لوكاندة بحائط خشبي*
محمد أبو الدهب
لكزتني سهيلة في صدري ثانية، وضحكت. مصمصت شفتيها، وقالت: قل معي (قدر الله، وما شاء فعل) .. أوجعني الفص المقلبظ، لخاتمها الفالصو، وكان ضاغطا بقوة على عود إصبعها الممتلىء. قلت لها ما أرادت، واستطلت برقبتي، فقبّلت باطن قدمها، وبلعت ريقي. قفزت فجأة. فتحت الشنطة السوداء، الكبيرة، التي اشتريناها من (سيدي جابر) بعد زواجنا، بساعة. أخرجت فوطة، وطقما داخليا، وقميص نوم سماويا، وعبوة شامبو. استدارت، وقالت: تعال، نستحم مع بعض. تمطعت، واستلقيت على السرير، مستحضرا كل كسل العالم. أغمضت عيني، وسمعتها، كأنما تغنى، بسخرية مرحة: حبيبي اللي خدني، من ورا أهلي وأهله، مكسوف يقف جنبي، في البانيو ! ..... كانت سهيلة موشكة على صرخة، وأنا مستند إلى حائط خشبي، في طرقة اللوكاندة، لا أعرف أين أضع خطوتي. قسيمة زواجنا بين يدي موظف الاستقبال الخمسينى، البدين – لعله مالك اللوكاندة - يعرضها على رجلين، جاءا بعد أن أرسل اليهما طفلا، يدعى عمر. يقلّبونها بينهم، في حيرة، كأنها مكتوبة بلغة غامضة، فاجأتهم. تردد اسمي رباعيا، واسم سهيلة. انتبهت إلى لقب (الليثى) عندها. هل لم أكن أعرف ؟ وسمعت شيئا عن توقيع الشهود، وختم النسر، والمحكمة التي يتبعها المأذون، الذي كتب. هممت بالسؤال: لماذا كل هذا ؟ لكن صدري انتفخ بضيق عظيم، من هؤلاء الأغبياء الثلاثة، ومن فكرة اللوكاندات، ومن عائلة سهيلة، واستعدت، تلك اللحظة، موقفي المعادى للوجود. لكزتني، قائلة: كلّم الراجل. التفت، فرأيت ذراعه ممدودة، بمفتاح يتدلى من ميدالية، صدأ معدنها. قال: غرفة 313 .. وأشار إلى عجوز، ناداه ب( عم خضر ). حمل حقيبة، وترك لي الأخرى. هل كان عم خضر هذا نوبيا، بشوشا، وفضوليا، خفيف الدم ؟ وهل كان لابد من هذا الرقم، و اللوكاندة لا تسع عشرين غرفة ؟ فتح لنا الباب، دخلنا، فتذكرت الآن، بقلق، عدم وجود أسانسير. سنضطر، كلما رحنا وجئنا، على مسافة خمسة طوابق، إلى تبادل قذف النظرات، مع الصاعدين والنازلين. ولن يسلم الأمر من أخطاء، لأن أهلها في الإسكندرية، ربما كلفوا من يبحث عنها، في لوكاندات القاهرة. أعطيت عم خضر ثلاثة جنيهات، فقال اننى أستطيع أن أطلب لي، وللمدام، شايا وقهوة في أي وقت. صرت – فيما بعد – لا أضمر فرحتي، وحماسي، لسهيلة، حين تدخل معه، في فاصل من الهزار، خاصة عندما تغلبه في الكلام، لدرجة أنه يركع من الضحك – أحيانا – ويعلنها بصراحة: جوزك غلبان، إنما أنت، يا باااى ! .... هل تصورت أنا أن عم خضر، يصلح، ربما لحين عثورنا على شقة مناسبة، أبا بديلا لسهيلة ؟ .....فتحت عيني. كانت واقفة، على سجادة صلاة، فرشتها بين السرير والمنضدة، وقد ارتدت الإسدال. لا أذكر كيف حصلنا على هذه السجادة، نقرت بظاهر كفها، على الحائط الخشبي، وقالت بغيظ محتمل: قووم ... يابوكسل. غبت أتأملها بشفقة، وأتساءل في روحي: لماذا نبدو أيتاما، إلى هذا الحد ؟ كبّرت سهيلة بنبرة عالية، فيها ميوعة، أفهم أنها لم تتعمدها، جعلتني أشتهيها، من جديد.
* من مجموعة " نصوص الأشباح "
قصة مشحونة بالوجع الانسانى الصادق
ردحذف