الصفحات

2012/04/20

العم إبراهيم .. كائن من الزمن الجميل..بقلم: عبده الزراع


العم إبراهيم .. كائن من الزمن الجميل
عبده الزراع

حين ترى العم إبراهيم محمد إبراهيم – كما يحلو لى أن أسميه- لأول مرة لابد وأن تقع فى غرامه، فهو قصير القامة ربعة بوجه مصرى بشوش يحمل ملامح الطيبة  يميل إلى السمرة قليلا،  دائم الابتسام، يضحك فى وجه من يراه وكأنه يعرفه منذ زمن طويل، معتد  بذاته مرفوع القامة فى تواضع جم، أنيق فى ملبسه، لين الجانب طيب المعشر حلو اللسان، حاضر الذهن متقده، حينما تهل عليه فى مقر مجلتى الثقافة الجديدة وقطر الندى بعمارة ستراند الدور الثالث بوسط البلد، التى يعمل بهما مشرفا ماليا وإداريا،  وقبل أن تلقى السلام إلا وتراه واقفا يخرج من مكتبه فى استقبالك، حتى ولو كان لا يعرفك من قبل،  قائلا: "أهلا يا فندم.. أتفضل استريح" وقبل أن تنطق بكلمة يكون قد نادى  على ناجى عامل البوفيه، ليقدم لك الماء البارد وما يحلو لك من مشروب آخر، فهو فياض بالكرم على كل من حوله، فجذوره شرقاوية، وأثناء احتسائك للمشروب يقول لك: أأمر يا فندم" فتسأله عن مكافأة لك فى مجلة الثقافة أو فى قطر الندى، إلا ويبادرك على الفور- بعدما يتعرف على اسمك والعدد الذى نشرت فيه تجربتك الإبداعية- بأن المكافأة صدرت أو فى طريقها للصدور، وسرعان ما تنجذب إلى العم إبراهيم فتصير صديقا له منذ المقابلة الأولى، فتفيض بينكما الحكايات،  وكأنه ساحر عليم قادر على إلتفاف القلوب حوله، لم أجد شخصا إتفق المثقفون عليه مثلما اتفقوا على العم إبراهيم، فصار معروفا لكل أدباء مصر وفنانيها ممن يتعاملون مع المجلتين، لذا لقبونه بالعم أو عم المثقفين، رغم أنه لم يتجاوز التاسعة والأربعين، فتليفونه المحمول لا يكف عن الرنين الكل يسأل عنه ويطمئن عليه، لأنه لا يتأخر عن قضاء واجب أبدا يسأل عن كل أصدقائه القداما والمحدثين، كثيرا ما يقابلنى أدباء وشعراء فى المؤتمرت والندوات التى تعقد فى القاهرة أو خارجها أو فى اتحاد الكتاب إلا ويسألوننى عن العم ابراهيم بل يمتدحونه بما يشبه القصائد.
تعرفت على العم إبراهيم حينما كان يعمل فى إدارة الأمن بهيئة قصور الثقافة فى منتصف التسعينات مع العميد سامح خطاب، وكنت أعمل بمكتب رئيس الهيئة وسكرتيرا لتحرير مجلة قطر الندى أيام أن كان حسين مهران هو رئيس الهيئة،  وسرعان ما صرنا صديقين فقد لمست فيه طيبة وجرأة نادرة يقف بجانب المظلوم ولا ينحاز أبدا إلى ظالم حتى ولو كان رئيسه فى العمل، وبعد انتقال سامح خطاب من الأمن أحب العم إبراهيم أن ينتقل للعمل بإدارة أخرى فرحبت به جميع الإدارات المركزية ليعمل بالمكتب الفنى فترة طويلة، ثم مكتب رئيس الإدارة المركزية لمكتب رئيس الهيئة، أبدى فى كل مكان عمل به إخلاص متناهى وترك بصمة لا تمحى وعلاقات متشابكة ومحبة لا يمحيها الزمن، إلى أن إنتقلت مجلة قطر الندى إلى عمارة ستراند لتكون مقرها الدائم، فى تلك الأثناء وبعد مرور أكثر من عام ونصف على تواجد قطر الندى بستراند  سافر المشرف المالى والإدارى للعمل بالخارج، حتى نقل العم إبراهيم ليتسلم العمل مكانه وهذا من حسن حظ من يعمل بهذا المكان، فالرجل منظم فى عمله، صارت المكافآت تصدر فى مواعيدها بعد أن كانت تتأخر شهورا طويلة، أذكر ذات مرة أن مكافآت قطر الندى قد تأخرت سبعة أشهر متتالية لدرجة أن الكتاب والرسامين إمتنعوا عن التعامل مع المجلة وتعرضت للتوقف بفعل مؤامرة حيكت للآسف الشديد من قيادات الهيئة فى ذاك الوقت لتتوقف المجلة، ولولا محبة القائمين عليها لتوقفت بالفعل، ولكن طوال فترة تولى العم إبراهيم هذه المسؤلية ولم نشعر بأى أزمة إدارية أو مالية على الاطلاق، وبعدما تعرفت على الرجل عن قرب عرفت سبب تعففه وإعتداده بنفسه أنه كان يعمل بالقوات المسلحة ، وسرعان ما ضاق ذرعا بالقيود العسكرية بسبب رقته ،وأحب أن يعمل فى الحياة المدنية، فكان له ذلك بعد مغامرات طويلة، فتعلم من الجيش الإعتداد بالنفس، والدقة والجدية فى العمل، ونظافة اليد والضمير.
وذات يوم حدثت تغيرات فى مجلة قطر الندى التى أعمل مديرا لتحريرها رئيس تحرير جديد خلفا للشاعر أحمد زرزور، وللأسف كان فنانا تشكيليا، وحدثت بينى وبينه خلافات عرفها جميع موظفى الهيئة وعدد لايستهان به من مبدعى ومثقفى مصر، بدأ خلافا فى وجهات النظر، ثم تطور ليكون محاربة للفساد، فقد ضاق بى هذا الرئيس أقصد رئيس التحرير من جراء نصحى له ومعرفتى التامة بألاعيبه الشيطانية التى كان يحيكها بليل هو ونجله ولم تنطلى على بل كانت مكشوفة لى بحكم أننى أحد المتخصصين فى هذا المجال أقصد مجال كتابة وصحافة ورسم للأطفال، وعلى دراية تامة بكل ما يدور فيه منذ ما يزيد عن ستة عشر عاما، وحدثت بيننا حرب ضروس، فقد اتصل وقابل رئيس الهيئة أنذاك الدكتور أحمد مجاهد أكثر من مرة،  طالبا منه أن يقيلنى من المجلة، وللأمانة أن الدكتور مجاهد لم بستجب له، لأنه يعرفنى جيدا ويعرف قدراتى ومدى اخلاصى لهذه المطبوعة، وظلت الحرب بينى وبينه طيلة أربعة  أشهر ولم أجد من يقف معى فى نفس الخندق سوى العم إبراهيم فقط،  الذى إنحاز إلى ضميرة قبل أن ينحاز إلى شخصى، واكتفت هيئة التحرير بالتفرج من بعيد بل انحاز معظمها إلى رئيس التحرير الفاسد، فحينما رأى العم إبراهيم هو الآخر الفساد قد استشري دون خجل بل وبتبجح منقطع النظير من رئيس التحرير المزعوم، تعاهد معى بإخلاص على محاربة الفساد ولو كلفنا هذا رقابنا أو أن نترك مكاننا فى المجلة، ووفقنا الله بعد أن وقعنا على مستندات تدينة أدانة واضحة فلم نظلمة بتقديمها إلى جهة أمنية مثلما ظلمنا وافترى علينا ظلما وعدوانا، فقد تقدمنا بها فقد لرئيس الهيئة الذى دهش حينما رآها، و أنصف الحق وأقاله من منصبة بحجة أنه مريض وملازم الفراش، هذا هو العم إبراهيم الذى ساند الحق بنبل وأخلاق الفرسان وشجاعتهم، لم يخف أن ينكل به رغم محاولات رئيس التحرير لأنه على يقين من أن الأرزاق بيد الله عز وجل، ولكن الله العظيم أراد أن ينكشف المستور ويظهر الحقيقة، وبعد أن قامت الثورة المجيدة لم يكن لمثل هؤلاء ولا لأبنائهم ممن شاركوا فى ذهذ الجريمة، أن يرفعوا أعناقهم القزمة مرة أخرى، ويقفزون على الثورة بما أنهم شرفاء هذا الوطن والشرف منهم براء،
ولهذا الحديث بقية إذا إدعت الضرورة فتحت يدى مستندات قد تفتح النار على كثيرين ممن يدعون الشرف فى زمن اختلطت فيه الأوراق والحابل بالنابل والغث بالثمين، هذا طرف يسير مما لمسته من ثراء فى شخصية تعمل بشرف وأمانة فى الظل دون ادعاء بطولة ذائفة ولا مغامرات خارقة فهو بسيط بساطة الريفى الذى أكل على طبلية أبوه مثلما قال المتل الشعبى، ولا ينظر لما منحه الله لغيرة، فهو كائن انسانى بكل ما تحمل الكلمة من معانى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق