الصفحات

2012/05/23

علاء الديب يكتب:" كناري " أجمل مجموعة قصصية منذ " أرخص ليالي "


" كناري " أجمل مجموعة
قصصية منذ " أرخص ليالي "


علاء الديب

هذه مجموعة قصصية لكاتب استثنائي . صدرت " كناري " في ديسمبر 2010 وعلى الرغم من كل الأيام غير العادية التي نعيشها منذ وقت صدورها ، فإنها تزداد أهمية وتفصح كل يوم عن قيمة جديدة ، وقول يستحق التأمل فيه والوقوف عنده . أحمد الخميسي واحد من النادرين المتفرغين حقا للكتابة الأدبية ، إنه يأخذ كلماته بقدر نادر من الجدية ويشتغل على جمله وقصصه ومعانيه كصائغ يشتغل في الذهب الغالي ، أو كمحارب يدافع عن أرض الوطن ، إنه صاحب إدراك مثقف لمعنى ووظيفة الأدب ، وصاحب حس جمالي لايرضى إلا عندما تشف اللغة وتستقر على شاطيء الموسيقى . عشرون قصة قصيرة تطوف بك على أهم وأخطر قضايانا الاجتماعية ، كما تحاول طرق كل أشكال القصة القصيرة من أول شكلها الكلاسيكي عند تشيكوف ( مثلا قصتي : ممشى بين الأعشاب ، وبدلة ) ، إلي أشكالها التجريبية الحديثة في ( بط أبيض صغير ، فرصة سعيدة، حديقة ) .
لم أتعود في هذا الباب الذي أنشغل فيه بتقديم الكاتب للقارئ أن أستغرق في العمل النقدي ، ولكن الكنز الغني الذي يقدمه أحمد الخميسي يفتح مجالا خصبا لمناقشة شكل القصة القصيرة الآن ، كما يضع القارئ أمام أخطر وأهم القضايا السياسية والاجتماعية بدون مباشرة فجة أو خطابية جوفاء ، وأهم ما في الأمر هو البلاغة والاقتصاد اللذان تتميز بهما جمل الكاتب والعناية الفائقة بشكل القصة وبنائها بما يكشف عن عمق قضيته وأبعاد موضوعه ، لذلك قارنت بين مجموعة " كناري " والعمل الخالد لعبقري القصة المصرية يوسف إدريس ( 1927-1991) . فمجموعة " أرخص ليالي " ( صدرت عام 1954) هي بشكل أوبآخر ، إلي جانب قيمتها الفنية ، قد ارتبطت بثورة 1952 ، كما ترتبط " كناري " بدون افتعال وتزيد بالأجواء التي كانت مقدمة لثورة يناير 2011 .
اسمع هذا المقتطف الطويل من القصة رقم 3 والتي عنوانها " انتظار " : 
" أحس رمضان الصايع بالأسى .. وشعر لأول مرة في حياته بأن شيئا ما لابد أن يقع فتتبدل بعده الحياة . بعيدا عن القاهرة على أطراف الطريق الزراعي استراح الجميع في أرض خلاء فسيحة ، رقدوا في أماكنهم كيفما اتفق . وفي الصباح تأملوا المكان حولهم واستقروا فيه . ثلاث ليال امتد حبل الحكايات بينهم ، ودفق كل منهم قصته للآخرين مرة كالوجع ومرة كالأمل . البعض كان ينسحب عائدا إلي المدينة ، إلا أن صفوف الوافدين واصلت تدفقها . أناس من كل ناحية يأتون ، يضعون حقائبهم ، ويقصون حكاياتهم ، وأخبار المليارات التي تسرق هناك ، والحرائق المدبرة التي تلتهم الوثائق والتاريخ والمباني العريقة ، العبارات التي تغرق في البحر بمن فيها ، والجميلات اللواتي يقتلهن رجال الأعمال العشاق لحظة غضب ، والقطارات المغلقة على الموت ، وانفجارات المظاليم في قرع الطبول الأعمي ، وحينما تتراخى أذرعهم بجوارهم ولا يعود لديهم ما يقصونه يقف رمضان الطويل ضاربا بمغارف كفيه صائحا " الفرج " . كان كل منا ينتظر وحده ، لكننا الآن معا ، قوة من الآمال ، وقوة من اليأس الصلب ، ولابد لانتظارنا أن يشق بصوتنا السماء والأرض . الرجل الذي لم يعرف أحد اسمه انحنى على الأرض ببطء وتناول فرع شجرة اتجه به إلي المرتفع وغرسه في الطين ، ثم عقد على طرفه خرقة صغيرة ، تطلع الحشد الصامت إليها وهي ترفرف بتراخ ثم وهي تخفق في الريح بكل قوتها ، علما على طين يختلج بالانتظار " .
في تلك السطور أشم رائحة ثورة شعب لا تطفئها مياه البحر !
يطرق أحمد الخميسي في القصة رقم 5 بعنوان " باب مغلق " في براعة ونبل إنساني نادر قضية العلاقة بين المسلم والمسيحي في هذه الأيام الغريبة التي أبنتت في الجانبين شرورا مجهولة ، ووضعت بين الناس بابا مغلقا ، ونسيت أو تناست أن ( الرحمن الرحيم تساوي الله محبة ) . وكان الخميسي قد أصدر عن هذا الموضوع دراسة مستقلة عام 2007 بعنوان " الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين " . وفي تجربة إبداعية مجنونة سجل المؤلف في القصة رقم 6 وعنوانها " قصة " تجربة علاقة بين الكاتب وقصته ومنح العمل من الخيال والجمال ماحول العلاقة إلي قصة حب ملتهب نادرة المثال . وفي قصته " نظام جديد " يحمل المؤلف على كل ما يمكن أن يقال عن النظام القمعي الذي سيطر على روح الأمة وصبغ حتى فكاهتها بلون أسود مر المذاق . كذلك قصة " بدلة " التي تحدثنا عن الضباط والعسكر وسيطرتهم على الواقع . أما أنا فقد أحببت بشكل خاص قصة " فرصة سعيدة " التي تروى في سطور قليلة ألم أب يفتقد إبنه الذي يعيش بعيدا مع والدته التي أخذته ورحلت به .
في أبريل الماضي 2012 كان قد مر ربع قرن على رحيل " القديس " . و" القديس هو الشاعر والفنان الشامل والمناضل السياسي والإنساني عبد الرحمن الخميسي (1920-1987) وهو نموذج لم يتكرر في حياتنا الثقافية والفنية ، وهو بالنسبة لأحمد الخميسي ليس فقط والده ، ولكنه روح فنية وأخلاقية وثورة فكرية وإنسانية تسكن روحه . من أشهر كلمات الخميسي الكبير والتي تحاول تلخيص كفاحه من أجل الفن الذي وهب له نفسه وحياته كلها قوله " عشت أدافع عن قيثارتي .. فلم أعزف ألحاني " ملخصا في تلك الكلمات الصعاب التي كانت توضع في طريقه والطاقة الإبداعية التي كانت تسكن عمره وأيامه . وقد عزف عبد الرحمن الخميسي ألحانا ، وأشعارا ، وأهدى لنا يوسف إدريس حين قدمه بجريدة المصري ، ثم الجمهورية ، وسعاد حسني ذلك الشهاب الذي أطلقه في فيلمه الخالد " حسن ونعيمة " ، إلي جانب أشعار وأعمال فنية لم تجد من يعيد تقديمها بعد .
 أحمد الخميسي المولود 1948 ، والحاصل على دكتوراه الأدب من موسكو 1992، يدافع عن قيثارته ويعزف ألحانه ويعيد لنا في نبله وكرمه وفروسية أخلاقه ذكرى شاعر وفنان عظيم . يقول أحمد في ختام مقال رائع كتبه عن والده بسطور من شعر القديس :
" وأحب هذا السهل منبسطا كما
أهوى الجبال وأعشق الوديانــــا
وأقاسم الليل الحزين شجـــــونه
وأساجل الفجر الجميل حنانا ... "
هذا صوت القديس مازال يتردد . ويقول أحمد لوالده : " ويظل صوتك المغرد في ضميري " .

***
جريدة القاهرة – 22 مايو 2012



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق