الصفحات

2010/08/23

مَدِينةُ البَيَاض، قصة قصيرة لهاني القط

مَدِينةُ البَيَاض
(قصة قصيرة من مجموعة مدن الانتظار)

هاني القط

ـ يا الله
.... وبخطوات محسوبة يسير بمشقة, حاملاً فوق كاهله خمسين عامًا, وتحت إبطه رصة الجرائد. ومن فتحة السور, يهبط الدرج, واحدة, اثنتان ...., خمس, مسلمًا قدمه للرصيف, حيث يوجد صندوقه الخشبى, الذى يبعد خمسًا وعشرين خطوة بالتمام, من بداية حائط سور محطة السكة الحديد.
متنهدًا يضع مابيده جوار قدميه, غطاء الصندوق ثقيل ويرفع لأعلى, بداخله: مخدة محشوة بقش الأرز, ومجلات وصحف أسبوعية, وراديو صغير, وقلة ماء, وكوب, ودبلة ذهبية لامست لسنتين إصبع خطيبة ما زال يحبها ـ يداعب الدبلة بين إصبعيه لحظة الرضا لاستعادة أيام فاتت ـ وصورتان أبيض وأسود في قعر الصندوق له ولها قبل شهر من الحادثة التى أودت ببصره.
ـ يا الله
وبها ينهض ممسكًا بالحبل المربوط بين فرعى شجرتى الفيكس دائمة الخضرة, ليرص المجلات والجرائد, جاعلاً أغلفتها في اتجاه المارة, وعندما ينتهى, ينزل بجرمه على المخدة سانداً ظهره للسور.
إيه, خمسة وعشرون عامًا يا "مصطفى" ومازلت تقاوم, تتأخر قليلاً لكنك لا تغيب, تنتظر وقتًا لكن نادرًا ما تخطئ في مناولة زبون صحيفة مخالفة لما يطلب.
ـ أهرام يا عم مصطفى
ـ عنيه
وبإبتسامة رضا, يعطى الولد الصحيفة بيد, ويلتقط بمهارة مبصر, ورقة العملة بالأخرى, يتلمسها بين اصبعيه مخافة الخديعة بإعطائه ورقة بيضاء بنفس الحجم.
ـ يا الله
وبها نهض قبل الفجر, حالقًا لحيته قبل وضوئه مستعينًا بملامسة إصبعه لتحديد مكان الشعر. الجلباب مكوى بالليل, والمداس لمعته زوجته. رافعاً هامته يسير إلى المسجد, مغالبًا سكات الليل, يترنم بالتواشيح في طريقه ليستضيئ قلبه بونس صوته,
ـ مولاى إنى بباك ....
فور تخطيه عتبة صحن المسجد, تلتقطه أول عين تراه وتوقفه أمام المحراب. رافعاً باطن كفيه متبتلاً يكبر, وبصوت شجى ممسوسٍ بالحزن, استهل بالفاتحة, تبعها بالآيات التى تبكيه كلما قرأها, " ... أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ..."
ـ يا الله.
وبها يتكىء بخده الآن على راحة كفه, يتذكر كعادته أيامًا لم تبرح فؤاده. القطار كل شهر يأتى بخطيبته القديمة الذى ينتظرها بشوق دائماً. صورة بياض كلما محاه عقله عاود تشكله وابتلع صورتها. البياض شفيف يرسم بلدة تنجلى صورتها رويداً رويداً, البيوت فيها تتنفس بياضًا, والشوارع متعرجة تعج بالصمت, وعجوزًا يجلس بعيدًا متكئًا على عكازه. يترنم بكلام غير مفهوم.
ـ ياالله
وبها ينحرف تجاه صوت صفارة القطار القادم, الراديو انجلى صوته بعد تغيير بطاريته, الأغنية نغمها شجى يغمر الروح, مرتعشاً يدق بكفه مطاوعًا النغم. جسمه كما ورق الأشجار يرتعش كلما ذاق معنى الكلام, نعال الواصلين تضرب الأرض, أذنه ترهف السمع مستشفة خطاها بينهم, وأنفه تتشمم رائحة عطر ماتزال تشعل فيه حمى الوصال, وتريه ما كان يرى. إنه يستحث كل ملكاته ويتخيل, ود لسنين ـ وهى واقفة أمامه واصلة بالسلام يدها الممدودة بالنقود لشراء صحيفة؛ أن يمسك بكفها ليسألها لم هجرته بعد الحادثة .... ؟ لكنه يؤجل سؤاله كل مرة ويودعها بابتسامة رضا, تنقلب إلى أسى بعد سويعات قلائل. كل حين يجيب على الناس المحيين بالسلام, وحين لم يعد يمر في شارع المحطة سوى بعض السائرين القلائل, يضرب قلبه اليأس, لكنه ظل ينتظر.
الوقت مر وها هي زوجته في موعدها قادمة إليه بالطعام. وقبل أن تفتح الشنطة, يخبرها بتعبه وحاجته إلى الراحة في البيت, تلم وحدها الجرائد والمجلات وتقفل عليها الصندوق:
ـ يا الله
وبها ينهض لأول مرة وهو يرمي بذراعه عليها متساندًا, توصله لسريره فيشرب من قلة الماء رشفتين ويصر على رفض الطعام. يأمرها بأن تدثره بلحاف الصوف ليعرق وتهدأ ارتعاشته, وحين تطمئن لنومه تغادر الحجرة.
العجوز الذى رآه في يقظته يقبل من بعيد متكئًا على عكازه , وما إن يقترب حتى يأمر عم "مصطفى" أن يتبعه, يسير خلفه مجبولاً في شوارع رآها كطيف من قبل, صمت يطبق على صمت إلى أن يصلا لباب, يدق العجوز عليه بعصاه دقتين, فيفتح الباب على وسعه, يعبر "مصطفى" وحده ويتراجع العجوز ثم يختفى, يسير "مصطفى" وهو خائف, لكن بعد خطوات ينزاح الخوف من قلبه وتحل السكينة, ولحظة يرفع بصره ويرى ما حوله, بملء قلبه الفرحان يصيح:
:ـ ياالله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق