مسافة زمنية ممتدة تفصل بينهما .والمعنى أن الشخصية والبيت يقعان خارج إطار الزمن الحاضر ، وعلى الرغم من أن حركة الحياة داخل البيت نفسه قد أهملت – لبعد عهد الشخصية به - فهو "كونها الأول"(6) ، الذي يسهم في إعادة اكتشاف وجودها الحقيقي ، ويفصل وعيها المتميز عن المحيط الخارجي .
لا مفر إذن من صعوبة التأمل ، ربما استدل على شيء كامن متماسك داخل المعالم الطللية المتداعية ، وربما ساعده ذلك على الاطمئنان إلى أن اختلاف البيت عن البيوت المحيطة به لا يعني الهلكة والتصدع . إن التأمل لا يقرأ المحسوس الذي يعيش وحده في الذاكرة ، لكنه يتتبع معاني العلو التي تناسب منزلة " البيت الوحيد الذي ما يزال بالطوب اللبني" (7) . وكأن البيت يدعوه للبحث عن جوهر التحولات القاسية التي أدت إلى اختلاط الأحداث واضطراب موازينها ، وعزلة البيت عن زمان القرية وبيوتها ، "وعندما فتحت الباب شممت رائحة الموت تسكن فوق جدرانه وأزمنة قديمة ترقد مستسلمة لخيوط العناكب وغبار السنين وتعجبت للحوائط التي تهدمت والسقف الذي تهاوى "(8).ذلك الخطر الداهم الذي أتى على محتويات البيت المسئول عنه الزمن الحاضر . وعليه فلا عجب أن يتأمل "الراوي" البيت ليقوي صلته بهذا الوجود – ليس هروبا من الحاضر – ويستمتع بالعودة إلى الماضي حيث التناسق الحميم بينهما . "وتذكرت أيام كان بيتنا أكبر دوار في القرية والنخلة التي كانت تتوسط حوشه " (9) . فالماضي قرين السعة ، والأخيرة يرادفها الامتلاك غير المحدود الذي ينتزع صورة الهدم والصدع من حاضر الشخصية على سبيل النقيض، ويقاوم عوامل البلى. فـ "المكان الذي ينحذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ، ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط ، بل بكل ما في الخيال من تحيز ، إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية " (10) لا يعني الرجوع إلى الماضي إظهار الألم والحسرة ، أو الفرار إلى الداخل ، ولكنه يشي بقوة دفع تحقق توازنا مفقودا مع المحيط الخارجي ، وتزيد الرغبة في الإمساك بما تبقى من معالم البيت ، لعلها تتضمن وجودا ينبض بالحياة ، وتعزز مسعى الشخصية في الإقبال عليها ، وأيضا توثق عراها بمعاني الأصالة والشموخ والعطاء "النخلة" ، مادام البيت مكانا للوفرة والسعة . لكن غبار السنين أكثر إيلاما ، فالنخلة " لم يبق منها سوى جذع محترق حوله قواليح محروقة وأرائك خشبية سقطت أقدامها " (11) . حاضر خال من الإشراق ، حيث يمضي البيت في اتجاه مغاير لحركة البيوت في القرية ، فتهاوت بعض جوانبه ، وبقي بعضها الآخر يقاوم صامدا أمام نوازل الدهر ، "وزهرة صبار وحيدة أمام قبر جدتي " (12) إن نداء الشخصية قوي يثبت الفراغ وينفى العدم . لقد أثرت وقائع السنين في البيت فتهاوى بعضه أمام المتغيرات الحياتية التي نازعته ، فلم يبق منه غير الصورة الطللية ، وصرعت أصحابه "الجدة" فرحلوا تاركي الراوي على الهاوية يعاني الإحساس بالخطر " سامحيني يا جدتي ، وكنت أراها تنظر بوجهها الملائكي إلى الحوائط المتهدمة والسقف المتهاوي والنخلة التي احترقت وأسمع أنينها الشجي"(13) . تشكل الصورة التي عليها البيت انزياحا لمعاني العلو والرفعة والقدم وللقيم المتولدة عنها أمام أمارات الهبوط والتدني والانكسار ، فلا يعثر إلا على غربة غارقة في ليل طويل حالك ، فيؤثر الرحيل ، إذ لا يستطيع البقاء إلا إذا دخل في علاقة إيجابية مع الحياة الجديدة في القرية ، وهو ما يعمق شعوره بمأساة المكان ، فتغدو الغربة عالما دلاليا واسعا ، وتجربة مؤلمة مظلمة مثل ظلمة البيت " ويحط الليل على البيت القديم " (14) ، ويرحل الراوي ليبدأمع الغربة دورة جديدة مجهولة .
2:نموذج البيت الواسع :
ليست البيوت كلها معتمة ومعوقة عن الحركة ، فثمة بيوت يشع فيها الضوء ، وتفوح منها رائحة البكارة ، وتعمها الألفة ، ومثل هذا البيت الذي يظلل الشخصية القصصية أعز عليها من نفسها ، تحمله معها أينما وجدت وتربطه بها علاقة حميمة على نحو ما نجد في قصة "فصل 2/1 " لم يستطع الطفل أن ينسى حياة سابقة - في ذلك البيت – لها وقار ومكانة، فقد شب على حب البيوت الكبيرة ذات الحدائق الخضراء الواسعة الباعثة على الحركة والانطلاق ، يقول " بباب حديدي كبير وسور عال وحديقة كبيرة وصالة فارهة تتسع لكل زملائي في الفصل ، وحجرات كثيرة وأخرى خاصة ، بها سرير نظيف ومكتب ودولاب يمتلئ بالملابس الجديدة واللعب الجميلة وراديو صغير كان بيتنا " (15).
يعبر صوت الطفل عن ماض خالد في أعماقه ، ويكشف أغوار نفسه ، وأحاسيسه الآنية في علاقته بالبيت وأشيائه الجميلة . وهذا كله ليس بمعزل عن أزمة حياة قوية يعيشها، لكنه يلتمس من صورة الماضي وجها إيجابيا يواجه به سطوة الفقد ، ويقاوم من خلاله التغير، ويتواصل مع معاني الثراء ، والارتقاء المادي ورغد العيش من أجل الإمساك بتلك اللحظة المدبرة وإدخالها في تركيب جديد معقد يواجه به واقعه المعيش ، حيث " تتخلق صورة المكان من خلال الحركة فيه ، والحياة به ومن خلال التعامل معه بوصفه بديهية ، كحقيقة من حقائق الحياة ، إن لم يكن هو حقيقة الحياة الأساسية " (16) . إن التحول الشامل من السعة إلى الضيق يرمي إلى تصوير فجيعة الطفل لما آلت إليه حال البيت . لقد غابت كل معاني الحياة ، وألوان البهجة ، فأثارت نوعا من المخاوف لديه ، تضطرب لها نفسه اضطرابا شديدا ، فيجادل في حقيقة وجوده في هذا المكان الضيق، "ولا أعرف سببا لوجودنا هنا في هذه الحجرة الضيقة مع كل هؤلاء ، أحب أن أكون مع أبي في بيتنا وأكره هذه الحجرة الباردة ، هؤلاء الناس وأغطيتهم الخشنة وخبزهم ومعلباتهم "(17) . فهذا واقع حال غير مفهوم بالنسبة إلى الطفل ، يعيشه بصعوبة لا تخلو من أسى عميق ، فهو لا يعرف المداهنة، ويحتج على وجوده في عالم غير العالم الذي ألفه بكل أسباب الرخاء . ناهيك عن البعد القسري عن أبيه ، وفقدانه لمعاني الدفء والحنان . فالحرمان الحاصل هنا مؤثر وفعال، ويصعب التنكر له
يمثل العالم الجديد الغريب صعوبة كبرى للطفل ، فالمكان الضيق ، المحدود ، المكدس بالغرباء حقيقة جاثمة فوقه ، بات التنصل منها مستحيلا . إن كراهيته للمكان الجديد، وحالة اليتم التي قفزت فجأة إلى حياته حركت لديه فكرة البحث عن القيم الضائعة ممثلة في البيت الواسع ؛ باعتباره قيمة وغاية يدفع عنه الموت ، وفي الأب المعطاء ؛ قيمة وغاية تنهض بقوة الحضور الإنساني ، ومن دونهما لا تستقيم حياته . هذه الصورة تتناقض مع صورة البيت الضيق والأب المتسلط في قصة "مفتاح الجنة" . أما قصة البيت القديم فيقع في منزلة بين هاتين المنزلتين .
على أية حال فالبيت في المجموعة القصصية جزء لا يتجزأ من حياة الشخصية ، لا تحيا من دونه سواء أكان ضيقا أم واسعا ، مهجورا أم عامرا بأصحابه ، يحمل دلالات أشمل من معناه المتعارف عليه ، باعتباره قيمة في حياة الشخصية القصصية لا تساوم عليه ، ولا ترضى عنه بديلا .

ب:المدرسة :
المدرسة بفضائها الرحب ، وحجراتها المغلقة ، وحركة الأحياء فيها تأتي بعد البيت مكانا مألوفا يوفر الأمان والحماية ،وتغرس المعاني السامية والقيم الإيجابية . من هنا تعلق الطفل بمدرسته وأساتذته وأصحابه ، خاصة "فصل 2/1 " الذي يحمل عنوان القصة ، فالمدرسة الأولى بالنسبة إليه وجود يحقق له انسجاما واتزانا ، ومن دونها يشعر بالاختلاف والاختلال . إنها المكان الذي يمتلك فاعلية جوهرية في تشكيل وجدانه فغدا ذا ملامح تحمل خصوصية متميزة ، لا يكاد يشاركه فيها غيره .
تتنازع مدرستان داخل الطفل ، المدرسة القديمة التي تلقفته بعد البيت ثم المدرسة الجديدة التي رحل إليها مكرها ، وربما أدى ذلك إلى تفاوت نظرته إلى المدرستين بين السعة والضيق . ولا يتحدد المكان هنا بأبعاده الهندسية ، بل في كونه حاملا لهوية الطفل التي تمنح المدرسة أبعادا دلالية عميقة ، فعلى الرغم من أن المدرسة الجديدة نظيفة وواسعة ومحاطة بالخضرة ، وفيها حجرات دراسية وتلاميذ ، لكنها خالية ومفرغة من الوجود " ولا أعرف لما انتابني إحساس غامض بالخوف ، فلم أكن أتخيل أن هناك مدرسة بدون أبلة الناظرة " (18). فالطفل مسكون بمدرسته القديمة لا يعرف العالم إلا من خلالها ، وتلك حيوية دافقة لا تهدأ ، ولا تستقر ، وإنما تمر عبر تموجات متتالية تجعله يشك فيما يراه ببصره ، ويجادل في حقيقة وجوده ، بل إن تخطي عقبة التواصل مع المدرسة الجديدة تمثل صعوبة كبرى. "عبثا كنت أحاول إبعاد صورة أبي وهو يحمل سندوتشات الجبنة والمربى وينتظرني عند باب المدرسة . ميرفت وعم حسن وأبلة الناظرة وأبلة بشات ، عبثا كنت أحاول إبعادهم عن طريقي حتى أرتدي ملابسي ، وأقسمت هذه المرة أن أسبق ميرفت إلى احتلال مقعدنا حتى تفاجئ بي . حين انتهيت من ارتداء ملابسي وسألت أمي إذا كان أبي سيحضر ويأخذنا إلى بيتنا أم سينتظرنا هناك . بكت أمي ولم تكن تنظر لي وهي تكلمني
-لا
-إنت هتروح المدرسة الجديدة " (19) تلك الباعثة على الوحشة ، حيث إن قسوة الحياة الجديدة التي انتقل إليها تشكل أزمة في وعيه فعلاقته بمدرسته القديمة علاقة وحدة روحية ، لا يجب أن يستبد بها المدرسة الجديدة ، ولا ينبغي لحركته أن تفتر بحثا عن مدرسته المهيمنة ، الحاضرة في مخيلته ، فما فرقته ظروف الحياة الصعبة – في مدينة السويس بعد النكسة – توحد وتجمع في وجدانه ، وتحرك في أعماقه لترويض نفسه ؛ محاولا التعايش مع الظرف التاريخي المفجع ، وكأنه في مواجهة واقع لا مهرب منه إلا بالولوج فيه " وفكرت أنه بالتأكيد ستوجد بالمدرسة الجديدة أبلة الناظرة وأبلة بشات وميرفت أيضا .. فعدت ووافقت " (20) .
لقد عجز منطق الكبار أن يقنع الصغير على الرغم من سذاجته التي لا تخلو من أبعاد دلالية بعيدة ، تجهد المتأمل في فلسفتها مهما حاول أن يقتلعها بسبب استقرارها داخله . لم يستطع أن ينسى حياة سابقة ، لها قيمة ومكانة ، ويحسن من أجلها المجاهدة والصدام . "عندما دخلت فصل 2/1 والأبلة التي كانت هناك قالت لي :
-لا يا شاطر إنت في 2/2
وحلفت لها أنني في 2/1 لكنها لم تصدقني وقالت لعم منصور :
-خذه إلى 2/2 " (21).
لم ينتقل الطفل وحيدا إلى المدرسة الجديدة ، لكنه حمل معه مدرسته القديمة وفصله ، فهو يرفض التواجد ، ويتجنب المشاركة ، ويتجافى عمن حوله ، بحيث يبدو قادرا على الاحتفاظ بصورة مدرسته التي تركها بل يخيل إليه أنه لم يبرح مقعده داخل الفصل . والمدهش أن الطفل لا ينتزع شيئا من المدرسة الجديدة وإنما يقوم بفعل سلبي ، يؤدي إلى عدم الاحتكاك بالعالم المحيط به ، وآية ذلك أنه مدرك لعدم قدرته على الانصياع للواقع المر الذي آل إليه ، وفيه أيضا إلماح إلى فطنته .
المدرسة الجديدة كابوس مرعب يرى فيه توحش المكان واختفاء الرفاق ، لكنه يتصدى للرؤية البصرية بذاكرته ، فلا يشاهد في المدرسة والفصل غير صورة أصحابه خاصة "ميرفت" ، على الرغم من وعيه الشديد بأن ما يراه حقيقة لا يدانيها شك . "وعندما أخذتني الأبلة التي هناك وأجلستني في آخر مقعد ..
قلت لها :
-لا يا أبلة أنا بقعد جنب ميرفت في أول تختة
ميرفت وقفت وقالت لها :
-لا يا أبلة أنا بقعد هنا لوحدي
في آخر مقعد جلست ، أمامي تتراص رؤوس صغيرة سوداء " (22) .
هذا الحوار غير المتجانس يوحي بصراع بين وجود وجداني وواقعي ماثل أمامه ، ويشير أيضا إلى امتداد دوافع القطيعة والبعاد والوحشة خاصة المفردات الدالة على المكان "هناك" و"هنا" . فالأولى تشي بالبعد النفسي والتجاهل والتنكر للـ "الأبلة " التي تناقض صورة "أبلة بشات" . والمفردة الثانية التي ذكرت على لسان الطفلة "ميرفت" تستدعي النقيض أيضا "ميرفت" التي كانت تجلس إلى جواره في مدرسته القديمة والوحيدة في حياته . لقد أسفر الجدل عن إقصائه ، ومطاردته حتى خلص وحيدا غير راغب ، لا يرى سوى سواد ممتد بامتداد الفصل .
ونلمح في الحوار أيضا حركة بطيئة وئيدة من ناحية الطفل ، تقابلها أفعال دالة على السرعة والأخذ ، كذلك الجذب والدفع اللذان لا يسلمان من القسوة " أخذتني – أجلستني" .
وكأنها تلقي به في مهوى سحيق . وإذا صح ذلك فهو منيع الجانب ، لا يميل إلا إلى المكان الذي يألفه ، وعليه توارت ملامح البراءة وعز التآلف والوفاق ، لذا راح يستحضر عهده السابق مع البيت القديم ، والمدرسة القديمة ، ورفاقه هناك تلك الصورة الدابرة في اللحظة الآنية ، وكيف غدت نفسه خربة ، "وغمرني شجن هائل ، فبكيت حتى دق جرس الفسحة " (23). هذا المعنى المستكن وراء الحس بالمكان الأول - الذي شكل رؤية الطفل للعالم المحيط به وللزمان والمكان حتى علا فوق المكان الضد / المدرسة الجديدة – قد يعني أنه لا حياة خارج نطاقه ما دام وعيه بالوجود سليل الوعي الحقيقي بجوهر المكان .
ج:الشرفة والنافذة
للشرف والنوافذ حضور حيوي وفاعل في إبداع القاص ، فالسارد يتعرف من خلالها على عالم الشخصيات الخارجي المسكون بدوافع الخوف ، ثم ينتقل إلى الداخل ، ويتغلغل في أعماقها ؛ليعيش معها لحظات التحول /الانتقال الباحثة عن المكان البديل ، على نحو ما تصور ذلك قصة " نادرا ما تمطر ليلة العيد" . يسيطر على الشخصية القصصية "الزوج" إحساس عميق بتسرب الزمن وانقضائه ، يتخذ من الشرفة مكانا تتوجه من خلالها عين الكاميرا نحو الشارع ، تلتقط ما يمور فيه من صخب يقف وراءه خليط غير متجانس من البشر بين الكهولة والطفولة ، أو العجز وعدم الإدراك . ولعل إحساسه بالتفاوت بين هذين النموذجين القابعين في المكان ضاعف من الحالة النفسية والشعورية لديه ."واقف في شرفتك تطل على الشارع بعجوز يسعل سنوات الكهولة ، وامرأة تحمل صاجات الكعك ، وطفلان يحاولان التغللب على العتمة..."(24) .
يرفض ما يراه فيتحول اتجاه العدسة نحو الداخل متعمقة في خلجات الروح الإنسانية، فينشأ الصراع بين المناخ المحيط به وعالم الداخل . ففي الداخل وعي قائم بذاته على معرفة ذات معنى دلالاتها أعمق من حدود الذات المنغلقة . إنه الانفتاح على أمكنة أكثر اتساعا ، "واقف وتلك الانقباضة التي تشبه مقصلة تقطع نشيج قلبك حبات مطر بارد تتساقط من نافذة الشرفة على الرصيف فترسم شوارع أخرى" (25). هنا مكمن الرفض والتمرد على المكان الضيق من خلال اكتشاف عالم آخر مرن يسمح بحرية الانتقال والعبور بلا حواجز مكانية أو حدود زمانية ، وتثبيتها في اللحظة الحالية من الحاضر المعيش . ذاك عالم لا يصفه لسانه وإنما يدركه حسه . والمعنى أنه واقع في قبضة الشرفة ، لا يكاد يبرحها حتى يعود إليها ، فتغدو لوحة هندسية يحفر فوقها مكانا له وجود مستقل ، ثم ينسق المناظر بحيث تتوالى معبرة عن معنى يتميز به ذلك الوجود المتخيل بحركته وحيويته .
تسمح الشرفة بإلقاء الضوء على حياة الشخصية من جوانب متعددة ومتناقضة في توازن متكامل ومتنامي . غير أن الصورة الجميلة تبددها ثرثرة الزوجة مع أختها ، حيث الإفاقة غير المرغوب فيها ، فيكتفي بالفرجة على ارتعاشة جسده المسكون بالعجز عن التواصل وعلى ارتعاشات جسد زوجه الممتلئ بالرغبة في الإخصاب (26)، بحيث تثبت الجدل المتناقض بين عدم القدرة والرغبة في اللحظة الزمانية . ترصد العدسة حالة الفتور الشامل من الداخل ، فتصور لحظة هروب الزوج من المواجهة في لقاء شديد القرب . وعليه فالنافذة والشرفة ملجأ يحتمي فيه الزوج عندما تطارده زوجه من الداخل فـ"يفتح الشرفة" ، وحينما لا يستطيع التواصل مع العالم الخارجي "يغلق النافذة ".
هكذا تتعدد المشاهد وتختلف الأصوات وتتناوب الأماكن داخل ديمومة سيالة توحي بصور جديدة لعالم الداخل والخارج ، ثم يتحرك المكان تبعا للمعطيات الحسية للشخصية ، لكن الزوج آثر الانغلاق على نفسه واختار العزلة عمن حوله مستسلما للارتعاشات التي تجدد طاقة المنبهات الحسية والعقلية ، وكأن الصيغة المناسبة التي تجمعه بالفضاء الخارجي وبزوجه في الداخل غير متحققة . ويمكن القول أن الذات " حملت معها المكان في عزلتها في مجالها الفكري والنفسي " (27) ، بالرغم من أن المثيرات حول الذات متعددة ، تدفعها للخروج عن الصمت ، وتجاوز أفق العزلة المفضية إلى تشتت النفس . فالزوجة مثير- ليس بوصفها جسدا – والأطفال المهرولون بالفوانيس مثير ثان ، والمطر المنهمر مثير ثالث . لقد أخفقت المثيرات كلها أمام عدم الرغبة في التواصل مع العالم المحيط الذي أحبط رغباته وأحلامه وأدى إلى تزايد احتمالات السقوط في أشمل معانيه التي تتأكد معه معاني السكون في المكان " كنت تغلق النافذة والمطر يزداد غزارة ، وعيناك تتابعان العروس والفانوس ملقيين على الأرض ... ويد زوجتك تلتف حول عنقك وتشدك إلى السرير . تطفئ نور الحجرة ونفس الارتعاشات الرتيبة تغزو جسدك ، لكنك كنت تسمع الأطفال وهم يهرولون بفوانيسهم تحت المطر وتعاودك تلك الانقباضة" (28).يفيض المشهد بتوظيف واع لصيغ الأفعال المضارعة التي تتوزع بانتظام يعكس حركة إيقاعية متناغمة ،ترتبط بالمشاعر المتذبذبة ،وتنساب بحركة تلقائية متتالية .ففي داخل اللوحة تنتظم أفعال تدل علي البطء والرتابة وكلهامرتبطة بحركة الزوج في المكان مثل "تغلق – تتابعان – تطفىء – تسمع – تعاودك "،وعلي النقيض منها أفعال لها قدرة علي استثمار الفعل الإيجابي المؤدي إلي حركة تفيض دلالة تغني عن التعليق والتفصيل نحو "يزداد – تلتف- تشد – تغزو – يهرولون " .
واللافت أن حركة الزوج المتسمة بالسلبية علي المستوي الظاهر تنحصر في فعلين "تغلق " و "تطفيء" وما عدا ذلك فالأفعال مرتبطة بالمشاعر والأحاسيس .وكأنه يتخلص تدريجيا من علاقته بالعالم الخارجي ؛لانشغاله بأعماق الداخل ،حيث الفضاء الواسع الذي شيدته "حبات مطر بارد تتساقط من نافذة الشرفة " ،ولعل روحه تنقبض لعدم التواصل معه ،مما يثري المشهد بتوازن متناقض ومتكامل ،قد يتحول في لحظة من لحظات الزمن إلي فعل له وجود في في الزمان والمكان .
د:الزنزانة :
يستحضر فضاء الزنزانة في نص "أغنية الذي مات " صورة تضارع صورة الزنزانة في عالم محمد البساطي (29) من حيث هدوء الشخصية وحركتها الوئيدة في المكان وقدرتها الفائقة على ضبط النفس ، فتقيم معه علاقة ود وألفة ، وهي لا تشغل المساحة الضيقة المحدودة المنغلقة كلها ، وإنما تكتفي بجزء يسير يسمح بموضع القدمين حتى يخيل إلى المرء أن هذه النماذج من الشخصيات قد تموت إذا خرجت إلى المكان الواسع . ذلك أن المكان الضيق يمنحها القدرة على التأمل ، وكيفية التعايش مع الظرف القهري . وكأن الزنزانة فضاء ممتد للحركة والفعل والتداعيات.
واللافت أن الشخصية في نص "أغنية الذي مات " تمتلك قدرة ما على التواصل مع العالم الخارجي ، بالرغم من أن " الانغلاق يعني العجز وعدم القدرة على الفعل أو التفاعل مع العالم الخارجي "(30). لقد ألفت الشخصية حياة الجدران، ليس لديها رغبة في الخروج ، فالكل يهرول حولها ، يقول" عراة يهربون ، يهربون وتبقى وحدك ، زنازينهم المغلقة فتحت أبوابها ، فتحت حجراتها ... ، ...، ابتعد الجدار يسقط فوق رأسك " (31) . أخفقت الزنزانة في التأثير على تكوين الشخصية ، وأسلوب تعاملها مع محيطها الخارجي ، بما تمتلكه الأخيرة من طاقة متجددة قد لا نعيها فتصبح مفتاحا لما يرجوه الإنسان من نور وحياة تحيا بها العقول ممهدة لذلك طريقا يخرج الإنسان بعيدا عن أفق المكان المحدود الذي تعانيه إلى فضاء أكثر رحابة وإشراقا . وهناك ملمح مهم في تركيب هذه الشخصية وهو الصمت الذي يكتنفها ، بيد أنه صمت الحالم الذي يحطم المسافات المصطنعة التي تحول دون تحقيق أهدافه، ويجد في ذلك لذة الحياة التي ترسم صورة ممكنة للمكان وحالة العجز والمهانة المحيطة به ، يقول له الراوي " اصرخ – لن يفيدك الصمت .
لن تقو على النهوض ، الطيور الغريبة على نافذة زنزانتك " (32) .
ضمن هذا الفضاء الذي يتيح للشخصية القصصية أن تكون ذات ملامح ملائمة لاستشراف المستقبل حسب تصوراتها لا تعبأ بما يدور حولها ، لكنها تعي ما تقدم عليه معتمدة على ذاكرتها باعتبارها خزانا لخبرات متراكمة تنشغل بها عن الفراغ المتطاول في أيامها ولياليها ، لا تملك له دفعا إلا ترك النظر في شأن الزنزانة والقائمين عليها . ناهيك عن أنها لم تنطق بكلمة واحدة ،ولم تستخدم أي حواس من سمع وبصر وشم ولمس في تعاملها مع المكان ، ولم تحاول استيعابه من أية زاوية ، وتظل على هذه الحال حتى تخرج من دون أن تغير الزنزانة شيئا في تكوينها الذي تحرص عليه حرصها على كل نفيس ، "تخرج الآن من زنزانتك ، نفس الشوارع والبيوت ، نفس الملامح التي اعتدتها ، نفس الاسم الذي كانوا ينادونك به .. الشبورة كثيفة ، لا أحد يعرفك ، لكنك تسير " (33) في عالمك الداخلي الذي يستوعب الفضاء الخارجي ويرادف في الأذهان فضاء مستوف واضح المعالم، قد يكون فيه بحث على المعرفة ومعنى الوجود ، إذ لا يكف نداء الحياة عن الدعوة لمواصلة البحث عن الحقيقة المطلقة التي غرستها الزنزانة في الشخصية القصصية ، فأضحت الزنزانة حقيقة لا يمكن إسقاطها ؛ لأن ذلك يعني عزل الأخيرة عن زمانها ومكانها وتصورها مفرغة من كل معنى.

هـ: الشارع :
مكان مفتوح يشكل ذاكرة مليئة بالمتناقضات ، فياضة بالتجارب ، ويسهم في ترسيخ مفاهيم متفاوتة ترصد تحولات المدينة وتطورها .وطبيعي أن ترتبط به الشخصية لتأثيره البالغ في ذاكرتها وعلاقاتها يصف حركتها فوق المكان حيث تختلط الحياة اليومية بالذاكرة التي تحاول تشييده كما تريد.
يقوم تصور الشارع في نصوص المجموعة على العلاقة الجدلية بين الواقع المعيش والذاكرة ، ففي قصة " نادرا ما تمطر ليلة العيد " ارتبطت حركة الشارع بلحظات التأمل العميق التي باعدت المسافة بين الشخصية والشارع بحيث تبدو محاولة الصلح بينهما عسيرة وغير مثمرة ؛ بسبب الحساسية والانفعال تجاه المكان .
والقارئ في النص لا تكاد تقع عينه على مفردة واحدة تحمل قدرا من الفرح أو الغبطة أو الدفء والنقاء المرادف للأحساس بالأمن والطمأنينة في الشارع . فالشخصية لا ترى فيه غير عجوز " يسعل سنوات الكهولة ، وامرأة تحمل صاجات الكعك ، وطفلان يحاولان التغلب على العتمة والصقيع بضوء الفانوس الملون " (34). والمعنى أن البحث عن الحركات والأصوات والتفاصيل لاتكشف إلا عن فعل الزمان وتجليه ، الذي يشكل ملامح الشخصيات القصصية . إن حضور الزمان في المكان يمارس سطوته ، ويجسد صورة الشارع وملامحه . من هنا تتحول الصورة البصرية إلى الداخل فتنشط عبر الذاكرة صورة على النقيض يغدو معها الشارع مهرجانا من الألوان والأضواء والأصحاب ، كل ما فيها يوحي بطبيعة الجمال ومظاهر البهجة . " تغلق خلفك الباب وتفتح الشوارع لخطواتك ، كل هذا الضجيج والأنوار والزينات وتفتد شيئا ما ، شيء أثير يحرك الحياة داخلك ، شيء يدفعك سنوات إلى الوراء ... ورق الزينة ، الفوانيس ، الشمع ، الصحبة ، ومباريات الفجر ، مدفع الإفطار "(35). يبدو أن ما يظهر على السطح أمام الشخصية من مظاهر لم يحل دون تعمقها في البحث عن شيء مفقود يعجز عن الإتيان به الضجيج والزينات . إن الانتقال من الخارج إلى الداخل يقدم شكلا من أشكال القهر الذي يمتد إلى أعماق التكوين النفسي للشخصية المحاصرة والحائرة في الوقت ذاته ؛ طلبا للمكان المرغوب فيه المرتبط بذكريات الطفولة .
بيد أن تلك الصورة القابعة في الذاكرة تذوب في الزحام ، وتظهر وجوه شكل ملامحها الصقيع (36). وسبب هذا الخلل والاضطراب أن الشارع مسئول عن سلوك الشخصيات ،ينتزع جلدتهم ، ويبدلهم جلودا غيرها مسكونة بالخوف الذي يرادفه عدم الشعور بالحركة الفاعلة التي يتسم بها الشارع .وعليه لا تكاد تختلف صورة الشوارع الخالية الكئيبة عن تلك المزدحمة مادامت لا تحض إلا على النفور والإحساس بالوحدة والكآبة ، ففي قصة "أغنية الذي مات " يستوي ما بداخل الشخصية القصصية مع ما تقع عليه عينها من صور مختلفة للفراغ والعدم المتسرب من الخارج إلى الداخل ، يقول "الشوارع واسعة وطويلة ، خالية وكئيبة تشاركك نفس الألم والحزن " (37) المتولد عن اختناقات الحياة اليومية الصاخبة التي يصعب معها العيش في مكان واحد.وإذا منح النص الشارع حركة فإنها تأتي على غير المألوف ، فتصير حركة فتاكة كما في نص " كتالوج الديكة والطاووس" "كان يعرف أن الشارع بحركته الشرسة لا يعبأ بخطوات السلحفاة " (38) تجلى الشارع بصورة لا مفر من مواجهتها وإعلانها وإدخالها في جدل لا يعرف المرونة قدر ما يعي أبعاد المأساة الحقيقية التي ترى أنه لا سبيل إلى التأليف بين المتناقضين ، وذلك عندما يصبح الشارع مدنسا ، ومسكونا بشبق الجنس والحياة فـ"صالة العرض تقع في الشارع رقم 13 " (39) حيث تمارس سلوكيات منحلة تبحث عن المتعة . لقد تجلت حركة الشارع – ويا لها من حركة – باعثة علاقات جديدة تمثل نسقا من النظام الطبيعي للمكان يصدم حس المتلقي حتى صارت هذه الممارسات غير مرضية ولا مجدية ،فهذا الرقم "حرصت نصف نساء البلدة علي حفظه ،وحاول نصف رجال البلدة علي طمسه من ذاكرة نسائهم ".يحمل الشارع ملامح نفسية وسلوكية منحدرة من المجتمع ،يصعب اجتيازها أو تجاوزها ،ويستخلص من عمق تجربتها مدي خيبة الآمال التي حلت بالمكان فغدا صنوا للملهى والأماكن المشبوهة ، وإن كان التشبيه فيه قسوة ، تلك ذروة المعاناة التي تنتهي بالرفض الكامل لهذه الممارسات التي تجمعه بمكان لايستطيع فهمه أو تقبله .
د:الرصيف :

يشهد حركة الشخصيات في غدوها ورواحها وأيضا تسكعها ، وأحيانا لحظات الأنس والمسامرة ، فهو مرتبط بتجاربها وشاهد على المتناقضات التي تعكسها هذه التجارب . من هنا غدا الرصيف نموذجا مختلفا عن الأمكنة سالفة الذكر . وتقدم قصة " ضفدع ليلي" صورة للمكان من خلال ملامح الشخصية التي لا تحمل اسما محددا مما يوحي بتعميمها على نماذج مماثلة .
واللافت أن الشخصية أضفت على الرصيف أبعادا مغايرة لما هو متعارف عليه . فالجسد " لم يعتد بكون الرصيف جافا جفوة قبر أو صلبا بقسوة مدية حادة أو كون اللزوجة العفنة لطفح المجاري كعادتها فوقه " (41) أضحى الرصيف بعد سقوط الجسد فوقه شاشة للعرض ذات مساحات مكانية متفاوتة ، وأصوات متباينة في حركتها وانفعالها سواء من جانب سكان الرصيف أم البناية المجاورة .
الرصيف إذن فكرة ذات أبعاد دلالية ، وليس مجرد مكان يشهد حادث يلتف حوله طرفان متناقضان ، تختلف نظرتهما إليه حسب المسافة التي تفصل كل طرف عن ذلك الجسد . أما سكان الرصيف فجزء لا يتجزأ منه ، فهو ملاذهم عند انقطاع صلتهم بالعالم المحيط ،وأما سكان البناية فمتحصنون داخل دورهم المنيعة ،لكن الحادث حول نظرتهم إلي الرصيف من كونه مكانا للمنحرفين والعاطلين ومن علي شاكلتهما إلي قيمةتخترق الجانب المفقود في حياتهم وتلامس المسكوت عنه في ضمائرهم وعقولهم ،وربما خلخلة تزعزع استقرار نفوسهم ،خاصة ساكن الطابق الثاني –الوجه المقابل للجسد الملقي علي الرصيف "كتلة ظلامية "- فهو محاط بسياج حديدي يبعث الأمان في نفسه ، لكن السياج ذاته كابوس مروع بالنسة إلي الجسد المناوىء . ناهيك عن تعرفه علي ذلك الجسد علي الرغم من الظلام الحالك، والمسافة الممتدة بين الرصيف والطابق الثاني ، ولعل بصقته التي أرسلها إلي الجسد تحمل احتجاجه وقلقه ، وعدم ارتياحه (42) ، يئول ذلك كله إلى وجود آخر مختلف تماما ، سوف يظل أمام عينيه يتحداه ، ومن قبل كان كائنا في نفسه ، أما الآن فليس أمامه سوى قبول التحدي أو الخضوع له .
أما ساكنة الدور الثالث فعلاقتها بالرصيف البحث عن المتعة ، يشكل جسدها تناقضا متوازيا للجسد الملقى على الرصيف أيضا " تقف تنتظر كتلة ظلامية أخرى ، لا تختلف ملامحها كثيرا عن كتلة الرصيف . لكنها تختلف ، لا تلعقها كلاب الشوارع بأنيابها ، كتلة تسعد بالكائن الساقط فوق الرصيف ، كتلة تبحث عنه في كل مكان لتصعد بها إلى طوابق البنايات " (43).
ثمة مجال للجدل الغني بين جسد داعر وجسد قديس ، وأيضا بين بناية كبيرة تعيش فيها كائنات ترتع وتحترق من أجل وصال عقيم ، لا يشبع شبقها ، وبين كائنات حولها أرصفة وهوام وضفادع . إن الأنس الذي تتشبث به تلك البغي قاطنة العمارة المجاورة للرصيف لا يستقيم مع ملامح التفرد والوحشة والاغتراب للجسد النقيض ، ذلك الذي أحدث تصدعا في علاقة سكان العمارة بالرصيف حتى غدا الأخير لوحة فنية تستنطق المكان ، وتحركه بوعي متميز لا يقف عند المظهر الخارجي للشخصيات ، وإنما يكشف الذبذبات الداخلية ، ويلمس أوتارها .وعلى الجملة اعترى سكان البناية ميل إلى مفارقة ذلك الجسد .
والحال تختلف بالنسبة إلى سكان الرصيف حيث أنهم لا يذهبون بعيدا عن الآراء المتنازعة حول طبيعة الجسد ، فهناك من أضفى عليه هالة أسطورية ، فتصور أنه "واحد من آلهة الإغريق المغضوب عليهم ألقي بينهم وستحل لعنته لا محالة " (44) ، وانتهى آخرون إلى أن "مسئول الحي وراء ما حدث لتفتيت وحدة ساكني الرصيف بعد فشل الحي في القضاء عليهم بكافة الطرق " (45) . هكذا يصبح الرصيف رمزا فياضا بمعان مكثفة ، فهو مأزق فضائي يعكس التوترات اليويمية ومعاناة الشخصيات في مشهد فيه خلط كبير بين العبث واللامبالاة . وتكتمل أسطورية المكان / الجسد بانقسامه إلى قسمين " وفكر ساكنو الرصيف في الإجراءات اللازمة لترتيب إجراءات مبسطة للمرور عبر منافذ الجسد الظلامي إلى شطري الرصيف بعد انقسامه " (46) . في ظل هذا الخلط أصبح للجسد معنى – بحكم تكوينه وموقعه – وللرصيف مكانة تلائم منزلة الجسد الملقى فوقه . والمعنى أنهما بوابة عبور لا غنى عنها للعالم المحيط بالمكان ، بل إن التناهي بينهما أسهم في تكوين مزاج جديد أدى إلى صنع قلق عظيم في المكان ، خاصة بعد " التعديلات التي أحدثها جسدك بشكل الرصيف " (47) . هكذا يتم توظيف المكان لتوصيل فكر الشخصية القصصية ، واستخدام إمكانات الشخصية لبعث المكان من جديد ، بحيث يمكن القول إن حركة الحياة قد تومض من فوق الرصيف الذي تحول إلى عنصر دينامي يعكس تطور الأحداث وتفاعل الشخصيات وانتمائها وهويتها فالشخصية هنا مرتبطة بالمكان في إطلاقه وانفتاحه على الفضاء المحيط حيث تصاحب الرصيف ذاكرة متأملة وأحلام منطلقة ، تعكس جوهر المكان وطبيعة الإنسان الذي يعيش فيه " بكل أنسجته ، ويشيده تدريجيا أمام أنظارنا بما يعني أيضا أن المكان الذي تقدمه الكلمات في السرد يحدده في المقام الأول ، الشخص ووضعية الراوي " (48) . في ظل هذا المناخ بأبعاده المكتسبة من خلال علاقة الشخصية بالرصيف يمكن النظر إلى الأخير على أنه بؤرة الأحداث تبدأ منه وتنتهي عنده لتأخذ دورتها من جديد كاشفة أنماط السلوك المختلفة لـ"كتلة الظلام" وساكني الرصيف التي تجلت في أسمى معانيها في قدرتهم على التمسك بالحياة وعدم الرغبة في الموت ، فعندما ألقى ساكنو البناية " قاذوراتهم ومياههم برائحة نجاستهم ، انتفض وانتفض معه ساكنو الرصيف ارتجف ، أحس بالحياة تسري في جسده ... ، ... ، قفز كضفدع ليلي من رصيف إلى آخر لكنه لم يستطع أن يموت " (49) .
وأغلب الظن أن تتبع مسار الشخصية القصصية يشي باتساع المساحة التي تشغلها ليس على مستوى المكان فقط ، بل أيضا على مستوى التعبير عن القيم الرحية والفكرية بدءا من لحظة سقوطها فوق الرصيف حتى صعودها وعلوها قيمة تنتشر في المكان الساكن فتملأه حركة ، ثم تتقلب بين الأمكنة مانحة إياها حركية الأفعال الإنسانية مصحوبة بتطور الزمن .
ثانيا : الأماكن الواسعة :
أ: نموذج القرية :
تتشكل ملامحها بين الحضور والغياب من خلال مخيلة الشخصي القصصية . تغير شكل القرية ليلائم البنايات العالية التي اختفت معها صورتها القديمة ، لذا أثارت دهشة ذلك المغترب / الراوي عندما زارها بعد فترة طويلة من الزمن قضاها بين الغربة في الخارج والمدينة ،وراح يتبين معالمها لكنه لم يستطع .من هنا يمكن الالتفات إلى أن التغير الذي عصف بقريته ولد مناخ الاغتراب ،وأدي إلي ظهور مضامين في إطاره لا مجال للتعبير عنها خارج هذا الإطار .
ومن ملامح هذه الغربة ظهوره في زي مخالف للباس أهل القرية "العرق كان ينزل علي وجهي بغزارة ،ولا أعرف لما أحسست بغربة شديدة لم أكن أحس بها من قبل في زيارتي للقرية ،لكنني تذكرت حينما كنت أرتدي جلبابهم المقلم ويهبط قريتنا غريب في ملابس البندر"(50).هذا المظهر الشكلي للغربة مدخل مهم لمكان المنفي الذي يشهد – فيما بعد – تقطيع الأواصر مع الفئات الاجتماعية القريبة من النفس خاصة عندما تفاجئه البنايات الشاهقة التي تشبه بيوت البندر فتشكل حاجزا نفسيا يغلف كل شيءحوله ،فيتحول إلي متأمل لما تسببه تلك المفاجأة من واقع أليم في نفسه ، غير أنه ينجو من الانجذاب نحوها ، " البيوت أصبحت بالطوب الأحمر وعلى بساطتها ينغرس وسطها بيت أو أكثر أشبه ببيوت البندر ..." (51) . ويستعين برجل من القرية يصاحبه في تجوله حتى يصل إلى البيت القديم يمضي معه "للتعرف على معالم القرية الجديدة ، وهنا يتناول الرجل الحديث عن واقع القرية ، وما آلت إليه ، فينقل صوته وجهة نظر تجسد وجودا حيا يطارد "ابن القرية المغترب" وينفي انتمائه إليها . لكن هذا الصوت يمكن النظر إليه من زاوية مفيدة في إثراء الحدث وإضاءته، فهو مستقل عن الشخصية القصصية المهيمنة "الراوي" بيئة وفكرا وقيمة . فكل منهما يقف على مسافة من الآخر ، يفصلهما زمان ممتد على الرغم من التقارب في المكان . وطبيعي أن يكون الحوار بينهما مختلف ، وإن كان المكان نقطة انبهار لكنه لم يصل إلى حد العداء . "قال الرجل الذي أرافقه أن البيوت ظلت على حالها إلى أن حدث الزلزال . البيوت لم تحتمل كأنها كانت تنتظر أي شيء لتسقط ، فلم نجد بدا من إعادة بنائها " (52) . يعيد ذلك الحوار إلى الأذهان فكرة التناص مع قصة الباشا التركي في "حديث عيسى بن هشام " للمويلحي للتعبير عن تغير الزمن والقيم وظهور إحساس جديد بهما . لكن الرجل قدم هنا ما يثبت علة التغير "الزلزال" التي لولاها ما تغيرت القرية ، وهو ما يعني خصوصية التجربة .
يتشكل المكان إذن في ارتباطه بحركة الزمان التي اقتلعت بنيان القرية ، وأدت إلى الاغتراب والتباعد اللذين يكمنان عند مستوى أعمق ينتهي إلى الانقطاع عن المكان "فالوعي الجديد بالزمن يفعل ما هو أكثر من التعبير عن تجربة الحركة في المجتمع وسرعة التغيير في التاريخ وانقطاع الاستمرارية في الحياة اليومية"(53). تنسحب الشخصية القصصية تاركة المجال فسيحا لزحف البيوت العالية التي تحجب عنها كل شيء ، فلا يبق في المشهد من بقايا الزمن سوى الليل وقد حط على البيت القديم ، أما المكان فلا يكاد يتجاوز تلك الصورة القديمة القابعة في مخيلته عن عالم القرية ، حيث صورته طفلا ، يرتدي جلبابا مقلما وسط الأطفال فتقفز إلى وعيه صورة مماثلة " صورة ابني وهو يلبس الجلباب المقلم ويستحم في الترعة" (54) والمعنى أن حركة الشخصية في المكان تمضي في شكل دائري فتنتهي إلى النقطة نفسها التي بدأت منها . هذا الخط الدائري يمنح المشهد السردي حركة متجددة متفاعلة لصورتين ناضجتين ومتكاملتين في الذاكرة عن القرية، وهذه أهم آليات الجدل التي يواجه بها التغير . هكذا صنعت جدلية الداخل والخارج صورة مركبة للقرية تتصارع من خلالها
زلزال يهدم و ذاكرة تبني .
ب : نموذج المدينة :
المدينة أحد الموضوعات المهمة في فن القص ، جسد المبدعون من خلالها رؤاهم الجمالية سواء بالرفض أم الهروب إلى القرية أم إعادة ضياغتها عبر التخيل . ولا يكاد يخرج هذا كله عن كونه استجابة لحاجات جمالية وسمات فنية تناسب ديمومة التغير ، "وحينئذ تصبح المشكلة الأساسية في الحياة هي مشكلة المتغير الذي يطرأ ، ونحن لا نستطيع أن نتحدث عن الواقع الاجتماعي إلا بالقياس إلى شيء ما يبقى ثابتا فيها " (55) باعتباره مؤشرا دالا على التوتر الشديد بين الرغبة في التعبير عن واقع حضاري متغير ، والذاكرة مكانا بديلا يتطلع من خلاله إلفى آفاق مدينة ممكنة . لذلك ترتبط بإنسان المدينة معظم عناصر التحول والتغير والانتقال السريع ، وهي أمور متصلة بمظاهر الزحام والغربة والشعور بالوحدة وتقطع العلاقات الاجتماعية .. وغيرها مما يسهم في توليف مجتمع متعدد ومعقد مثل المدينة . ولا غرو أن يشعر إنسان المدينة أنه بلا ملامح ، أو أنه مشتت بين أمكنة متفاوتة داخل المكان نفسه .
لفتت المدينة نظر المبدعين بصفة عامة وكتاب القصة القصيرة خاصة ، فتناولوها كل حسب أدواته وآليات التوظيف . اقتربت مجموعة " مجرد بيت قديم" من ملامسة الملامح الخارجية للمدينة ونمط الحياة فيها ، فهي مدينة مفرغة محاطة بالمظاهر الخادعة والجمال الوهمي الذي يغري الناظرين ويخفي وراءه همجية مفجعة ممثلة في بناياتها وشوارعها وناسها "هي في مدينة أخرى بعيدة ، تبعدها عنك جبال أشبه بالزمن ومسافات تسرق العمر ، وجه بلا روح ، مصابيح بيضاء ، رتوش وألوان ، بنايات كبيرة تدهس المارين وشوارع تغضب في وجهك وناس غريبون عنك"(56) . إنه خراب الروح ومتاه الغربة وضياع القيم الإنسانية ، المدينة هنا وعاء مكاني يستوعب مجموعة من المتناقضات توحي بحجم المعاناة التي يقع تحت طائلها الإنسان المهمش الذي يعاني مشقة وصعوبة الحياة التي لا تسمح بالتمهل ، فالعلاقات مفككة والمسافات بعيدة والوجه غريب الملامح ، ليس ثمة مدينة جامعة لمعاني الألفة .
وفي قصة "رسالة العصفور الفقيد" يتجاوز المظهر الخارجي إلى التعمق داخل

إنسان المدينة حيث الملل المسيطر على نفوسهم ونمط الحياة الرتيب المتكرر ، وكأنهم يقعون خارج دائرة زمن المدينة في حركته السريعة . فالصورة التي تجسد حال هؤلاء الناس تتسم بالانقياد والخضوع لأشياء فوقية "الناس في المدينة بنفس الملامح يواصلون حياتهم يخرجون ويسمعون ويشاهدون ويضحكون وآخر النهار يضاجعون زوجاتهم وينامون" (57). لا نعثر على شيء جديد مفارق فصورتهم تحمل على السخرية ، فثمة وجود بائس ونفس مضيعة وإرادة منزوعة وطاقة مبددة ، تلك ملامح الناس في هذه المدينة . وطبيعي أن يتناقض هذا كله مع حركة الحياة والأحياء " فالحياة دورة مستمرة وتحولات دائمة تشتمل على أزمات وانهيارات كما تشتمل على تجدد وتخلق لا يكفان إلا بتوقف الحياة ذاتها "(58). وربما تعيش الشخصيات واقعا لا يقدرون على استيعابه ، فيدورون حول أنفسهم من دون وعي يقاوم ويؤسس وجود حقيقي ، تتسع معه آفاق المعرفة حتى تغدو عالما دلاليا واسعا يستوعب انكسارات النفس ، لكن مدينتهم لا تزال تشكل "لغزا غامضا وتشهد انهيار العلاقات العادية ونشأة قانون لها ينص على ضياع الحياة المألوفة " (59). بالرغم من أن الشعور بالتحولات الحياتية أقوى في المدينة منها في القرية .

الهوامش:
1 – حسن بحراوي : بنية الشكل الروائي ، ط 1 ، المركز الثقافي العربي ، 1990 ، ص44 .
2 – إينيه ويللك وأستن وارين : نظرية الأدب ، ترجمة محي الدين صبحي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1987 ، ص231 .
3 – قصة مفتاح الجنة ، ص28 .
4 – نفسه ، ص28 .
5 – نفسه ، ص30 .
6 – باشلار : جماليات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، ص36 .
7 – قصة مجرد بيت قديم ، ص48 .
8 – نفسه ، ص48 .
9 – نفسه ، ص48 .
10 – باشلار : جماليات المكان ، ص31 .
11- قصة مجرد بيت قديم ، ص48 .
12 – نفسه ، ص48 .
13 – نفسه ، ص 49 .
14 – نفسه ، ص49 .
15 – قصة فصل 2/1 ، ص15 .
16 – صبري حافظ : الحداثة والتجسيد المكاني للرؤية الروائية ، فصول ، م4 ، ع4، سبتمبر 1984 ، ص172 .
17 – قصة فصل 2/1 ، ص15 .
18 – نفسه ، ص18 .
19 - نفسه ، ص 16 .
20 - نفسه ، ص17 .
21 - نفسه ، ص 18 .
22 - نفسه ، ص 18 .
23 - نفسه ، ص
24 – قصة نادرا ما تمطر ليلة العيد ، ص22 .
25 - نفسه ، ص22 .
26 - نفسه ، ص25 .
27 – نبيلة إبراهيم : قص الحداثة ، فصول ، م6 ، ع 4 ، سبتمبر 1986 ، ص96 .
28 – قصة نادرا ما تمطر ليلة العيد ، ص26 .
29 – مؤلفات محمد البساطي : مجموعة أحلام رجال قصار العمر ، م2 ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1995 ، ص466 وما بعدها .
30 – سيزا قاسم : بناء الرواية ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1984 ، ص103.
31 – قصة أغنية الذي مات ، ص70 .
32 - نفسه ، ص69 .
33 - نفسه ، ص73 .
34 – قصة نادرا ما تمطر ليلة العيد ، ص22 .
35 - نفسه ، ص23 .
36 - نفسه ، ص23 .
37 – قصة أغنية الذي مات ، ص 64 – 65 .
38 – قصة كتالوج الديكة والطاووس ، ص84 .
39 - نفسه ، ص85 .
40 - نفسه ، ص 85 .
41 – قصة ضفدع ليلي ، ص76 .
42 - نفسه ، ص79 .
43 - نفسه ، ص80 .
44 - نفسه ، ص77 .
45 - نفسه ، ص77 .
46 - نفسه ، ص77 .
47 - نفسه ، ص78 .
48- حسن بحراوي : بنية الشكل الروائي ، ص88 .
49 – قصة ضفدع ليلي ، ص80 .
50 – قصة مجرد بيت قديم ، ص45 .
51 - نفسه ، ص46 .
52 - نفسه ، ص46 .
53 – يورجين هابرماس : فن القصة بعد الحديث ضمن كتاب الحداثة وما بعد الحداثة ، ترجمة عبد الوهاب علوب ، ط1 ، منشورات المجمع الثقافي ، 1995 ، ص222.
54 – قصة مجرد بيت قديم ، ص47 .
55 – نيكولاس برديائيف : الحلم والواقع ، ترجمة فؤاد كامل ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1984 ، ص309 .
56 – قصة أغنية الذي مات ، ص 58 .
57 – قصة رسالة العصفور الفقيد ، ص59 .
58 – اعتدال عثمان : العناصر الجمالية في النص والأقصوصة ، قضايا القصة الحديثة ، إعداد وتقديم ربيع الصبروت ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ص82 .
59 – صلاح فضل : نبرات الخطاب الشعري ، دار قباء للطباعة والنشر ، 1998 ، ص34 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق