الصفحات

2010/04/20

ماركيز: نكبة أن تكون كاتباً شاباً


ماركيز: نكبة أن تكون كاتباً شاباً


ترجمة: وليد سليمان / تونس
ضمن قدري المزدوج كصحفي وكاتب، أتذكر إلى الآن أمرين فقط أشعر عليهما بالندم، وهما حصولي على جائزتين أدبيتين.
الجائزة الأولى كانت في العام 1954 وكانت تحت إشراف جمعية كتاب كولومبيا التي توسل إلي سكرتيرها آنذاك أن أشارك بقصة غير منشورة، لأنه لم يتقدم أحد بعمل يستحق الاهتمام، وهو ما جعلهم يخشون أن تمنى المسابقة بالفشل. أعطيته قصة بلا نهاية عنوانها: يوم بعد السبت، وبعد أيام قليلة ظهر في مكتبي وهو يلهث ليقول لي، وكأن الأمر يتعلق بمعجزة لا دخل له فيها، إن الجائزة الأولى قد أسندت إلي. لم أعد أذكر كم كانت قيمتها المالية، غير أنني متأكد من أنها كانت بالكاد تكفي للاحتفال بالنصر. وكان أكبر كسب بالطبع هو أصداء ذلك في الصحافة. بالرغم من أن سني حينذاك لم تتجاوز الخامسة والعشرين إلا أنني لم أكن ميالاً أكثر من اللزوم إلى مثل هذا المجد الفجائي، ذلك أنني قضيت خمس سنوات أكسب فيها قوتي من خلال الأعمدة الصحفية التي أكتبها في جرائد الأقاليم، فقد كنت في ذلك الحين مخبراً صحفياً ميدانياً في الاسبكتادور. وكان ما بقي لدي بعد حفل توزيع الجوائز المهيب الذي ألقيت خلاله الأزهار على المنصة وألقيت فيه خطب مرتعشة هو الانطباع السيئ جداً بأنني قد شاركت في مهزلة علنية.‏
كانت المسابقة الثانية أكثر بؤساً. وقد نظمها في العام 1962 فرع كولومبي لشركة بترول أمريكية، وتتمثل جائزتها في نشر العمل و3000 آلاف دولار بالتمام والكمال من عملة تلك الفترة. كنت أعيش في مكسيكو، ولم أسمع حتى بذلك العرض المغري، غير أن المشرفين عليها أرسلوا إلى صديقي العزيز الأستاذ غييرمو أنغولو، وقد دفعوا كل المصاريف، لكي يقنعني بالمشاركة في المسابقة. وكان السبب في ذلك المسعى هو ذاته: لم يرسل أي كان عملاً يستحق الاهتمام، فكان المشرفون يخشون أن تمنى المسابقة بالفشل.‏
كنت قد انتهيت منذ أكثر من عام تقريباً من رواية لم أتعب نفسي في التفكير في نشرها، ذلك أن المتعة في ذلك الحين لم تكن في النشر، وإنما ببساطة في الكتابة. كنت أحتفظ بالنص الأصلي ملفوفاً ومربوطاً بربطة عنق في قعر صندوق، وسلمته إلى غييرمو أنغولو مثلما هو، بربطة عنقه وكل ما يتبع ذلك، دون أن أكلف نفسي عناء إعادة قراءته ولا حتى التفكير في اختيار عنوان له. ولم أجد واحداً مناسباً إلا عندما كانت الرواية تحت الطبع: ساعة الشؤم. بالثلاثة آلاف دولار اشتريت سيارة مستعملة وسددت مصاريف ولادة ابني الأصغر، الذي يكون بذلك قد جلب رزقه معه. غير أنني لم أسافر إلى بوغوتا لتسلم الجائزة مع أن كل المصاريف كانت مدفوعة، لأنه كان يخامرني شعور جاحد، مفاده أنني قد شاركت مرة أخرى في الترويج لمؤسسة لا علاقة لها بالأدب.‏
بعد مرور عشرين عاماً، وأنا أتذكر تلك الأزمنة الصعبة، وأرى كيف تنتشر اليوم الجوائز الأدبية، مازلت أعتقد أن وساوسي في تلك الفترة كان لها ما يبررها. على أن الحماس شبه الصبياني الذي يتسابق به الكتاب الذين لهم اليوم نفس العمر ونفس الأوهام التي كانت لي في تلك الأيام، يجعلني أفكر أنهم لا يقاسمونني الحذر ذاته، وإنما العكس، وأن معظمهم لا يكتبون بدافع حاجة لا فكاك منها، كما ينبغي للأمر أن يكون، وإنما فقط لربح مسابقة، وهو أمر يجب أن يشعرهم بالخطر، مثلما يشعرني بالخطر، إذا كانوا مستعدين بحق للدخول مباشرة إلى جحيم الكتاب الكبار.‏
في الواقع، لا تخدم المسابقات الأدبية التي تشرف عليها دور النشر مصلحة أحد بقدر ما تخدم مصالحها هي. فالناشرون يظنون، منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي ظهروا فيه للوجود، أنهم يتفضلون على الكتاب بنشر أعمالهم، وخصوصاً الكتاب الجدد، ومن ثمة يتعين على هؤلاء أن يدفعوا لهم مقابلاً لنشر أعمالهم. لقد قال لي ناشر قبل فترة وجيزة إن صناعة النشر لا تقوم على الكتاب، ولا على الكتاب والناشرين مجتمعين، وإنما على الناشرين فقط. وأجبته أن ذلك يشبه الادعاء أن صناعة البترول تقوم بها فقط شركات البترول، دون مساهمة البترول المتواضعة. وهذا الاعتقاد بدور المخلص الذي تؤمن به دور النشر كقدرها، هو الذي جعلها، دون شك، تطلق أكذوبة المسابقات الأدبية. إنهم ينظمونها ويحدثونها بزهو المتكرم على البشرية وملائكة الثقافة، في حين أن كل ما يفعلونه في الحقيقة هو الترويج لاسم مؤسساتهم على ظهور الكتاب الذين لا يجدون من ينشر لهم، مثلما لم يجد أي من الكتاب العظماء في بداية حياتهم من ينشر لهم.‏
طافت بذهني هذه الأفكار بخصوص المعركة العادلة والمتوحدة التي يخوضها روائي كولومبي شاب ضد فرع دار النشر بلاثا أي خانس في كولومبيا، وهي التي أسست في هذا البلد جائزة سنوية للرواية. وتبلغ الجائزة، حسب ما تقول قواعد المسابقة، 300 ألف بيسوس كولومبية، أي ما يعادل 6 آلاف دولار. ولكن الحقيقة هو أنه لا وجود لجائزة، ذلك أنهم كانوا يجبرون الفائز على إمضاء عقد ينص على أن هذا المبلغ دفعة مسبقة من حقوق المؤلف، وبالتالي سيتم خصمه من المستحقات التي تدفع دورياً. ولكن هناك ما هو أسوأ. حقوق المؤلف التي يتحصل عليها المعني ليست 10% من ثمن الكتاب، مثلما هو متداول، وإنما 7 % فقط. وهذا يعني أنه ببيع طبعة بـ 3000 نسخة- تباع بسهولة، نظراً لصدى المسابقة- يغطي الناشر جميع التكاليف، ويربح، علاوة على ذلك، الدعاية المجانية التي تقوم بها الصحافة للمسابقة، بدعم من الهيئات الثقافية والمشاركة البهيجة للكتاب والفنانين الآخرين. ولو حسبنا بتحفظ ما تربحه بلاثا اي خانس من خلال الدعاية المجانية بفضل مسابقتها السنوية لوجدنا 3 ملايين بيسوس. وهو ما يعني أن الكاتب المستجد لا يتعرض فقط لعملية سطو وإنما يكون وسيلة لثراء الناشر أكثر بأقل مجهود. وكأن ذلك غير كاف، يضمن العقد الممضى لدار النشر حقوق الكتاب مدى الحياة، وليس طيلة خمس سنوات، كما يفترض أن يكون، وفي منطقة محدودة، ولكن لكل البلدان الناطقة بالإسبانية. غير أنه ما إن تنفد طبعة إطلاق الكتاب، يظل هذا الأخير سجين العقد ودون أمل في طبعة جديدة، ولا يوزع في كامل المنطقة التي ينص عليها العقد، ولكن بمشقة كبيرة في البلد الذي فاز فيه بالجائزة.‏
هو ذا لب المسألة: لا توجد نكبة أكبر في هذا العالم من أن يكون الإنسان كاتباً شاباً. وخاصة في هذه الأزمنة التعيسة التي صارت الشهرة فيها تقليعة. في ما مضى، عندما كنا نكتب نحن الأدباء الشبان لأنه ليس لدينا علاج آخر، كانت لدينا فضلاً عن ذلك المزية المتمثلة في أن الناشرين يتركوننا وشأننا. لقد احتجت إلى خمس سنوات لأجد من ينشر لي روايتي الأولى، وكان الشخص الذي قابلته هاو ودون موارد فر من البلد لتجنب الدائنين. وقد طلب إدواردو ثالاميا بوردا، الذي كان أبي الروحي الحقيقي في الأدب، طلب حينئذ من أصدقائه أصحاب المكتبات أن يشتروا الكتاب من مخازن المطبعة، وكتب أصدقائي الأبديون الآخرون مقالات صحفية لكي يعرف الناس أنه موجود في السوق. قبل بضع سنوات، اكتشفت أن النسخ المتبقية من تلك الطبعة الفقيرة التي تتضمن ألف نسخة كانت تباع في شوارع بوغوتا مقابل بيسو للنسخة، واشتريت منها كل ما استطعت، يحدوني انطباع بأني أشتري الفضالة المتبقية من ماضي.‏
أحب سرد هذه الأشياء ليس بسبب هوس الكتاب بالحديث عن أنفسهم، ولكن على أمل أن ينفع ذلك الأجيال القادمة التي مازالت تعتقد أنه يمكن العيش بدون ناشرين. وذات يوم – أرجو ألا يكون بعيداً- سوف يقتنعون ليس فقط بأن ذلك ممكن، ولكن بأن العكس هو الصحيح: الناشرون هم الذين لا يستطيعون العيش بدوننا. الناشرون المساكين.‏
المترجمون الطيبون المساكين‏
لقد قال أحدهم إن الترجمة هي أفضل طريقة للقراءة. أعتقد أيضاً أنها أصعبها وأكثرها جحوداً وأقلها ربحاً. المترجم خائن، تقول اللازمة الايطالية الشهيرة، مفترضة أن من يترجمنا يخوننا. وقد كشف موريس إدغار كواندرو، الذي يعتبر واحداً من المترجمين الأكثر ذكاء وسخاء في فرنسا، في مذكراته الشفوية، عن أسرار تتعلق بالكواليس تسمح لنا بأن نظن العكس. المترجم هو قرد الروائي، قال، محوراً مقولة مورياك، وكان يعني بذلك أن المترجم يتعين عليه القيام بنفس الحركات واتخاذ نفس أوضاع الكاتب، سواء أعجبته أم لا. ولم تكن ترجماته إلى الفرنسية لروائيي أمريكا الشمالية، الذين كانوا شباباً وغير معروفين في زمنه - وليام فوكنر، جون دوس باسوس، إرنست همنغواي، جون شتاينبك- لم تكن فقط إعادة خلق رائع، ولكنها أيضاً قدمت في فرنسا جيلاً تاريخياً يعتبر تأثيره بين معاصريه الأوروبيين- بما فيهم سارتر وكامو- أكثر من جلي. وبذلك لم يكن كواندرو خائناً، ولكن العكس تماماً: متواطئ رائع. ومثلما حدث مع المترجمين الكبار في كل الأزمنة، حيث يمر إسهامهم الشخصي في العمل المترجم دون أن ينتبه إليه أحد، في حين يتم تعظيم النقائص.‏
عندما نقرأ لكاتب في لغة غير لغتنا، تتملكنا رغبة شبه طبيعية في ترجمته. وذلك مفهوم، فمن بين متع القراءة – مثل الموسيقى- هناك متعة تقاسمها مع الأصدقاء. وربما يفسر ذلك أن مارسيل بروست قد مات دون أن يحقق إحدى رغباته المتكررة، والمتمثلة في ترجمة شخص غريب بالنسبة إليه مثل جون رسكين من الإنجليزية. هناك كاتبان من بين كل الكتاب يحلو لي أن أترجمهما لمجرد متعة فعل ذلك، هما أندري مارلو وأنطوان دي سان اكزوبيري اللذين لا يتمتعان، والحق يقال، بأقصى تقدير من قبل أبناء بلديهما الحاليين. ولكن ذلك لم يتجاوز الرغبة أبداً. وفي المقابل، أترجم منذ مدة طويلة قطرة قطرة أناشيد جاكومو ليوباردي، ولكنني أفعل ذلك خفية في ساعات فراغي القليلة، مع الوعي التام بأن ذلك لن يكون الطريق الذي يؤدي بنا إلى المجد لا ليوباردي ولا أنا. وأنا أفعل ذلك فقط كواحدة من تسليات الحمام تلك التي يسميها الآباء اليسوعيون لذات متوحدة. ولكن مجرد المحاولة كانت كافية بالنسبة إلي كي أدرك كم هو صعب، وكم يتطلب منافسة المترجمين المحترفين من إنكار للذات.‏
من غير المرجح كثيراً أن يرضى كاتب عن ترجمة لأحد أعماله. في كل عبارة، في كل جملة، في كل تأكيد في الرواية نكاد نجد دائماً مقصداً آخر خفياً لا يعرفه إلا الكاتب. لذلك لا شك أنه من المحبذ أن يشارك الكاتب نفسه في الترجمة قدر الإمكان. وفي هذا السياق، هناك تجربة تستحق الذكر وهي الترجمة الاستثنائية لـعوليس، رواية جيمس جويس، بالفرنسية. وكانت المسودة الأولى المبدئية قد قام بها كاملة وبمفرده أوغيست موريل الذي اشتغل بعد ذلك إلى غاية النسخة النهائية مع فاليري لاربو وجيمس جويس نفسه. وكانت النتيجة عملاً رائعاً بالكاد تتفوق عليه – حسب شهود مطلعين- ترجمة أنطونيو هوايس إلى برتغالية البرازيل. والترجمة الوحيدة بالإسبانية، في المقابل، هي غير موجودة تقريباً. ولكن قصتها تصلح لأن تكون عذراً لذلك. فقد أنجزها لنفسه، لمجرد التسلية، الأرجنتيني ج. سالاس سوبيرات، الذي كان في الأصل خبيراً في التأمين على الحياة. وقد اكتشفها الناشر سانتياغو رويدا، من الأرجنتين، في ساعة شؤم، ونشرها في نهاية الأربعينات. والواقع أنني عرفت سالاس سوبيرات قبل بضع سنوات في كاراكاس خلف مكتب بلا اسم لشركة تأمينات، وقضينا ظهيرة رائعة متحدثين عن الروائيين الإنجليز الذين يكاد يعرفهم من الذاكرة. والمرة الأخيرة التي رأيته فيها كانت تشبه الحلم: كان يرقص، وقد تقدمت به السن كفاية، متوحداً أكثر من أي وقت مضى، خلال العجلة المجنونة لكرنفال بارانكيا. وكانت رؤية غريبة إلى درجة أنني قررت عدم تحيته.‏
هناك ترجمات أخرى تاريخية، وهي تلك التي أنجزها جان أوبري وفيليب نيل لروايات جوزيف كونراد. وولد هذا الكاتب الذي يعتبر من أكبر الكتاب في كل العصور- واسمه الحقيقي جوزيف تيودور كونراد كورزينيوفسكي- في بولندا، وكان والده مترجماً لكتاب إنجليز من بينهم شكسبير. وكانت اللغة الأساسية لكونراد هي البولندية، ولكنه تعلم منذ نعومة أظفاره الفرنسية والإنجليزية، وتوصل إلى أن يكون كاتباً باللغتين. واليوم يعتبر، سواء كان ذلك مبرراً أم لا، واحداً من معلمي اللغة الانجليزية. ويروى أنه قد جعل حياة مترجميه الفرنسيين لا تطاق محاولاً فرض إتقانه عليهم، غير أنه لم يقرر أبداً أن يترجم نفسه. وهذا غريب، غير أننا لا نعرف كتاباً كثيرين مزدوجي اللغة فعلوا ذلك. والحالة الأقرب بالنسبة إلينا هي حالة خورخي سمبرون، الذي يكتب نفس الشيء بالإسبانية أو الفرنسية، ولكن دائماً على حدة. وهو لا يترجم نفسه أبداً. وما هو أغرب حتى من ذلك هو الايرلندي صامويل بيكيت، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، الذي يكتب ذات العمل مرتين، ولكن الكاتب يصر على أن كل منهما ليس ترجمة للآخر، وإنما هما عملان مختلفان بلغتين مختلفتين.‏
نقلا عن ملحق جريدة الثورة الثقافي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق