الصفحات

2012/03/19

بلاغة الخطاب المتعدد في بياع الملاح لمصطفى البلكي بقلم: د/ شعيب خلف

بلاغة الخطاب المتعدد في بياع الملاح
د/ شعيب خلف
تنقسم رواية ( بياع الملاح )( ) لمصطفي البلكي إلي ثلاثة أجزاء رئيسة ، عناوينها كالتالي : ( أول الغيث قطرة / ما أطول الليل علي مشغول البال / صحبة وأنا ) يتخلل هذه العناوين خمسة عشر عنوانًا تمر علي الأقسام الثلاثة السابقة دون فصل بينها: منها ما يحمل أسماء شخوص في الرواية لهم أصواتهم في السرد مثل ( 4- الناشف ، 10- محمد جمعة ، 13- الصاحي) أو أسماء أماكن لها دورها في حركة الأحداث مثل ( 2- المستوطنة / 3- دورة المياه /5 – سياج / 9- الشجرة / 14- جلسة ) ومنها ما نتج عن أثر الغربة في الشخوص كالأحلام والذكريات والقرارات ( 1- قرار / 5- تأجيل / 6- حلم / 8- قرار 2 / 11 - اكتشاف / 12- بقايا / 15 – أشياء مبعثرة )
هذا التقسيم للرواية وظهور عدد من الشخوص لكل واحد صوته وحكايته جعلها تدخل في نطاق (رواية الأصوات) وهذا الشكل في ظني يتناسب مع موضوع الرواية وبنيتها السردية لماذا ؟ أولاً: لأن الرواية رواية غربة ، بمعني أن أحداثها كلها تعيش في بقعة من الأرض سماها المؤلف(المستوطنة ) وشخوصها هم مجموعة من الرفقاء في هذه الغربة تتشابه في الغالب ظروفهم وأسباب خروجهم للقمة العيش ، كما تتشابه نماذجهم العليا ومقدساتهم ، إضافة إلي تشابه ظروف أسرهم التي تركوها ورائهم . ومن هنا كان الظن أن الشكل المتعدد الأصوات يتناسب مع هذه الرواية لكونها رواية تتخذ من الغربة موضوعًا لها ، والبنية السردية فيها تقوم علي حركة الشخوص( الرفقاء) داخل إطار هذا المكان البعيد الذي استوطنه مجموعة من الغرباء لم تتح لهم فرصة رؤية ، أو معرفة بعضهم ، إلا من خلال هذا المكان ، وقد أتاح السرد لكل واحد منهم أن يشارك بصوته وحكايته داخل الحكاية العامة وتصبح الذات الساردة ذواتًا ساردة يقوم عملها علي التذكر والتحقيق والاستنطاق والعرض ويقوم المؤلف بالتنسيق بين هذه الحكايات ليتم النسيج العام للحكاية .
الراوي والمروي عليه :
في كل عمل روائي بل وفي كل خطاب لا بد من توفر متكلم وسامع ، راو ومروي عليه ، وربما يكون المروي عليه غير مشخص أو موجود ، يصنع الراوي لنفسه مرويًا عليه يسرد له حتى لو كان هو نفسه الراوي كما سنلاحظ مع جاد في هذه الرواية ومن هنا كان للعلاقة بين الراوي والمروي عليه دور مهم في السرد عامة ، وفي هذه الرواية علي وجه الخصوص لتعدد الرواة والمروي عليهم فيها .
إذا كان الراوي قد نال اهتمامًا كبيرًا في المدارس النقدية الغربية إذا قورن هذا الاهتمام بالمروي عليه ، وذلك للتداخل الكبير بينه وبين القارئ بأنواعه فإنني سأحاول أن أبرز أهمية المروي عليه ودوره مع الراوي في هذه الرواية لنلقي عليه بعض الضوء لأهميته في أحداثها
في هذه الرواية تبرز أهمية المروي عليه ، والمروي عليه في السرد الحديث تتنوع أهميته ودوره وشكله بداية من كونه مستمعًا كما كان شهريار في ألف ليلة وليلة أو قارئًا ، أو يمكن أن يكون هو راوي الرواية ولا يقصد بالسرد غيره ، وذلك من خلال تأثر شخصيته بالسرد الموجه له ، فيكون مشاركًا في الأحداث مما يجعل الراوي والمروي عليه والشخصيات بينهم وشائج قربي أو بينهم تنافر علي حسب المساحة التي يتيحها السرد لهؤلاء وعلي حسب ما ينشأ بينهم من علاقات ، بمعني أن العلاقات في النص يمكن أن تقيم علاقة مميزة بين الراوي والمروي عليه ، لكن ليس شرطًا أن تكون هذه العلاقة حميمة فقط ؛ ربما يقلل أحدهما من شأن الآخر ، أو يرفع منه ، أو يفسر تصرفاته ذاكرًا رأيه فيها ملتمسًا له الأعذار أو معاتبًا منتقدًا هذه التصرفات ، لكن في النهاية ومن المؤكد أن المروي عليه في هذه الرواية هو مشارك في أحداثها ، ملتصق بشخصياتها .
إن تعدد الراوي ومن ثم تعدد المروي عليه جعل الرواية تدخل في نطاق رواية الأصوات وحينما تصنف رواية (بياع الملاح) رواية أصوات فهي ليست كذلك بالمعني الكلاسيكي كروايات ديستويفسكي مثلاً حيث الاعتماد علي مبدأ التزامن بمعني أننا نظل نتقدم في الزمن ثم نعود بالزمن للوراء ليبدأ من البداية الزمنية نفسها . وهذا الأمر يعرف بالبوليفونية ( ) الذي نقله باختين من مجال الموسيقي إلي مجال الأدب ونظّر له بقوله " والتعدد اللساني إما أن يدخل إلي الرواية (بشخصه) إذا جاز القول ـ ويتجسد داخلها عبر وجوه المتكلمين ، وإما أنه ـ بمثوله في خلفية الحوارـ يحدد الصدى الخاص للخطاب الروائي المباشر "( ). وهذا الشكل يشترط فيه التزامن ، كما يشترط التزامن في الموسيقي حيث الآلات الأربع أو الأصوات الأربع لابد أن تعزف معًا في اللحظة نفسها وهذا الأمر لم تلتزمه (بياع الملاح )وليس شرطًا أن تلنزمه أي رواية فهو من بقايا الشكل التقليدي للبوليفونية ، فهي تعتمد زمنًا متسعًا حيث سنوات الغربة الطويلة ، فكثيرًا ما شربت الغربة أصحابها وبقوا فيها حتى نهاية العمر ، إلي جانب زمن التذكر لكل صوت ، وهو موغل في الزمن بامتداد العمر كما حكي محمد جمعة عن طفولته .
تعتمد رواية بياع الملاح علي ما يعرف بالبنية الإطار والتي تعطي شخصية (جاد) الصدارة وتعطي خطابه حرية التنسيق والتأثير والاحتواء للخطابات الآخري بل لا نبالغ إذا قلنا إن جاد يمثل ذاكرة جمعية لجميع الأصوات التي تشاركه السرد .
جاءت أصوات الرواية لتتقاسم مجري السرد بين راو ومروي عليه . يبدأ الراوي( الأصلي ) في الجزء الأول من الرواية والذي عنونته ( قرار) موجهًا خطابه للمروي عليه قائلاً ( غادرت موقع العمل وأنت محتشد بالكثير من ألم السنين وعذابات الأيام .. خطوة جاءت متأخرة لكنها حسب قولك كل وقت وله آذانه ) ص 10 ، ثم عرفنا من خلال السرد ، أن المروي عليه يدعي (جاد) الذي يدور أغلب السرد حوله من خلال الراوي ومن خلاله هو راويًا ومرويًا عليه . حين نادي عليه (عبد النور) ولم يكلمه متجهًا إلي مكتب الإدارة ، ينتهي هذا الجانب من الرواية وكله سرد بين الراوي والمروي عليه (جاد) . ليبدأ الجزء الثاني في الرواية ، المعنون بـ (المستوطنة ) وفيها يوجه الراوي الأصلي خطابه إلي جاد قائلاً (تظهر لك المستوطنة الخشبية كنقطة في بحر ، كلما دنوت منها ، بدأت تبوح لك بتفاصيلها ، بهدوء ودون أي عائق يمنع العين عن السباحة علي سطحها ) ص13 ، ثم يتحول المروي عليه جاد إلي راو " ومروي عليه في نفس الوقت( ها أنت يا جاد وسط الموج بلا مجاديف ، والتاجر الشاطر من يبيع ولا يشتري ، فعليك بوضع أعصابك في ثلاجة ، من اليوم عليك فعل هذا ) ص 14 ، ويستمر الراوي بعد ذلك في سرده واصفًا غرفة (عبد النور) لينتهي بعد ذلك الوصف ، ليقوم حوار بين عبد النور وبين جاد ، حين سأله جاد عن الصورة المعلقة فأجابه: أولادي ، فسأله عبد النور بالمثل عن الأولاد فأجابه بأن الله لم يرد بعد ، وهنا يتحول المروي عليه (جاد ) ليستدعي لحظات التذكر فيصبح راويًا ومرويًا عليه في نفس الوقت ، يقول ( يا له من عذاب عاودني في تلك اللحظة ، جعلني أستعيد تعلق عيني وجنات بوجهي ليلة السفر ، وكذلك استعادت الكلمات التي استطعت ترجمتها ، وهي تصر علي ألا تبرح محيط عيني ..) ص15 . ويستمر تحول المروي عليه( جاد ) إلي راو كلما ضغطت لحظات التذكر عليه ( ..اخترق خدر اللذة كياني كله الذي كان يحتفظ برائحة مسام جسد "وجنات " ، الذي ارتجف وهي تناولني الحقيبة من داخل العتبة وأنا بكل صلف غضضت الطرف عن الارتعاشة ، التي سكنت أطراف أناملها كعادتي معها كل صباح ) ص16 ، ثم يتحول المروي عليه جاد إلي راو مرة آخري في (الجزء الثالث المعنون : دورة المياه ) وهو يحكي لنا موقف الصاحي مع الممرضة ويقوم هنا بدور التوسط بين الشخصيات والتقريب بينها ومعالجة الأخطاء ( أكدت لها أن ما فعله لم يكن به نية القصد وأنها عادة لديه ) ص 20 . ويقوم جاد بدور الراوي مرة آخري حين تسيطر عليه هواجس الغربة والحرمان فحاول إبعاد ذلك عن مخيلته ويتذكر فعل هذه العادة حينما ذهب إلي معمل التحليل . يعود بعدها راويًا في الجزء الرابع المعنون بـ (الناشف) حين يتحدث عن فقده لمهنته في خانة المهنة في الهوية حيث استبدل بياع الملاح بعامل بل بعمالة غير منتظمة ( حينما نظرت إلي خانة المهنة ، ولم أجد بياع الملاح غامت الدنيا ) ص24 ، ثم يعود مرة آخري في هذا الجزء إلي مروي عليه ، ويقوم الراوي الأصلي بالتوسط بين المروي عليه جاد وشخصية عبد النور يقول ( عبد النور بعينه الثاقبة ، عرف أن عودك لم تختبره الدنيا ، صورة من الخارج ، أما الداخل فهش كمعظم البائعين هندام نظيف ولسان حلو يجيد ترويج بضاعته ) ص 25 ، ثم يتوسط الراوي ( الأصلي ) بين جاد وعبد النور مرة آخري ( عبد النور أراد لك أن تبدأ الحياة هنا من السلم لم ينسك في يومك الأول ، كان بين الوقت والآخر ، يمر عليك يشد من عزيمتك ببعض الجمل .. مثل : ـ شد حيلك يا جاد . ـ أيوه كده يا جمل . ) ص 26 . ويتحول جاد إلي راو ومروي عليه حين يحدث نفسه عن الصاحي ( الصاحي يلاعب الدنيا ...يحزن .. يغني ...يفرح ... يغني حتى في المستشفي عندما كان بين الحياة والموت ، كان يغني ...) ص32 . في الجزء الخامس من الرواية المعنون بـ (سياج ) يتحول عبد النور إلي راو وجاد إلي مروي عليه طوال هذا الجزء . وفي الجزء السادس (حلم ) فيه يتحول جاد من راو إلي مروي عليه والعكس ، وكذلك الأمر ذاته في الجزء الثامن (قرار) .
في الجزء التاسع ( الشجرة ) يظهر صوت عبد النور ليكون هو الراوي وجاد مروي عليه ، وفي الجزء العاشر يجمع هذا الجزء بين عدد من الأصوات جاد ومحمد جمعة والراوي ليتبادل محمد جمعه وجاد الراوي والمروي عليه السرد . في الجزء المعنون (اكتشاف ) يظهر صوت محمد جمعة راويًا وجاد مروي عليه ، كما يظهر الراوي ومجموعة الرفقاء مروي عليهم حين يقول الراوي " لم تحرك كلماته وجوهكم ، فلو فرض وقيلت في موقف غير هذا لرددت التلة ضحكاتكم ... مات "محمد جمعة " أودعتم جثمانه ثلاجة المستشفي التابعة للمؤسسة ، وأبرقتم لأولاده تطلبون منهم إرسال أحدهم ليصطحب الأمانة " ص 71 ، ويتحول الرفقاء أيضًا إلي مروي عليهم في (بقايا) حين يخاطبهم الراوي متحدثًا عن محمد جمعة بقوله ( في اليوم الخامس عشر من وفاته ، زرتم لحده ، جلستم بجوار الحجر بعض الوقت ، وقمتم وفي ميعاد الأربعين لم تذهبوا إليه ...) ص73 . وتظهر أصوات أولاد محمد جمعة وزوجته كرواة حين يقرأ جاد خطاباتهم والذي ينتهي الأول بتوقيع محمود ، والثاني بتوقيع أم محمود والثالث دون توقيع ص 75 ، 76 ، في الجزء الرابع عشر وهو بعنوان (جلسة) يظهر صوت الصاحي راويًا والرفقاء مروي عليهم (ص 84) ، بعد أن سبق من قبل راويًا حين كان يلخص السرد من خلال مواويله المؤثرة . في الجزء الخامس عشر من الرواية والمعنون ( أشياء مبعثرة ) يظهر صوت وجنات راوية للسرد حين تحكي أثر غيابه عليها قالت : ( عزيزي جاد بحثت عن كلمة في قاموسي ، لم أجد أفضل من هذه الكلمة ، جاد .. اليوم هو الأخير من شهر رمضان والليلة هي الأخيرة ، وغدًا هو يوم العيد ، وما أدراك ما العيد ، فيه كما تعرف النسوة يغتسلن ، ويتعطرن استعدادًا لقضاء ليلة تمتد حتى الساعات الأولي من صباح العيد .. جاء العيد ككل سنة وأنا وحيدة ، استحلب مرارة الوحدة .. صدقني يا جاد مال الدنيا يهون بجوار لحظات أقضيها ورأسي مركونة علي صدرك ...) ص88 ، ويعود الصاحي راويًا من خلال مواله الذي يحرك السرد ويؤثر فيه ص 90 . في الجدول التالي عرض للراوي ودوره في السرد .
نوع الراوي دوره ووظيفته
الراوي الأصلي - ملاحظ للأحداث وراصد لها وراو بطريقة الكاميرا في أوقات كثيرة دون تدخل ملتزمًا الحيادية ، وليس هذا عن جهل منه بالشخصيات ولكن ربما توجه وتقنية من المؤلف أن يجعله كذلك .
- وأحيانا يتدخل في السرد من خلال التقريب بين الشخصيات .
الراوي المشارك في الأحداث (جاد ) - راو رئيس كما يعيش في أغلب الأحيان دور المروي عليه ، هو البطل / هو الشاهد علي الأحداث تحس بوشائج قربي بينه وبين الراوي الأصلي ، وأحيانًا بينه وبين المؤلف .
- يروي بضمير أنا المتكلم .
الأصوات الروائية الآخري المشاركة في الأحداث ( عبد النور / الصاحي / محمد جمعة / وجنات ) - رواة ومروي عليهم في أحيان كثيرة .
- يتحدثون بوعي من خلال ضمير المتكلم عن ذواتهم
- لكل واحد منهم من خلال صوته مشاركة مهمة في السرد .
أما في الجدول التالي حصر للراوي والمروي عليه في الرواية .
الرواية الراوي المروي عليه
1- قرار الراوي الأصلي جاد
2- المستوطنة الراوي الأصلي / جاد / وجنات جاد
3- دورة المياه الراوي الأصلي / جاد جاد
4- الناشف الراوي الأصلي / جاد جاد
5- تأجيل الراوي الأصلي / جاد / الصاحي جاد
6- سياج عبد النور / جاد / الراوي الأصلي جاد
7- حلم الراوي الأصلي / جاد جاد
8- قرار 2 الراوي الأصلي / جاد جاد
9- الشجرة الراوي الأصلي / عبد النور جاد
10- محمد جمعة الراوي الأصلي / محمد جمعة / جاد / الصاحي / وجنات
جاد
11- اكتشاف الراوي الأصلي / محمد جمعة / جاد / الصاحي جاد / الرفقاء
12- بقايا الراوي الأصلي / زوجة محمد جمعة
جاد / أبناء محمد جمعه جاد / الرفقاء
13- الصاحي الراوي الأصلي/ الصاحي / جاد جاد
14- جلسة الصاحي / جاد / الراوي الأصلي جاد
15- أشياء مبعثرة جاد / وجنات/ الراوي الأصلي / الصاحي جاد / وجنات
دور الشكل المتعدد:
قلت في بداية القراءة إن الشكل المتعدد يتناسب مع مضمون هذه الرواية التي تعد رواية غربة ، وتناسبه يأتي من حيث إظهاره لفائدة هذا الشكل الذي يمكن أن يقوم دوره علي محاصرة الحقيقة فأصوات الرواية كلها تحاصر موضوعًا واحدًا وهو موضوع الغربة . في البداية وحين يقرر ( جاد ) الرحيل والعودة إلي الوطن يستدعي كل الأصوات التي سنراها لاحقًا في الرواية والتي تعيش الغربة معه حين قرر عرض هذا الأمر علي مديره في العمل فيسأله ( – عاوز إيه ؟ سمعت وشعرت بأن نفسك تخونك ، حتى أن قدميك أصبحتا لا تقدران علي حمل جذعك بسرعة لملمت نفسك ، واستدعيت ـ علي الفور ـ سحن عبد النور ، محمد جمعة الصاحي ، جدتك ووجنات .. دفعت بهم ، فساروا ووقفوا خلف الباش مهندس . – عاوز أرجع ) ص11 ويصف جاد الغربة مرة آخري حين يربطها بوهم جمع المال ( سراب كنا بنجري وراه ) ص 12 كما يصف وجه عبد النور صاحبه ( لمحت وجه عبد النور المشوه والهاربة ملامحه تحت ضراوة غبار الأسمنت ) ص 10. ويظهر أثر الغربة من وصف الراوي الأصلي علي لسان جاد لغرفة عبد النور ومحتوياتها ص 14/ 15. ثم رد فعل جاد حين سأله عبد النور عن الأولاد وارتبط ذلك بالسفر والغربة ( يا له من عذاب عاودني في تلك اللحظة ، جعلني أستعيد تعلق عيني وجنات بوجهي ليلة السفر وكذلك استعادت الكلمات التي استطعت ترجمتها ، وهي تصر علي ألا تبرح محيط عيني " ص 15. ثم الغربة وعلاقتها بالحرمان ص 16 ، ثم الحلم الذي يطارد جاد والذي يقوم منه مفزوعًا ، يخرج عن شعوره صارخًا ( عمري اتسرق .. يهرع إليك الرفقاء ، يناولونك كوب ماء ، وسيجارة ولا يتركونك حتى تسترد أنفاسك، من أجل ذلك الحلم تخاف أن تنام ) ص 46 ، ويقول في آخر الرواية ( أنا والليل وجدران أربعة ، وكلمات لم تخرج من أفواه الرفقاء وحلم يتربص بي ، ينتظر الفرصة ليمسك برقبتي وبقايا نار ما زالت تأكل محتويات غرفة محمد جمعة وخطابات وجنات تخرج لي ألسنتها ، تريد مني التمسك بالقرار) ص 88 .
يأتي صوت وجنات الذي يظهر كثيرًا في لحظات الضيق والتذكر عند جاد " .. تعلقت بالعينين ، فركض داخلك صوت وجنات وهي تقول : ـ الشوطة هتاخد وقتها وتمشي ...وهيجي الشتا .. ويرجع ضلي أرميه كل ليلة علي أرضية الفسحاية وأنت قاعد جنب الريع تدفيه ) ص17 ويطل الحرمان العاطفي كما أشرنا ونلاحظ ذلك في الجزء المخصص المعنون ( دورة المياه ) ص 19: 22 . ثم يأتي دور الشجرة بين جاد وعبد النور ولكل منهما حكاية لشجرته توحي بدلالات متعددة حيث الارتباط بالجذور( مهما حاولت لن أترك مكاني إلا وحفنة من التربة الملاصقة لجذور الشجرة في يدي ، اجعلها قريبة من أنفي أتشممها ) ص 27.
وعبد النور يحكي قصته مع الشجرة قائلاً ( واحتفظت أنا بآخر نواة في جيبي وهنا اشتقت للأحبة فأخرجتها ..واشتريت طميًا من السوبر ماركت وزرعتها فوق التلة ) ص 55 ، وهاهو جاد يصف عبد النور حين يراه في غير حالته فيقول: ( اختنق صوته ، وابتسمت عيناه بالدموع ، وعلق وجهه علي الصورة ، المجمعة لأولاده . في تلك اللحظة ، أدركت أن هذه الصورة تلعب دورًا في الحالة التي تتلبسه . فقلت له بصورة مفاجئة : ـ وحشوك ؟ أوسع منفذ الدموع ، فتركته حتى أخذ كفايته وأسكت نفسه بنفسه ) ص31 . ويستمر صوت عبد النور طوال الجزء المعنون ( سياج ) ليحكي أثار الغربة حتي يصل إلي أصعب أثر لها لتجد أبناءك لا يعرفونك يقول واصفًا ابنه مع خاله ( ووقعت عيناي علي الصغير متعلقًا به وهو يصرخ ـ نروح بيتنا .. لفت انتباهي ، فتفحصته .. وكأنه قد خاف من نظراتي فقال مخاطبًا خاله : ـ بابا .. بابا . وعرفته من ملامحه ، كل شيء فيه يقول إنه قطعة مني ) ص39 . ثم يذكر له السبب الرئيس للسفر حين جاء محصل النور وطلب منه عبد النور مهلة للدفع فقال ( أمال إيه النفخة اللي علي الفاضي وغادر البيت .. في اليوم التالي حضر الفني وقص العداد ، ولم يرق قلبه لأم العيال التي بحثت عن اللمبة نمرة عشرة .. في الليل وضعت اللمبة علي مكتب الولد البكري ولما غلبه النوم مال برأسه ، وخبط اللمبة وكادت أن تشب النار في البيت ، في صباح اليوم التالي لهذه الواقعة ، قدم عبد النور طلب إجازة وفكرة السفر تتملكه ) ص41 .
ثم يأتي صوت الصاحي بمواويله ليواجه الغربة من خلال أشعار سمير عبد الباقي وعبد الرحمن الأبنودي التي وضعها المؤلف علي صوته ص 32/ 77 يقول عنه جاد ( الهدوء المستشري ، لا يقطعه إلا صوت الصاحي كعادته قبل أن ينام يردد مواويله يلعق الوحدة بالكلمات .. يا بخته ، رغم ما ألم به مازال كما هو ) ص 90 . ،
وخطابات زوجة محمد جمعة وأبنائه يطلبون منه البقاء في الغربة وتأجيل العودة سنة آخري لأن البنت تقدم لها عريس ، والابن يقول لأبيه لا ينقصنا إلا الدش ، وحين يموت أولاده لا يكلفون أنفسهم استرداد جثمانه ، وجاء الرد ( ادفنوه عندكم فكلها بلاد الله) ص71. والخطاب الآخر يبشرونه بحجز قطعة أرض في المدافن التي أصبحت لا قيمة لها بعد تركهم الجثمان في بلاد الله ، وأنهم سمو ابن أختهم محمدًا وهذه إشارة لانتهاء دوره في حياتهم .
تناسق الحكايات في الحكاية :
في هذه الرواية تتعدد أصوات الحكي فنجد الراوي الأصلي ، ثم صوت جاد ، وصوت عبد النور وصوت الصاحي ، وصوت وجنات . إننا أمام نص متعدد الحكايات متعدد الأصوات تتعدد فيه الذوات الساردة ، أحكم صاحبه التنسيق بين هذه الأصوات وهو أمر مهم في رواية الأصوات .
تبدأ الحكايات في الرواية بحكاية جاد ( البطل / والراوي / والمروي عليه ) بياع الملاح الذي ترك مهنته حينما ضاق العيش في قريته وداهمته الشوطة ، ومرض الركب ينتقل من قريته ليعمل في (السعودية) كما يظهر ذلك مرة واحدة بطريق غير مباشر حينما قال لجدته ( الحال لما يترستق معاي هاخدك تعملي عمرة ) ص47 . وهناك يلتقي بعدد من الرفاق في العمل لكل واحد صوته ، ودوره في السرد .
تتشابه حكاية جاد مع حكاية عبد النور في كثير من جوانبها ولنبدأ بالشجرة التي تقوم بدور مهم في السرد سواء شجرة عبد النور ، أو شجرة الحناء التي أمام بيت جدته يقول عبد النور ( كنا ثلاثة أشقاء تحتها نتسامر ، وتحتها كان الجد يجلس يجدل حباله، وجسده تحنيه قروش الضوء .. ومن أجلها كاد أن يهوي علي أحد أقربائه بالهراوة ، عندما مدت حمارته خطمها وقطفت قمتها .. وقتها كنت عودًا أخضر وتحتها مر نعشه الذي ظل متسمرًا حتى شبع من قروش الضوء وبعده لم تعرف فروعها الثمار ، حزنًا عليه لمدة حولين كاملين ومرت الأيام وسافر من سافر ، وبقيت هي وحدها ) ص 54 . هذا ملخص السرد التي حكاه عبد النور عن هذه الشجرة المقدسة والتي تتشابه قداستها مع شجرة الحناء التي غرسها جاد فوق صرة جدته التي دفنها ، وأصبحت الشجرة وما يحيط بها من تراب صاحب قداسة عند جاد ( ..إذا ما اقتربت من شجرة الحناء أمام بيت جدتي ، وأنا في أجازاتي القصيرة ، أقف أمامها كما يقف " عبد النور " أمام شجرته ، تلمحني وجنات فتتقدم مني ، تريد أن تسحبني من تلك اللحظات ، التي لو تحكمت في لجعلت من الإجازة همًا عليها وعلي المحيطين بي ، مهما حاولت لأن أترك مكاني إلا وحفنة من التربة الملاصقة لجذور الشجرة في يدي أجعلها قريبة من أنفي أتشممها ) ص 27 . أنظر معي لهذه القداسة التي ارتبطت عند عبد النور بجده وعند جاد بجدته لتصبح هذه النماذج الجد والجدة والشجرة نماذج قداسية عليا . ويحكي عبد النور نتائج رحلة أجازته وكيف رأي نفسه مغتربًا عن الناس والمكان في بلدته التي غادرها منذ ثلاث سنوات فقط من يراه يهز له رأسه لدرجة ينزعج منها فيقول ( ربما أنا في بلدة للخرس ، لا يتواصلون إلا بلغة الإشارة .. وربما أنا تغيرت لدرجة خوف الناس ) ص36/37 ويستمر في سرد قصته الزوجة مشغولة عنه وابنه في حضن خاله الذي يراه أبًا بديلاً مخاطبًا إياه بابا.. بابا . هذا الحكي يستدعي عند جاد مواقف سردية تتناسق معه " خرج وغادر حجرتي ولذت أنا بحجرتي فجلست فوق السرير وبيدي أقبض علي خدي المرتعشين هلعًا من مثول المشهد أمام عيني أينما وجهت وجهي ، أجده يقف لي بالمرصاد ... فكأن الأدوار قد تبادلت .. وكأني أنا عبد النور .. والبذرة التي زرعت في بطن وجنات والتي تم تلقيحها مجهريًا ..شقت الرحم وخرجت .. وكما عاش عبد النور موقفه عشته .. ولكي لا أصل لهذه الحال ... بدأت بإغراء نفسي بأن لكل قاعدة شواذها " ص39 . وجاد يلجأ للمواويل حينما كانت تضيق عليه الدنيا كما يفعل الصاحي يقول : "بدأت بالمواويل الكثيرة المخزونة في داخلي ، رغبة مني في جلب الونس وسد كل المنافذ التي قد يدخل منها الخوف .. ومن العجب أني وجدت فائدة لمواويل الصاحي " ص63 . وتتشابه ظروف موت محمد جمعة مع موت جدة جاد ( سرت في جسدك قشعريرة ، لم تعرف ساعتها ما سببها إلا أنك تمسكت بالبقاء بجواره ... وما أن ولجت إلي حجرتك ، إلا والظنون تعود وتلعب برأسك ، إذ وقعت نظراتك علي صورة جدتك ، فتذكرت ظروف موتها ، الحاضرة دومًا ، كما وصفتها لك وجنات في خطاب) ص65 ، وكما يتشابه موقف الجدة من جاد في لحظات الموت كما حكت وجنات في الخطاب وبين ما لاحظه علي محمد جمعة في لحظة الاحتضار وجنات تقول ( .. ولم تفتح لي أذنًا بل صرخت في وجهي وقالت : ـ عاوزه جاد . روحها كانت متعلقة بك ) 65 ويصف جاد لحظة احتضار محمد جمعة ( عدت لغرفته ، فوجدته يردد أسماء أبنائه ) ص 65 . ويستمر تناسق الحكي فنري اعتراف جاد بتشابه لحظة احتضار محمد جمعة مرة آخري بلحظتين لديه يقول (يا له من إحساس عايشته مرتين قبل هذا الموقف ، مرة بعد وفاة جدتي ، والثانية حينما عدت إلي البيت في إجازتي الأولي ، ووجدت الغرفة التي بها القفصين خاوية ، ندهت علي وجنات فأخبرتني أنها في ليلة من ليالي الشتاء كسرتهما في المجمرة وأشعلت فيهما النار ) ص 69 . ويستمر تناسق الحكي حينما تتشابه لحظة دخوله غرفة محمد جمعة بعد وفاته وما شمه من أنفاسه ، وما شمه في بقايا صرة جدته يقول : ( فور دخولك الغرفة ، وأنفاس محمد جمعة التي كان المكان يقبض عليها ، تسربت فور فتحك الشباك الموصد منذ وفاته ...تعادل في وخزها تلك اللحظات التي أمسكت فيه بالفأس وخطوت لقعر الدار ووجنات تتبعك ... العناق ما أروعه ذوبان مكتمل هو ما شعرت به والصرة تلامس صدرك ... يتساوي شعورك يومها ، مع شعورك الآن ، وأنت تري الأشياء المشبعة بنسائم محمد جمعة ) ص 72/73 وتستدعي إصابة الصاحي بالسكري وظهور أعراضه عليه إصابة جدة جاد " ريقي معقود وشربت جركن الميه كله ، هززت رأسك ، لعلمك بذلك الضيف الذي كتب علي الصاحي ... معاشرتك لجدتك ومرافقتك لها حينما شعرت بمثل هذه الأعراض ) ص 81 .
هذه قراءة لـ ( بياع الملاح ) لمصطفي البلكي من خلال تعدد الأصوات وتناسبها مع موضوع الرواية وكيف كان الشكل مهمًا في محاصرة حقيقة الغربة من خلال أصوات من عاشوها في مكانها في الخارج (جاد ، عبد النور ، الصاحي ، محمد جمعة) وأصوات عاشتها في مكانها في الداخل (وجنات ، الجدة ، عائلة محمد جمعة ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق