الصفحات

2011/02/20

"اللّعنـــــــه.."قصة قصيرة لعمار الجنيدي

اللّعنـــــــه..
قصة قصيرة
عمار الجنيدي

برويّة وهدوء ، وقف أمام أحد الكهوف القريبة من قلعة عجلون. تأمل المنظر جيدا ، فالشمس النائسة خلف القلعة ، منظر تمنّى رؤيته منذ زمن بعيد ، طالما سمع عنه من الكثيرين..
دخل الكهف وتملّى فيه جيداً ، جلس واتكأ على أحد الحجارة المهيأة بفعل إنسان حاذق في نقش الحجارة .
دارت فيه الأمنيات :
- لو أنني عشت في زمن صلاح الدين ، لكنت خضتُ معارك مصيرية ، وربما كنت أحد الفرسان أو القادة الذين ذكرهم التاريخ في بطولاته وملاحمه.. آه.. لكنتُ شاركتُ على الأقل في بناء القلعة، لابد أن جدّي يوسف شارك في حمل هذه الحجارة العظيمة على كتفيه..
استبدت فيه الأحلام والأمنيات ، فغفا وهو يتخيّل نفسه فارسا من فرسان التاريخ ، يصول ويجول على صهوة جواد أبلق ، يشق بسيفه صدور الأعداء ، ويصعد إلى قمة برج القلعة ويملأ صدره بهواء نقي ، ويزفر متنهدا ومتمنياً أن لا يأتي زمان تكون فيه بلاده عُرضة للإهانة والإغتصاب..
لم يعرف على وجه التحديد كم من الزمن مضى عليه وهو غافٍ في الكهف ، فبعد أن صحا من نومه. وفتح عينيه جيداً . تلمّس جاكيت الجينز والبنطلون المهلهل . ولمّا رأى لحيته الطويلة التي خالطها كثير من الشيب والشعر الأحمر ، أحسّ بالهرم..
- لابد أنني نمت طويلاً..
قام ببطء وتثاقل . خطا إلى خارج الكهف . أبهره ضوء الشمس الذي بدا في مراحل هزيعه قبل الأخير. وضع يديه على وجهه ، إتقاء الضوء الباهر . وتابع خطواته إلى الخارج. نظر إلى التلال المحيطة. ارتسمت على وجهه ملامح الدهشة :
- أين ذهبت القلعة ؟؟.. أقسم أنها كانت على ذاك الجبل الشامخ.. . ربّاه.. ما الذي يجري !..
عاد للبحث عن القلعة في مختلف الجهات، وبخاصة على الجبال المحيطة بالكهف.
ولما أيقن أنها غير موجودة ، تحولت ملامح الدهشة على وجهه إلى ملامح خليطه بين العجب وعدم التصديق والشك؛ خاصة عندما أبصر على أحد الجبال القريبة بنايات صغيره متراصّة من الفلين، وكأنها مستعمرة صغيره ، من تلك المستعمرات الما زالت ماثلة في ذاكرته..
- لمن هذه المستعمرة ؟..
أحسّ بالجوع ينهش معدته الخاوية . نزل إلى عجلون ، بعد أن اجتاز سوراً من الأسلاك الشائكة. ساعدته لافتة كبيره مكتوبة باللغة العبرية ، فتسلّق عليها ثم هبط قافزاً إلى الأرض. استرعاه كثيراً وجود لافتة باللغة العبرية :
- ولماذا اللغة العبرية ؟!.. لعلها أصبحت لغة عالميه بدل الإنجليزية !.. هِــه..
سخر من إستنتاجه ومضى نازلاً إلى عجلون :
- وماذا يمكن أن يكون مكتوباً على تلك اللافتة ؟.. وأين اختفت قلعة عجلون ؟.. ولمن تعود تلك المستعمرة؟..
بدا مبهوراً وهو يتأمل البنايات الشامخة التي تشبه في طرازها المعماري ناطحات السحاب:
- ربّاه.. ماذا أرى !.. أين مسجد عجلون ؟!!.. لقد كان هنا ، محل هذه البناية الضخمة.. وأين الكنيسة ، ومكتبة عقيل ، والإستراحة ، أين أبو العز؟!.. يا إلهي !!.. ما الذي يجري هنا ؟!..
دفعه أحد المارة بكتفه ، فقد كان محط سخرية الناس وإستهجانهم لوقوفه الطويل أمام البنايات. نظر حوله بتمعّن، فرأى أناسا كثيرين يعتمرون قبعات دائرية وأردية سوداء طويلة ، ولحى سوداء كثّة، وتعاظُم اللافتات على أوجه المحلاّت مكتوبة باللغة العبرية..
- لابد أنني أحلم.. فمن يصدّق هذا الذي أرى ؟..
الجوع يستبد بمعدته ، ومع طول التجاهل يستحيل إلى ألم مرهق .
دخل إلى كافتيريا قريبه . طلب من البائع رغيفا من الساندويش..:
- يوجد لدينا فقط همبورغر..
- الحمد لله أنني وجدت أخيراً من يتكلّم العربية..
- يا رجل ، أنا عربي ، من يهود اليمن..
- يهود اليمن ؟.. وماذا تفعل هنا ، ولماذا جئت من اليمن ؟..
مدّ البائع برغيف الهامبورغر إليه ، وعلامات الإستياء بادية في نظراته :
- ثلاثة شيكلات..
- ماذا قلت ؟..
- قلت ثلاثة شيكلات..
بحث في جيوبه عن النقود ، فعثر على دينار..
- ما هذا !.. هذه العملة قديمه وهي ملغيّه منذ زمن طويل.. من أين أنت يا هذا ؟..
- أنا !!!.. لم تقل لي أنت ؛ ماذا تفعل هنا ، ولماذا جئت من اليمن ؟..
استشاط البائع غضباً ، فخطف رغيف الهامبورغر منه ودفعه إلى الخارج :
- هل سنعيد القصة من جديد.. هذه أرضنا يا رجل.. أرضنا التي وعدنا بها منذ قرون.. هيا أخرج من هنا ، عليك اللعنه..
وخرج من الكافتيريا مطرودا ، مدحوراً ، جائعا ، ذاهلاً عمّا يدور حوله .
 ارتمى على كومة تراب أمام أحد المتاجر الضخمة وراح يمرّغ رأسه في التراب وينثره على وجهه. تنهد بحنق وحسره. استجمع بقايا أنفاسه، وكبتها في صدره تمهيداً لإطلاق صرخة مقهورة تعتمل في داخله، لكن صوته ظل حبيسا في حنجرته ؛ ولم يقو على إطلاق صرخته..
عاود التنهيد . ظلّت الحسرات حبيسة وجدانه المثخن بالذهول . نهره حارس البناية الضخمة كي يبتعد عن المكان.
تمعّن فيه جيداً :
- ليس هذا غريمي..
تقدّم نحو الحارس ببطء . غافله ، وبضربة قوية على رأسه جعلته يترنّح ، ضَرَبَهُ مرّة أخرى بنفس الطريقة. إستلّ منه السلاح عنوة ، واتجه راكضاً صوب المستعمرة.....
amrjndi@yahoo.com
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق