الصفحات

2012/05/17

"يسمينة ..يا رب" قصة بقلم: محمد الكامل بن زيد


يسمينة ..يا رب
محمد الكامل بن زيد
  فقط إلى يسمينة
- يسمينة ..يسمينة
- ماذا تريدين يا أمي
- الماء وقت العصر مكروه ..فلا تستحمي.. يا بنيتي
- لا ..لا.. أريد أن استحم ..أجراس العيد تدق ..لا بــــد أن استحم ..
- دعي الأمر لما بعد صلاة المغرب .. أخشى عليك الأذى .. فيمسك الجان بمكروه
- خرافة .. خرافة ..
كنت أنصت لحديثها المترع بالحرقة و الأسف .. حين لم أجد لي مكانا بين من التفوا حولها .. وكنت حينها أتسلل .. بخفة بينة التكلف .. عبر الفجوات التي أحدثتها .. أبعدوني بأيديهم الخشنة ..أحتجيت بشدة و فظاظة و أنا أحدق فيهم بتأفف و احتقار .. أصررت على
المقاومة...
- عنيد....
-أطفال اليوم .. لاحول ولا قوة لنا أمامهم .. قالت امرأة...
-لا حياء .. لا احترام..
فرد عليهم شيخ مسن يائس:
-لا يهم دعوه وشأنه..
و واصلت تنقلي منزلقا .. أتسلل بين فجوة و أخرى بحرية مطلقة حيث كانت لا تصل أسماعي إلا حروفا متقطعة..أتحسس في معبري أحذية بالية تنبعث منها رائحة نتنة تزكم الأنف..تهاجمني..ازددت مقاومة  لهجومها بشدة..ما كان يهمني فقط هو الوصول إلى سر هذه المرأة..وسر ابنتها التي صادر الجان إرادتها..ومن يكون هذا اللعين..حتى يسرق هذه البائسة ؟
 -يسمينة..يسمينة
-خرافة..خرافة
عبارات..كانت تتسلل من بين شفتيها مضطربة..مرهقة..اصطدمت بالسيل الجارف المنحدر من محجريها..أسندت ظهرها إلى جدار البيت الذي كاد يسيح في جوف الطين و الطمي..ويتلاشى من بين أعيننا  بعد أن تهدم نصفه عقب الزلزال الفظيع الذي ضرب المدينة..منذ شهور؟ ..! آلام دفينة كانت  تقف في وجه محاولاتها لجمع شتات أفكارها ..
كانت تشرح ما حدث بالضبط.. للمجتمعين حولها ..وهي تواجههم بأسمال ممزقة ..أجبرتهم على التوقف دون أن تأمرهم..
نعم ...هي التي أصرت على الإستحمام في مثل هذا الوقت ..فتملكها الجان ... كانت عيناها المغائرتان تسافران في جراح الحاضر .. وتتفرسان أعين الحاضرين ..في مقل تقرأ فيها الحيرة والشفقة ورثاء الحال ..ساورتها الأوهام والوسواس ..سيتهمونها بالجرم ..وستعاقب..لأنها ليست روؤفا رحمة..لا..لا..سيخلعون عينا..لقب الأمومة.. ازدادت حيرتها وأوهامها و وساوسها حدة وشدة  وتكثيفا..حاصرها الإختناق والغثيان..أرادت تمزيق بقية ثيابها..
بعدها..تفطنت وتداركت الأمر ربما..ستكون فضيحة أخرى..فهؤلاء الواقفون أمامها وراء تقاسيم وجوههم التي تبدي الشفقة..ألسنة لا يؤمن شرها..تسلقها بأسنة حداد زورا وبهتانا وشائعات تضخم الأمور...
يجب أخذ الحيطة إذن...
بقيت هناك قرابة ساعة..كأنها لم تكن..لا..لم يرد أحد أن يترك..تسمروا أمامها وكأن الطيور قد رست على رؤوسهم..لا بد من مساعدة المغلوبة على أمرها..لكن ما باليد حيلة
لا حول ولا قوة إلا بالله...
يا رب...
يأتيهم صوت من الداخل..يزعزع السكون الثقيل..إنه صوت رزيقة أختها الصغرى..يهلعون..حيث تهرع إليهم وتخفق قلوبهم من الخوف:
هل مزقت..ثيابها؟
هل كسرت..الأثاث ؟ ماذا ؟
كلا ؟؟ كلا لقد ضربت أباها..
تفاجأ الجميع..إبنة تضرب أباها..لا..غير معقول..يمكن أن يقع الحدث في القصص أو الأفلام..  < لحاجة في نفس المؤلف>  ..أما أن تكون على أرض الواقع..وبهذه الدرجة السافرة..فلا..لا..لقد تجاوز الجان حدوده..تطاول على أغلى رابطة إنسانية..كيف يجرؤ و يفرق بين المرء وأبيه..اللعنة عليه..سخط من الرحمان..الأمل يزداد احتضارا بين تنهيدات الحاضرين وزفراتهم :
- افسحوا الطريق ..افسحوا الطريق
- من يكون ؟؟
- إنه شيخ الزاوية ..
دخل شيخ الزاوية بعد أن طلب من مرافقه أن يتوضأ لإعانته ..ثم بدأ بتلاوة الآيات المحصنة..
(( قل أعوذ برب الناس ..
(( قل أعوذ برب الفلق ..
(( ....................
(( ....................
وسمعت رجلين كنت بين أقدامهما الطويلة .. يتحدثان عن تقوى و ورع و صلاح الشيخ و بركة يديه الميمونتين .. وسمعت سيدة كانت بجانبهما .. تؤكد صحة ما يقولان :
- ذات يوم.. دخل علي صبي .. كان أسيرا لإحدى الجنايات . ما إن رأته حتى رحلت .. و لم تعد..
ربما كان تأكيد السيدة قولا مبالغا فيه .. و لكني توسمت خيرا .. بعد قليل لمحت رجلا يخرج من جنح الظلام الطفيف الذي كان يلف البيت .. كان ثقيل الخطى .. يتهادى مجاهدا نفسه لصعود عتبة الباب .. كان يمسك بكفه خده المحمر كقرص الشمس المشتعل وردا .. هل هذا هو موضع الصفعة ؟؟! إلهي .. غير معقول ؟؟ !... تزداد وتيرة الغضب حدة بين الحاضرين .. كان يبكي بكاء مرا .. حيث كانت همسات خافتة تتعالى ببطء ...
- من يكون ؟
- إنه أبوها
-أبوها .. مسكين ؟؟؟
إتخذ لنفسه مكانا بقرب زوجته .. التي مدت يديها تتحسس موضع الألم .. تواسيه بكلمات الصبر و الثقة بالله .. لم يجد أمامه حيلة إلا ..لزوم الصمت .. أغمض عينيه و حلق بعيدا ..بعيدا .. إلى أيام يسمينة .. الرضيعة ..واع .. إلى يسمينة الطفلة ب..ا.با..با..إلى يسمينة الصبية .. بابا أريد شراء .. فستان ..كراسة ..قلم .. إلى يسمينة المرأة.. التي تبتعد خجلا كلما اقترب ... أو أقبل نحوها ليداعبها .. فهي لم تكبر في عينيه أبدا .. رغم أنها ترى نفسها كبيرة .. تكاد أن تزف عروسا .. إلى يسمينة التي لطمته على خده .. تحسس بحسرة خده .. الذي ارتسمت فيه أخاديد و تجاعيد حفرتها الأزمنة الصعبة ..
ثم عاد الشيخ كله إنكسار للخاطر مهزوما ..يضرب كفا بكف ..
- لا حول و لا قوة إلا بالله ..جان صعب ..
و حاولت امرأة .. أن تضفي على الجو بما يوحي الإنشغال للحال .. فتظاهرت كمن تطمئن على حال يسمينة بشفقة :
- هل هي .. بخير ؟؟؟
وبسرعة صمتت .. وبسرعة استطردت متسائلة :
- و ما اسمه؟
- من أي بلد؟
- و بم يدين ؟
- لا حول و لا قوة إلا بالله .. المسكينة في حالة يرثى لها .. و أنتم تبحثون عن اسم الجان وبلده ..ودينه ؟ !...
- لاإله ..إلا الله ..
- ملعون هذا الماء ..
- لا..لا تقل مثل هذا الكلام ..حرام ذنب كبير ..لاتنس ((وجعلنا من الماء كل شئ حيا ))
- ويسمينة ؟ !!!
- يسمينة أمرها .. عند بارئها .. فوق ..
و كان  والدها يحلقان بصرهما إلى الأعلى .. ويسبحان بنظرهما في صفاء السماء .. بعد أن أنجلت السحب التي اكفهرت على  أهل المدينة ..فلم يعد يحجب الشمس الملتهبة.. شيء
- يارب.. يسمينة
     .......انقضت أيام ، و شهور ، وسنوات ........
لا زلت .. أرى  تلك المرأة جالسة أمام بيتها .. بقربها زوجها .. وقد أغمض عينيه ..ولا زال الناس يلتفون حولهما .. نفس الوجوه ..
... نفس الأقدام الطويلة ..نفس ثرثرات النساء ..نفس الأحذية ذات الرائحة النتنة
           **************
فقط ليسمينة !!
كنت ادعوا في صلواتي ..أن تشفى يسمينة المسكينة ..أن يغادرها.. اللعين
- يارب ..يسمينة.... !!
                         بسكرة يوم 16 أفريل 1997

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق