الصفحات

2012/05/15

"الشعب غلبان" قصة قصيرة بقلم: محمد محمد السنباطي


الشعب غلبان
   قصة قصيرة
 محمد محمد السنباطي

 بعد معاناة وطول انتظار جاء دوره وحصل لسيارته الأجرة على زيت الوقود. غادر المحطة وعلى وجهه بقايا قرف وضيق. لم يكد يتحرك حتى لمح زبونًا يشير بيده وابتسامته تملأ وجهه. للسائق نظرة في الزبون. توقف له. لم يجلس في الخلف. جلس إلى جواره. العطر الذي فاح منه جعل السائق يتذكر أنه غارق في لزوجة العرق فسحب منديلا ورقيّا معطرًا ومسح قفاه وجبهته. طلب منه توصيله إلى مكان بعيد. لن يحدد له السعر مسبقا. سيدفع ما يحدده له. بعد أن حياه أردف: "باين عليك الزهق. من حقك. كل ما يحيط بنا يدعونا إلى القرف!"
- نصف ساعة أو أكثر وأنا مركون أمام البنزينة.
- كان الله في العون يا أسطى. يا ترى البلد دي رايحة على فين؟ أين الشرطة؟ الذي كان منهم يتقاضى ألفا قبل الثورة ارتفع دخله إلى ثلاثة آلاف. ومع ذلك لا يؤدون عملا بثلاثة ملاليم. أمسِ كنت مارًا من أمام البنك فوجدت رجلا يلطم خديه ويقول ثلاثة وعشرين ألفا!
- سرقوا منه؟
- كان له فلوس في العراق وصرفها أمس بعد طول انتظار، ولم يكد يغادر البنك.... وكان هنالك شرطيان يقفان أمام البنك يتفرجان عليه وهو يلطم خديه.
لم يرد السائق. أخرج الزبون حافظة نقود من جيبه. سحب منها عشرة أوراق من فئة العشرة جنيهات. راح يفردها على هيئة مروحة، أو زهرة لوتس، أو كتشينة وبيده الأخرى حافظة نقود.
- على فكرة يا أسطى أنا لا أضع في هذه المحفظة سوى الأوراق الصغيرة. باقي الأوراق أخبئها في الجورب. احتياطات أمن!
- معك حق.
- انظر إلى هذه المحفظة. مستوردة من اندونيسيا. عندهم ثعابين ضخمة يمكنها ابتلاع الأطفال. هذه المحفظة قطعة صغيرة من جلد ثعبان عملاق. انظر إلى لمعانها! وقشرها الصلب؟ لا يمكنك نزع قشرة منه مهما حاولت.
رمقها السائق طرفة عين ثم انتبه إلى الطريق. كانت السيارة تجتاز أحد الأسواق الشعبية المزدحمة ولا يريد السائق بطبيعة الحال أن يحتك بأحد المارة وإلا هجم عليه الأهالي وفتكوا به ودمروا عربته التي دفع فيها دم قلبه.
نحى الزبون المحفظة جانبًا وراح يروح على وجهه بعشرات النقود التي جعلها على هيئة مروحة. مضى يثرثر: "لم يعد للعشرات قيمة في أيام الضنك هذه. قل لي يا أسطى ماذا سيحدث لو أني قمت بإلقاء هذه الورقات العشر على هؤلاء الغلابة؟ الشعب غلبان. سيهجمون عليها ويقتتلون من أجل الفوز بها. انظر!
وأطار خمسة منها من نافذة التاكسي. هنا صاح السائق: "إيه يابا؟ ماذا تفعل؟ حرام عليك".
- أردت أن أثبت لك صدق كلامي!
- وهل كلامك هذا يحتاج إلى إثبات يكلفك خمسين جنيها؟ فلوس تتطاير في الهواء، هل سيتركها الناس كما يتركون العصافير؟ سيتخشبون وهم يرونها أم سيهرعون إلى التقاطها؟
-  ألم أقل لك إن الفلوس لم يعد لها قيمة؟
لم يرد الزبون الذي بدا شاردًا كأنما يتفكر في واقعية محدثه، لكنه راح يلقي بالورقة السادسة والسابعة والناس يلاحقون العربة والسائق يسرع ليخرج من هذه الهاوية، فالثامنة والتاسعة فالعاشرة.
- لماذا تفعل ذلك؟ إياك أن تقول لكي أقنعك!
- لا ولكني أردتك أن تسرع قليلا وهذا ما حدث بالفعل. جرى خلفك الناس فأسرعت!
- معقول معقول!
- الشعب غلبان وجائع.
هنا انفجر السائق: "ذكرتني بالجوع! أنا جائع لم أتناول فطوري بعد". وسحب ورقة جرنال أخرج منها سندوتشا وقال للزبون: "تفضل بسم الله!"
- لو كنت قلت لي إنك جائع لأعطيتك عشرتين!
- مستورة والحمد لله. محفظتك الآن خالية؟
- لا تقلق! سأعطيك أجرتك وزيادة. ألم أخبرك أني أخبئ نقودي في جوربي؟
- ناصح!
وانحنى قليلا وعاد وفي يده ورقة من فئة المئة. غيبها في المحفظة وهو يقول: هل اطمأننت الآن؟
دخلت السيارة في طريق الملاحات. "ممكن أدخن سيجارة؟" وأعطاه واحدة وولع له ولنفسه ورفض أن يعيد الولاعة التي تبدو ثمينة إلى حيث كانت. قدمها للسائق وأقسم عليه أن يقبلها هدية. "أنت أردت أن تعطيني نصف سندوتش وأنا أعطيك ولاعة". يقولون إن الإخوان رشحوا خيرت الشاطر لانتخابات الرئاسة. دخل السجن ست مرات ويخرج ليكون رئيسا لمصر التي رئيسها المخلوع سجين.
لم يرد السائق. أمسك الزبون بالمحفظة وبها المئة جنيه وقال: "على فكرة أنا أحب المفاجآت. انظر إلى جمال المحفظة". سقطت عليها الشمس فلمعت الحراشيف الثعبانية. "قلت لك إنني أحب المفاجآت. عالم بلا مفاجآت لا يستحق أن يعاش. ما قولك إذا مرّ شخص غلبان بعد قليل ووجد هذه المحفظة تلمع تحت الشمس وفتحها وعثر على المئة جنيه؟ ألن يفرح؟"
- تريد أن تلقيها؟
- بل ألقيتها بالفعل!
وراح يجلجل بضحكة عجيبة تناثرت فتافيتها في الملاحات. أوقف السائق سيارته وهو يستغفر الله العظيم من الشيطان الرجيم ومن كل عبيط أحمق. راح يدقق النظر حتى رآها تلمع تحت الشمس على مسافة ثلاثين مترًا. أسرع تجاهها فرحًا مسرورًا. سيقول للعبيط إن نظريته سليمة وإن من يجدها سيفرح بها فرحًا عظيمًا. مال عليها والتقطها. سمع صوت محرك. التفت. انخطف شعور الفرح من قلبه. جرى بلا أمل. تعثر. سيارته تندفع على الطريق بأقصى سرعة. لن تسعفه خطواته. ارتمى على جانب الطريق تحفر أصابعه المتشنجة في التراب يجمعه ويهيله على رأسه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق