الصفحات

2011/09/05

"مقهى البركة ...الحجر العتيد" قصة لمحمد الكامل بن زيد

مقهى البركة ...الحجر العتيد
محمد الكامل بن زيد
ظلت تؤمن أنها هكذا خلقت ..وهكذا يجب أن تحيا ..وهكذا يجب أن تموت ..إمرأة هي ليست كباقي النساء.. كل يوم يزداد إصرارها على أنها أجملهن ثوبا وخلقا .. جميع ما خلق فيها الرحمن ..جميل ..يتضح بحرارة عمر الزهور ..عيناها بمثل عيون السماء ..عظيمتين ..يتدفق منها الحنان ..و الكـبرياء ..و جيدها بمثل جذع نخلة ( دقلة نور) العملاقة .. كلما سقطت منها تمرة .. نبتت أخرى ..مثبتة في صحارى الجمال ..لا تخشى فأس الحطاب ولا ذراعه
جذور .. لها هوية .. و هويتها :
- وجه مريم .. العذراء .....
أحيانا تختلق بينها وبين نفسها .. حين ينام الجميع .. ويغطون في سبات عميق ..عمق انكسار أجسادهم على
وجه البشرية عالما آخر ..عالم لا مثيل له في الوجود .. يعترف بجميع الأديان .. حين تشهد له بكتبها المقدسة .. أن الله جميل .. وهي من صنع الله .. إذن هي جميلة ..
فتختال أمام مرآتها .. تلاعب ظفائر شعرها الغجري من الشمال على الجنوب..ثم تهتف بصمت كنائسي :
- هذه .. مملكتي..
و لم يكن لها .. فيها تملك النساء المتصدرات موكب العودة .. إلا الصمت الإنتظار .. الاحتقار .. هن لسن بمثل عرشها .. فلا يحق لها أن تعترف بهن .. (آخر الموكب : أنمسب مكان لفاتنة ..حرة ..تخشى على اعمدة عرشها ..أن تتزعزع)..هكذا بمثل هذه المباديء ..ستضمن بقائها ..ملكة الموكب ..
-لا سلطان لهن علي .. و الأمر كله بيدي ..
كلهن يسلكن حين عودتهن من العمل على الساعة الخامسة عصرا طريقا واحدة .. طريق مقهى البركة ..كلهن ما أن تتراءى المقهى لهن مع أول منعرج .. حتى يبدأن بالثرثرات القذرة و الضحكات الهسترية الخليعة.. سهام نظرات مومسة تعلو..تنخفض بشكل فاضح..بينهن و بين رواد المقهى ..
إلا هي .........
فتبقى الملكة ..الأشبه بطيف صغير من أطياف الجنة و قد أقنع رأسه ..لا يرتد إليه طرفه .. ينفث ريش جناحيه في وجوه ناظريه ..من شدة الخجل و الاعتزاز ..مشيه صمت ..حديثه صمت ..غير آبه بعتاباتهن المملــة ..المبغضة للنساء
- تقدمي ..أمامنا
-هذه فرصة العمر ..أنظري إليهم .سينهشون لحمك
- كلنا سنوضع في الأقفاص .. فتمتعي بالحرية
- عنيدة .. متكبرة
- إمرأة .. قديمة ..
- أبدا ..لاتنكر ...
(إعتراف جريء ..وبريء في نفس الوقت )
من أن إحساسا عظيما بالإنعاش ساورها في بدايات طريقها معهن .. استوجب منها أن تتساءل مليا عن
الحقيقة ..ترددت ثم قاومت بعد أن آمنت بما تفعل .. عرفت أن الإنتعاش نزوة كاذبة ... ثم أنها لا تريد أن تتجاهل أن كل يوم يمر .. يتعمق إيمانها من أن رواد مقهى (البركة ) ...ماهم إلا تماثيل صماء .. تنتظر عصا النبي الخليل لتحطمها .. وأن الحجر العتيد المخلد فوق رؤوسهم سيصدع لا محالة.....آجلا أم عاجلا ....
هكذا بقيت تؤمن ...إلى أن عاد من السفر
******
هاهو يعود من جديد إلى مقهى (البركة) .. وقد ركبه شيطان الغضب ..يستعر خنقا و غيضا ..هذه المرة لا يحمل قنينة خمر ..إنه سكين حاد وطويل ..صاحب المقهى ..لم يثبت على مجلس ..شعور بالغثيان وآخر بالموت ..عاود بمجرد رؤيته ..
- أستر .. يا رب هذا اليوم لن يمر بسلام هذه تاسع أو عاشر مرة يعود فيها إلينا
- يا رب أستر .. فهذا المعتوه .. فعال لما يريد ..
هاهو يتوسط الطاولات كأنه سوط عذاب ..لا تعجبه هيأتهم .. عليها غبرة ..بدت له أشبه ببقايا خردوات صدئة ..تغوص في بحر التفاهة ..لا أحد منهم بإمكانه أن يتفوه بكلمة..نار هو ذات وقود..
- هل مرت .. من هنا ...
- الساعة الخامسة عصرا ..أكيد مرت من هنا
- جبناء ..ظننتم أنكم لن تحروا ........
******
سحبت يده عن خصلات شعرها هامسة ..كمن تريد حسم متأزم :
- هذا المقهى .. أصبح يخيفني ...
تسمر في مكانه وجسمه ينتفض انتفاضا ..نظر إليها مدققا .غاب لحظات في بؤبؤ عينيها الغارق في السمرة و السحر .. وما يحمله من هجر لمرافيء الأمان ..سافر فوق مركب البحث عن حقيقة هذا الخوف ..تريث الامواج ..احتمل غضبها ..حتى ادرك ما تحمله من ...............؟
....... تمتم في رقته المعهودة :
- لما الخوف.... وقد عدت الآن ..
اكتفت بوجه شاحب ..شحوب السماء عند رحيل شمس المغيب .. ودمعة رقيقة تمشي الهوينا فوق الخدود كالحلزون العنيد .. كان التأثير باديا داخل ذاتـها الكامـلة ..
انتظر أكثر مما ينبغي ..ثم نهض فاقد الوعي .. رمقها في حيرة ..زفر أنفاسه كأن في صدره جحيما ..ثم ما لبث أن أقترب أكثر ..كوّرها بين ذراعيه ..قبّلها بنفس عميقة ..
- أخشى من هذا الصمت ..من هذا الخوف .............
****
قالت نسوة الموكب له ...
- نعوذ بالله ..أن نراها ثانية ..هي.. الظلال المبين
*****
أحكم إغلاق باب المقهى .. جاعلا كل من فيه أمامه ..حلصرهم في زاوية ضيقة ..لا مفر..الرجفة رجفت و الأرض دكت من تحتهم دكا ..دكا ..قيء كثير أخذ يعفن المكان .. عرق نتن يتصبب من أخمص قدميه ..توسلات مبهمة الألفاظ .. أعجمية الكلمات ..أنتظر أن يطلق سراحها ..أشهر سكينه في عيونهم ..أبسط حركة سيغرس اثرها السكين في أجسامهم .. الجرداء
.......قهقه عاليا .....
- هذا يوم الحشر .....
ثم انقض بسرعة البرق على رأس أحدهم .. وزجر زجرة واحدة :
- آن الموعد أيتها التماثيل ..أنا النبي الخليل
*****
أصل الحكاية (1)
آدم .. حواء .... قيس .. ليلى
أساف.. نائلة ..... عنتر ..عبلة
جميل .. بثينة ....أسعيد .. حيزية
أصل الحكاية (2)
للعشق رائحة .....وللجنون رائحة أخرى
****
ذات ليلة سمعها تهذي ...
- ربي .. الموت أحب إلي مما يدعونني إليه .... و ألا تصرف عني كيدهن أصب إليهن ولـكن من الجاهلين ...
و خزات بالغة الحدة خرقت الجسد النازف ..بجانبه الأيسر ..ضغط على شفتيه و هو يداري خوفه الشديد .. يترك دائرة الصمت و التفكير العقيم تتسع ..إذ تنهد تنهيدة .. قلقة ..تعبق برائحة الألم و البؤس الرجيم .. في أذنيها ....:
- إني أشهد أن لا إمرأة آمنت بعرشها ..إلا أنت .. فلا تحزني إن هي إلا أضغاث أحلام ...
******
في مركز الشرطة ... أقدام الضابط الباردة ..المتصلبة .. تضغط بشدة قاتلة فوق رقبته المعانقة للإسفلت المبلل ...
- لن ينفعك صمتك .. أجب يا ابن اللعينة ..من المستحيل أن ترتكب بمفردك مجزرة بمثل تلك الشناعة و الوحشية .. أكيد .. لك شركاء ..نعم ..أنت من الـ...؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق