الصفحات

2011/02/02

أزمة الثّقافة والإبداع.. بين المحسوبيّات واحتكار الفرص

أزمة الثّقافة والإبداع.. بين المحسوبيّات واحتكار الفرص
كتبت: زينب ع.م البحراني

الثّقافة؛ حيث يُفترض أن تقف نظافة المبادئ والأخلاق مُعلنةً عن نفسها مع الإبداع والمعرفة جنبًا إلى جنب، هل من المُمكن أن تغدو أوساطها بيئةً خصبةً لنموّ الفساد المُرتبط بمحسوبيّات تحتكر الفُرص، ووساطاتِ تُعبّد الطّريق أمام أعشار الموهوبين وأشباه المُثقّفين وأنصاف المُجتهدين بينما تتجاهل أُصلاء الموهوبين ممن يُفنون أنفُسهم في سبيل الإبداع والثّقافة؟.. هل تمكّنت الـ (شلليّة)، والمصالح الشّخصيّة من تحويل الوسط الثّقافي إلى بؤرة صالحة لانتشار عدوى أمراض معنويّة وأخلاقيّة لا تمتّ لما يجب أن يكون عليه المُجتمع الثّقافي بأدنى صلة، فصارت تلك الأوساط أشبه بأحزاب مُنغلقة على ذاتها وعلى أفرادها بطريقةٍ تُشبه ما حدث في رواية (دنِسكو) للمُبدع غازي القصيبي؛ أو حتّى بعض أحداث رواية (شقّة جامعة الدّول العربيّة) للرّوائي محمّد عبد الغفّار في أسوأ الأحوال؟؟.. أم أنّ هذه التساؤلات لا تزيد عن كونها مُجرّد تُرّهات قائمة على افتراضاتٍ وهميّةٍ لا تمتّ للواقع الثّقافي في وطننا العربيّ بأدنى صلة؟..
جمود المؤسّسات:

طرحنا تساؤلنا الكبير على عدد من المثقّفين العرب في أكثر من بلد لنسمع وُجهات أنظارهم بهذا الصّدد، وكانت البداية مع القاص والرّوائي المصري (أحمد طوسون) الذي أعرب عن وُجهة نظره بقوله:

"المحسوبية انتشرت في الأوساط الثقافية بشكل فج في العقدين الأخيرين، وارتبطت بوجه خاص بأنشطة المؤسسات وما تقوم به من فعاليات، وبالمسابقات والجوائز الأدبية وطرق منحها، وفي رأيي أن انتشار الظاهرة وتفشيها يرجع إلى حالة الجمود التي تعاني منها المؤسسات الثقافية، فأسماء القائمين عليها لا يطالها التغيير لفترات طويلة ومع بقاء المسئول تتشعب العلاقات والمصالح ويحتاج إلى جوقة مؤيدين من حوله يصنعهم بالمنح والعطايا وإقصاء أصحاب الأصوات المناهضة لسياسته.. وبالطبع سيكون من السهل اجتذاب الكثيرين ممن يهرولون ويسيل لعابهم للحصول على فتات الحظيرة ( "الحظيرة" مصطلح شاع في الثقافة المصرية على لسان وزير الثقافة الفنان فاروق حسني).. وانعكس ذلك سلبيا بشكل واضح في مجال النقد، حيث أصبح للمؤسسات نقادها وأصبحت غالبية الدراسات النقدية التي تقدم تجاري المظهر الاحتفالي المهرجاني الذي تتسم به أنشطة المؤسسات بعيدا عن الدور المفترض أن يقوم به النقد من تسليط الضوء على الكتابات الجيدة والمواهب الجديدة والفرز المستمر لما يصدر من أعمال أدبية."

ثمّ يُضيف طوسون:

"فكرة المصالح تتبدّى بشكل أكبر في الجوائز الثقافية والدور الذي تلعبه دور النشر الكبيرة في توجه بعض الجوائز.. والتكريس لكتابة ما لصالح حسابات خاصة بالربح والخسارة تدور في أذهان أصحاب تلك الدور بغض النظر عن الفنية أو المعيار الأدبي.

والمتابع للوسط الثقافي العربي يمكنه أن يشير إلى أسماء محددة لها تأثير واضح على عدد من الجوائز المصرية والعربية يتم منحها وفق علاقة الأديب الشخصية بتلك الشخصيات والمنافع المتبادلة بينهم.. لكن الإبداع الجيد في النهاية فوق كل هذه الترهات، فبعيدا عن مزاعم الأكثر قراءة يكاد المجتمع الثقافي أن يكون مجتمعا منغلقا على أفراده وبالتالي فإن المثقفين هم أدرى الناس بعلل مجتمعهم وبالواجهة الحقيقية للمشهد الأدبي سواء كانت تحت السطح أم فوقه."

الشّاعر الفلسطيني (يوسف عبد العزيز) أكّد أنّ ظاهرتي المحسوبيّات والشّلليّة يُشكّلان جُزءًا من الأمراض التي تنخر عصب الثّقافة العربيّة حين شاركنا برأيه قائلاً:

"نعم هناك محسوبيّات في الثقافة، ولكنّ تلك الثقافة التي تفسح المجال لدخول المحسوبيّات إلى فضائها هي ثقافة مشوّهة ومريضة، ذلك أنّ المحسوبيّات هي عنصر خارج الفعل الثقافي أساساً، وهي حين تحطّ في ثنايا الثقافة فإنّها تفسدها. طبعاً لا بدّ من القول إنّ دخول المحسوبيّات يكون باستمرار لرفع سويّة النّصوص المتهافتة الضعيفة في الأساس، أو لتلميع الكتّاب الضّعاف ومحدودي الموهبة. أمّا المبدع الجيّد الذي يكتب نصوصاً جميلة، فهو ليس بحاجة على الإطلاق لمن يروّج له هذه النّصوص."
ويُكمل بثقة: "على مستوى الثقافة العربية هناك مجموعة من الأمراض التي تنخر عصب هذه الثقافة، ومنها المحسوبيّات التي نحن بصدد الحديث عنها. إنّ وجود ما يسمّى بظاهرة الشّلل الثقافية حيث كلّ مجموعة من الكتّاب تدافع عن سويّة أعضائها، وأهمّيتهم في عالم الإبداع هو أمر مناقض لشروط الكتابة الحقيقية في الحياة. هناك أيضاً مسؤولو المهرجانات والمؤسّسات الذين يقومون بتقاسم المنافع فيما بينهم على حساب المبدعين الحقيقيّين.

بسبب كلّ ذلك نرى التهميش الذي يطال الكتّاب الحقيقيّين من قبل مؤسّساتهم الرسمية والشعبية على حدّ سواء، وفي الوقت نفسه تحتفي هذه المؤسّسات بسقط المتاع من المرتزقة والمتكسّبين والذين ليس لهم من عمل غير تدبيج المدائح التافهة. في ظلّ وجود هذه المحسوبيات يمكن القول إننا نعيش عصر تقهقر ثقافي، وذلك على عكس النهوض الثقافي الذي تتمتّع به الأمم."

تحويل الـ (مُبدع) إلى (مُبعَد):
الأديب والإعلامي الليبي جُمعة الفاخري عزا تفشّي تلك الظّاهرة إلى وجود بعض الانتهازيين المُحنّكين في تلك الأوساط، وهذا ما عبّر عنه بصراحة في قوله: "ثمَّة صورٌ متعدِّدةٌ للفسادِ الأخلاقيِّ والانتهازيَّةِ ، وحبِّ الذاتِ ، تغلغلت في أوساطِنا الثقافيَّةِ والإبداعيَّةِ بشكلٍ مؤسفٍ ، فشوَّهت هذهِ الأوساطَ المفترضةَ أن تكونَ الأنظفَ والأنقى والأجملَ. إذ دونَ استثناء ؛ تعاني مشاهدُنا الثقافيَّةُ العربيَّةُ من وجودِ انتهازيِّينَ ( أَكْفَاءَ ) محنَّكينَ ، يُحسنونَ احتكارَ كلِّ الفرصِ لمصلحتِهِم .. ويُجيدونَ ابتكارَ طرائقَ ملتويةٍ توصلُهُم لتحقيقِ غاياتِهِم ، وإدراكِ مآربِهِم ، بدءًا بنيلِ ثقةِ المسؤولينَ والمديرينَ ، بأساليبِ مختلفةٍ تبدأُ بمنافَقَتِهِم وتضخيمِ صورِهِم عبرَ الوسائطِ الإعلاميَّةِ المختلفةِ ، فيستأثرونَ بالتقرُّبِ منهم ، وحيازةِ ثقتِهِم ، ثم يشرعونَ في تنفيذِ مخطَّطاتهِم بالتأثيرِ على قراراتِهِم لتوجيهها فيما يخدمُ مصالِحَهُم ، وتحقيقِ نيَّاتِهِم المنفعيَّةِ عبرَ انتهازِ الفرصِ مهما كان حجمُها ، فهم مقترحو الجوائزِ ، وهم حاصدوها بجدارةٍ مثلى ، وهمُ المخطِّطونَ للمهرجاناتِ وهم مديروها ، وربما الحاضرون فيها حَصْرًا ، وهمُ المنتفعونَ بأيَّة مزايا أخرى يمكنُ أن تخصَّصَ للمبدعينَ ، فلهمُ الأسبقيَّةُ ( المحتكرةُ ) أبدًا ، في طباعةِ الكتبِ وتولِّي المهامِ الثقافيَّةِ كرئاسةِ تحرير المجلاتِ والصحفِ ، والمعارض ، والندواتِ ، والتمتُّعِ باحتكار الإيفاداتِ ، والتنعُّمِ بالمشاركاتِ الخارجيَّةِ ممثِّلينَ لأوطانٍ يرونها منجمًا أو خزنةً أو مخزنًا .. ينتهي تعلُّقُهم بها ، وولاؤُهم لها بمجرِّدِ نفادِ ذالكم المخزونِ .. وانتهاءِ ما كانوا يتقاضونَهُ منها من منافعَ كثيرةً .."

ويُكمل الفاخريّ آسفًا: " لقد تلوَّثتِ الأوساطُ الثقافيَّةُ العربيَّةُ بمثلِ هؤلاءِ المدَّعينَ ، لا المبدعينَ ، المدججَّينَ بأسلحةِ المكرِ والخداعِ ، المتسلِّحينَ بدهاءِ المراوغِ الدعيِّ ، وبغباءِ بعضِ المسؤولينَ ، وحاجةِ بعضهمِ الآخرِ لمثلِ هذا النوعِ من المتسلِّقينَ المزيِّنينَ سَوْءَاتِ الضَّعفاءِ .. فيقمعونَ المبدعينَ الحقيقيِّينَ عبرَ تنفيذِ خططِهمِ الجهنميَّةِ المبيَّتةِ ، المفخَّخةِ ، المعبَّأةِ بديناميتِ المصلحةِ الشَّديدِ الانفجارِ الموجبةُ ـ وفقَ منظورِهِم ـ الكيدَ والإقصاءَ ـ تحقيقًا للغاياتِ المرجوَّةِ سلفًا. فهؤلاءِ النفعيَّونَ تسوِّلُ لهم ( أناهم ) المتضخِّمَةُ المتماهيةُ في الأنانيَّةِ الفاحشةِ ، والكراهيةِ بإقصاءِ الآخرِ ، وهو المبدعُ الحقيقيُّ المستحقُّ .. فيتحوَّلُ المبدعُ إلى ( مبعد ) ، بتصحيفِ كلمةِ ( مبدع ) لفظًا وواقعًا".
 
أمّا الكاتب والباحث الاجتماعي السّعودي (جليل الحايك) فأشار إلى أنّ احتكار الفُرص قد يتجاوز التّجمّعات الثّقافيّة على أرض العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي على الشّبكة العنكبوتيّة الإلكترونيّة رُغم اتّساعه، وعن هذا قال: "هناك محسوبيات ، و هي متعددة و متنوعة حين تواجه المثقف ، خصوصاً في احتكاكه مع العالم الخارجي و الذي هو مكون من شرائح و أفكار و آراء متعددة ، ومن أمثلة ذلك ما يحدث حين يريد المثقّف نشر مقال ما أو خبر أو لقاء صحفي ، في أي صحيفة إلكترونية إخبارية أو ثقافية ، فيصطدم بأن العاملين على الشبكة يتجاهلون طلبه ، لأن اسمه ربما غير معروف مسبقاً لديهم ، أو أنه من غير المشاهير في عالم يضج بالغث و السمين في الإنتاج الإبداعي و الثقافي ، فيضطر – مثلي- للاستعانة بمن هم معروفين لينشروه لي بواسطتهم ، فأكون قد دخلت بهذا في متاهة المحسوبيات!"

تبادل المصالح : الرّوائي المصري محمّد خيري عبّر عن مدى الإحباط الذي يمتطي روح المُبدع حين ترتطم موهبته بباب الفرصة الموصد لانعدام الوساطات والعلاقات الشخصيّة المُساندة: "من أسوأ الأحاسيس التي تصيب الفنان أو المبدع هو الشعور بأنه نقطة في محيط, يرى العالم من حوله يقلّص حجم إبداعه حتى وان كان يستحق التقدير, يزداد هذا الشعور سوءا عندما ينكشف له أن الأكثر كفاءة لا يوفق أبدًا لأنه ليس مسنودًا من أحد ويفتقر عمله للتمويل و الدّعاية الفعالة (أو حتى النقد)..على الصعيد الأخر, تجد المحيط يعلو سطحه بعض المعروفين في صورة أمواج لا تتوقف عن تحطيم مبدعي القاع الذين يحاربون للصعود أو مجرد اظهار أعمالهم, في كثير من الأحيان يكون هؤلاء اللامعين المهيمنين أنصاف موهوبين أو غير مُبدعين فعلاً... ولكن هناك عدة عوامل تساعدهم على أن يطفوا على الواجهة, فلا يُرى غيرهم!.. من المُحبط أن يصنع المبدع عملا يعتز به... فيجد أن مصيره تمّ وأده في الدرج ولا يشاركه أحد هذا الإبداع... قال لي مُخرج سينمائي مصري عظيم ذات مرة:"إن أردت أن تبدع ... فأبدع!! ولن يمنعك أحد.. فقط ابحث عن شخص (واسطة) تسندك ... ولا تظن أن المبدع هذه الأيام يصل إلى مُراده بالكفاءة ...لا يا ولدي كله دلوقتي بالأونطة!!"
بينما رأى الكاتب الفلسطيني (زياد جيّوسي) أنّ تبادل المصالح هو كلمة السّر وراء تقديم العلاقات الشّخصيّة على الأكثر استحقاقًا، ومن هذا المُنطلق فقد أكّد:"أنا لا أعتقد أن هناك محسوبيات في الثقافة، لكن أنا مقتنع تماماً أن هناك محسوبيات تعتمد على العلاقات الشخصية وعلى المصالح في الأوساط الثقافية، أما لماذا؟ فهي المسألة الأهم أن نعرفها، وأعتقد أن المسألة قائمة على تبادل المصالح، على تبادل المنفعة، فكل من الطرفين يحتاج للآخر أو سيحتاجه في لحظة ما، (فيقدم له السبت ليجد الأحد أمامه) كما يقول مثلنا الشعبي، وهذا نلمسه كأنموذج مبسط على الصفحات الثقافية في بعض الصّحف الورقية، فنجد المشرف ينشر لأشخاص محددين يتكرر اسمهم بغض النظر عن مستوى العمل المقدم، بينما يتم تغييب آخرين لهم وجود قوي في العمل الثقافي، وهنا نجد أن المصلحة والعلاقة الشخصية تلعب دوراً أساسياً في هذه المسألة، وهذا ليس أكثر من أنموذج بسيط في ظل أمثلة كثيرة تظهر حجم المحسوبيات المُعتمدة على العلاقات الشخصية والمصالح في أوساط الثقافة."
أخيرًا وليس آخرًا؛ الكاتب السّعودي (علي السّيهاتي) الذي يرى؛ من وُجهة نظر مُتأمّلة لمن حولها، أنّ "هناك الكثير ممّن يُحبون أن يخرجوا كأبطال للكلمة وبأثمان أحياننا بخسه وأحيانا كبيرة , الأمر الذي يتسبب بتفشّي تلك الظّاهرة في مُجتمعاتنا الثّقافيّة العربيّة".
هكذا أجمع أولئك المُبدعين على تفشّي تلك الظّاهرة في الأوساط الثقافيّة العربيّة وإن تباينت الرؤى ووجهات النّظر المُحللة للأسباب.. وفي النّهاية لا يسعنا إلا الوقوف عند حقيقة أنّ الطبيعة البشريّة قد تكون دافعًا للشخص كي يُساعد أو يُشجّع من تربطهم به سابق معرفة، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بردّ جميلٍ سابق في السّياق ذاته، لكنّ المؤكد هو أنّ العدالة لا ترضى باحتكار الفرص كلّها للمعارف فقط لا غير، كما ليس من العدل إيصاد الأبواب في وجه كل موهوب يُحاول الصّعود كي تبقى الخيرات كاملة لمصلحة أفراد الشّلة أو المجموعة المُنغلقة على ذاتها، وسد طرق التعاون مع كُل مُحتاج خارجها مهما أفصحت موهبته عن مشروع نجاحٍ لامع، كما لا يجوز أن يتم تقديم مصالح أفراد الشلّة أو الدّائرة البشريّة المُغلقة حين يتعلّق الأمر بالظلم والباطل والفساد، وحماية الظّالم وضرب المظلوم، وتجاهُل المُحسن ومُكافأة المُسيء، لأنّ للظلم والإجحاف والإقصاء ومُكافحة النجاح حساباتٌ أخرى يلفظها مفهوم العرفان بالجميل، ولا يعترف بها إلا الغبن؛ مُنقلبًا بسوء العاقبة على الوسط الثقافي الإنساني، وعلى الثّقافة كمفهومٍ يرتبط بالأخلاق ونظافة السلوك.

--------------


رابط الموضوع على موقع صحيفة الوطن البحرينيّة:
 













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق