الصفحات

2012/01/25

"تكسيرات" سمر غطاس بقلم: زياد جيوسي

"تكسيرات" سمر غطاس
بقلم: زياد جيوسي

حين أدهشتني الفنانة سمر غطاس بلوحة لها رأيتها على شكل صورة فوتوغرافية لأول مرة، أصبحت حريصاً على أن أتابع لوحاتها وإبداعها، وكنت أنتظر أول لحظة تسمح لي لحضور معرض خاص لها، وقد تحقق هذا الحلم أثناء زيارتي الأولى لبيت لحم، فتمكنت على الرغم من ضيق الوقت من حضور معرض متميز للفنانة، هذه الفنانة التي تتميز بموضوعاتها وحجم الفكرة التي تثيرها في ذهن المشاهد المتأمل للوحة والمحلق فيها، وحين أتيح لي أن أشاهد مجموعة لوحاتها الجديدة التي تحمل اسم "تكسيرات لونية"، شدتني بقوة لوحة تحمل اسم تكسيرات، ومنها تنبثق فكرة استكمالية في اللوحات الأخرى تكمل الأفكار وتحليق الروح الفنية المتألقة، ولكن هذه اللوحة بالذات مثلت القاعدة والأساس لما يجول في روح الفنانة، وحجم الانعكاسات الفكرية والسياسية على روحها، فاللوحة تحمل تاريخ الانتهاء من رسم اللوحة في الربع الأول للعام الحالي 2011، وهذه كانت مرحلة حساسة تركت انعكاساتها على كل العرب من خلال ما اصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي.
المتأمل للوحة "تكسيرات" وهي من ضمن عدة لوحات يقف بدهشة، فهذه اللوحة التي تميزت أنها رسمت بالألوان المائية الشفافة تعطي معاني كثيرة، ولعل إضافة الألوان الشمعية (الباستيل) تضيف للمتأمل تعبيرات أخرى، فالممازجة بين المادتين المختلفين حتى التناقض ليس سهلاً، والفنانة أجادت الممازجة وصهر المادتين بطريقة متميزة تدلل على قدرات فنية خاصة، فليس من السهل ممازجة الشمع بالماء في لوحة واحدة بهذه الطريقة، حتى ظننت للوهلة الأولى أنها تستخدم أسلوب جديد بالتعامل مع المادة الشمعية التي تعتمد على إذابة اللون بواسطة النار الموجهة (فرد النار).
فكرة اللوحة تقوم على مشهد لامرأة في وسط اللوحة وتشكل بؤرة الحدث والحكاية فيها، تقف منتصبة عارية وترفع رأسها عالياً بشموخ، ينشق جسدها من الرحم حتى أسفل ما بين النهدين ليخرج من داخل الشق جنيناً منتصباً يجسد فكرة تولد الحياة، وحول المرأة من يسارها ويمينها أربعة شخوص من الذكور يركعون على ركبهم وعيونهم مشدودة نحو الجنين والتولد الجديد، وعلى يسار المرأة من الخلف سبعة شخوص وعلى يمينها ثمانية شخوص يجلسون في نفس الهيئة السابقة، وهنا أجد رمزية دينية بوجود العدد تسعة عشر، فهذا الرقم بالذات تكرر في الديانات وخاصة في القرآن الكريم.
ملامح وجه المرأة كانت صلبة ولون الوجه يختلف عن لون الجسد، فهو أكثر قتامة، وهذه النقطة بالذات تصب في صالح دقة اختيار اللون للفنانة، فالوجه دائماً معرض للشمس أكثر من الجسد، وفي نفس الوقت نلاحظ أن منطقة الشق بالجسد كانت باللون الأصفر الوهاج، وكأنه يرمز لحياة جديدة من خلال استخدام لون الشمس التي تبشر كل صباح بفجر جديد، ولكن بالمقابل نجد أن لون الجنين كان قاتماً ويميل للسواد، فهل رمزت الفنانة من خلال اللون أن المستقبل يحمل تخوفات كثيرة؟ وهذه الرمزية نجدها بشكل آخر بتركيبة الأجساد الذكورية الجاثية على ركبها، فهي كانت تجريد للأجساد، وفي نفس الوقت نراها خلت من أية ملامح تظهر الوجه، وكلها تفتقد اليدين، والأجساد ملونة بطريقة الحبيبات والنقاط وافتقدت الصفاء، على الرغم من أنها كانت تحمل ألوان الفرح بممازجة الأزرق بالأخضر مع الأصفر والأبيض، بينما كان الظهر للأجساد من اللون الأرجواني الذي يمثل الهالة الضوئية للأجساد البشرية، فهل رمزت الفنانة من خلال ذلك أن الرجال في منطقتنا يعانون من حجم القمع السياسي بحيث أنهم على الرغم من ما يعتمل في أرواحهم عاجزون عن التغيير ولا يمتلكون الرؤية للغد؟ ونلاحظ أن الجنين خرج منتصباً من رحم المرأة يمد يده للرجال وكأنه يقول لهم: انهضوا.
في اللحظة التي يخرج فيها الجنين منتصباً من رحم المرأة، تكون هي ترفع رأسها بشموخ وكبرياء، وترفع يديها وبين اليدين تطير مجموعة من الأوراق بشكل منتظم لو دققنا النظر فيها لكانت على شكل عمود فقري بشري، فهل رمزت الفنانة من خلال هذا المشهد أن أوراق المستقبل مرتبطة بالوليد الجديد (الثورة)، وأن هذه الأوراق تحمل في ثناياها فكرة لمستقبل جديد تشكل العمود الفقري للإنسان العربي؟
ما يؤكد هذه الفكرة أن الشخوص التجريدية الذكورية تجثي ركبها على قاعدة سهلية تمازج الأخضر بالأزرق، وتنبت فيها مجموعة من ورود خضراء الورق بدون إضافات أخرى، والأخضر دائماً رمز من رموز التفاؤل، بينما جسد المرأة كان محاطاً بكثافة باللون الأرجواني المشع كهالة ضوئية تحيطها وكأن الثورة تنطلق من خلالها، وفي خلفية اللوحة ما وراء القاعدة نجد شكل قوسي كأنه تلة خضراء يليها قوس من لون يمازج الأزرق بالرمادي وكأنه فاصل مؤقت بين الأخضر وقوس آخر من عشب وكأنه نار مشتعلة، بينما نجد المجموعة الخلفية من الشخوص تجثو ونظراتها إلى يمين اللوحة، وحين ندقق الانعكاس للظلال في اللوحة نجد أن الإنارة من يسار اللوحة، وفي منطقتنا جغرافياً أن يمين اللوحة يكون الغرب ويسارها يكون الشرق، ما يثير الإحساس أن النظرات تتجه لغرب الوطن حيث كانت شرارة الربيع العربي، ولكن الاشتعال سيشمل المنطقة بأكملها.
وفي النهاية أقدر للفنانة جهدها وإبداعها، ولا أملك إلا أن أقول إن الفنانة سمر غطاس شكلت في لوحتها هذه قاعدة لمجموعة لوحات، تحمل في ثناياها فكرة متميزة وحلم يحمل في ثناياه كم كبير من الأسئلة والحلم بالقادم، مع التخوف من تأثيرات سلبية تؤثر على لون الجنين القادم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق