الصفحات

2012/05/03

الحَوَل الفِكري! بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي


الحَوَل الفِكري!
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

من بَدَهِيّ القول أن المسؤوليّة الحضاريّة تقتضي أن يكون مَن يتولّى الأمانة في النطاقات الثقافيّة كافّة ممّن يتوافرون على الوعي بما هم عنه مسؤولون، لا أن يكون أقرب إلى عقليّات العوامّ، أو له أهواءه الأيديولوجيّة، ومآربه الفكريّة، التي قد يُلبسها عباءات الأصالة، والاهتمام بالتراث، والحرص على مآثر الآباء والأجداد، والحفاظ على مقتنيات الشعب الكريم، ليورِّي بذلك عمّا يرنو إليه من مستقبلٍ آخر، يفصل ماضي الأمة عن حاضرها، وشرقها عن غربها، وعروبتها عن إسلامها.  وإذا كان استحياء التراث العامّي اليوم- البالغ حدّ الهوس- قد أخذ يدور بالرؤوس حيال المأثور القوليّ، وتشجيع السَّيْر على منواله، ولاسيما في مضمار الشِّعر، فإن المأثورات الشعبيّة الأخرى لا تحظى من بلداننا بإحياء ما اندثر منها، ولا الاهتمام بما هو باقٍ، فضاعت حِرَف، وبارت صناعات، وماتت فنون، وباد أهلها، أو تواروا مغبونين؛ إذ لم تعد لهم سوق، فالمواطن العربي يعيش على استهلاك المستورد، وامّسخت الأذواق، واغتربت الأجيال.  ولو أنها نهضت الهِمم لإنفاق رُبع ما يُنفق في سبيل الشِّعر العامّي على ذلك التراث المادّي، من أجل إحيائه وتطويره، فأُنشئت له المؤسّسات الحديثة، من مصانع وغير مصانع، لتغيَّرت ملامح الحياة العربيّة المعاصر، ولكان مردود ذلك الاقتصاديّ والإنسانيّ أغنى وأقنى.  بل إن لقائل أن يقول: وأيّ غنًى في بذل الأموال الطائلة في سبيل الشِّعر العامّيّ؟  وأيّ مردود، سِوى تدمير اللغة، وتهجين الثقافة، وترسيخ القِيَم البالية، المزرية بالأفراد والجماعات؟
 وإنك لواجدٌ- غالبًا- في طرح المنتصرين للعاميّة وأدبها لَبْسًا عفويًّا، أو تلبيسًا مقصودًا، يهدف إلى المغالطة، دفاعًا عن ذِمار العاميّة.  فلن تعدم فيهم المُماري في احتجاجاته، وإنْ كانت احتجاجاته لا حُجّة فيها، لكنه لا يملك سواها، فيَكُرُّها على مسمعيك كَرًّا، لعلّ الله يهديك كما هداه!  منها: الإبداع الكامن في الأدب اللهجيّ، ومنها أن هناك من العلماء من اهتمُّوا بذلك الأدب وسجَّلوه، ومنها أنه ذو قيمة معرفيّةٍ، واجتماعيّة، وتاريخيّة، وأنثروبولجيّة، وحتى لغويّة.  وكلّها حُجج داحضة؛ لأنْ ليست بموضع النزاع أساسًا؛ فما من أحد يُنكر على أيّ لهجة أو لغة بلاغتها النسبيّة، وإبداعها التعبيري، ولا أن فيها- بالطبع- ما يفيد، كأيّ مُنتَجٍ بشري.  بل لو صدقنا النظر لرأينا أن ليس في الوجود ما هو ضارٌّ بإطلاق، دون نسبةٍ ولو ضئيلة من فائدة، حتى «المصائب»؛ فـ«مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائد»، كما قال أبو الطيِّب!  فأيّ احتجاجات تلك؟  لو كانت بمثل هذا تثبت القضايا، ويُماز الخبيث من الطيّب، والحقّ من الباطل، لتساوت الأمور!  وإنما الإشكال مع الأدب العامّي يكمن في: «اللغة»؛ من حيث هي لغة فاسدة، بمقاييس العربيّة، الواجب الحفاظ عليها وحمايتها من كلّ ما يؤثّر فيها، أيًّا كان، ومهما كان.  أمّا أن التراث العامّي، أو الشعبي، فيه فوائد معرفيّة، فمن قال غير ذلك؟!  بل إنك ستجد ممّن يقفون موقفهم ضدّ العاميّة محتفين بالأدب الشعبي من هذا الباب، كما يمكن أن يحتفوا بأيّ أدبٍ، وإنْ لم يكن عربيًّا أصلًا، ما دامت فيه مادّة بحثيّة.  غير أنّا لا نرى في هذا ما يبرِّر تشجيع العامِّيَّة، إنتاجًا ونشرًا، بحالٍ من الأحوال.  ذلك أن لغة الأُمّة الواحدة ينبغي أن تظلّ خطًّا أحمر، لا يجوز اختراقه.  أمّا المعلومة والحكمة والفكرة، فكلّ ذلك مبذول في الطريق، يعرفه العربي والعجمي، والبدوي والحضري، والعامّيّ والمتعلّم، ويمكن أن يُلتقط، ويُدرس، ويُستلهم، كما تُدرس الآثار، والعاديّات، وتُنشأ من أجلها المتاحف.  أ فيقول عاقل، مثلًا، وفق ذلك المنطق الماضوي البالي: بما أن الآثار، والتُّحَف، والمأثورات الفلكلوريّة، قيّمة جدًّا، وهي فوق ذلك تراث الآباء والأجداد، إذن، لنعش في المتاحف، ولنلغِ حياتنا، وعصرنا، وحاجيّات زماننا، وصالح أعمالنا، وقوام حضارتنا، بل لنُعِد إنتاج ما كان صالحًا قبل مئات السنين؛ كي نعود للعيش فيه، وندع ما وراءه، ممّا هو خير وأصلح وأرقى وأبقى.  أ يقول بهذا عاقل؟ بل أ يَقْدِر عليه إنسان سويّ؟!  كلّا!  ولذا فأنت ستجد الغارقين في متحفيّاتهم القوليّة من أكثر الناس غرقًا في الحداثة الماديّة!  وليتها حداثتهم هُم، أي من إنتاج أُمَّتهم، لكنها ممّا اضطرّتهم إليه الحياة والعصر، فاشتروه بأموالهم.  وتلك إشكاليّتنا الحضاريّة؛ إذ لا نفرّق بين ما نأخذ وما ندع، ولا بين أن نبني حداثتنا على أصالتنا، وأن نشتري حداثتنا بأموالنا، ولا بين أن نُبقي على أصالتنا في حداثتنا، وأن نَبْقَى نحن ندور مع «سانِيَة» مائنا القديمة، خلف العَير أو البعير!  وما هكذا تورد الأصالة، ولا كذاك تكون الحداثة، ولا هكذا يكون الاعتزاز بالتراث!  لقد كرّرتُ مرارًا القول إن هذا (الحَوَل الفكريّ)، الناشئ عن رؤى متعصِّبة، هو سبب إعاقاتنا؛ لأن بعضنا لا يرى إلّا الرفض والهدم، وآخَر لا يرى إلّا فتح الأبواب على مصاريعها، بلا رويَّة ولا تفكُّر، وكِلا الفريقين مندفعٌ يُناطح في اتّجاه، وكأنه قد مَلَك الحقّ المطلق في إهابه.
وعلى الرغم من كلّ ذلك الضجيج اللهجيّ، الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ العربيّ، ومن الخطورة التي لا ينكرها من يدرك السُّنَن اللغويّة، فإن السؤال في هذه السياق يمكن أن يكون: كيف نزعم أن العاميّة تُشكِّل خطورةً على الفصحى وهي محكومة في النهاية بالانقراض؛ لأسباب عديدة، أبرزها أن العامّيّ يناطح صخرة التاريخ، والجغرافيا، والواقع الراهن، وبلا قرون؛ لأن رصيده التاريخيّ صفر، وأدبه إفرازٌ وقتيٌّ عابر، ومَن سيفهم عاميّة اليوم بعد مئة عام؟!  كما أن انتشار التلقّي لمحكيَّةٍ من المحكيّات يظلّ محدودًا جغرافيًّا بمَن يفهمونها، حتى في داخل القُطر الواحد.  إضافةً إلى أن علاقة الأدب العامّيّ بواقع الحياة المعاصرة، بل حتى بواقع قائليه أنفسهم، علاقة باهتة غالبًا، وفقيرة الرصيد، إنْ لم تكن علاقة مُنْبَتَّة، إلّا لدى بعض الحداثيّين منهم.  وعليه فقد يرى بعض المتفائلين أن الخطورة على العربيّة من العامّيّة ما زالت تتمثّل في إعاقة تقدّمها وشيوعها وتطوّرها الحيويّ، لا أكثر من ذاك.  وأن الهوجاء العامّيّة القائمة لا تبدو أكثر من محاولةٍ يائسة لاسترجاع اللّاوعي الجمعيّ، ماضيًا قَبَلِيًّا، وحنينًا شعبيًّا.  وهو استقراء متفائل،  كان منطقيًّا بعض الشيء، ومُريحًا بعض الراحة، منذ سنوات؛ أي قبل أن يهبط الإعلام بقوّة إلى الميدان، ويتبعه التعليم على استحياء، ثم على غير استحياء.  أمّا وقد دخل الإعلام والتعليم، بكلّ حمولاتهما، ساحة معركتنا اللغوية، ومالا عن رسالتهما المفترضة بعض الميل أو كلّ الميل، فقد أصبح خطر العامّيّة ماثلًا، وبات شأنها مؤثِّرًا بالغ التأثير، لا في اللغة والأدب فحسب، ولكن أيضًا في القِيَم الثقافيّة، والأنساق الاجتماعيّة، والتطلّعات الحضاريّة.  إننا، والحالة هذه، بإزاء ما يوشك أن يكون ردّة إلى ما قبل العصر الحديث، على مختلف المستويات، وارتكاسة إلى الماضي، والقَبَليّ، والمحلِّي، والقُطري، والإقليمي.  واللهجة العامّيّة، ضمن هذا السياق، لم تَعُد إلّا نسغ ذلك الحراك الاجتماعيّ الشامل، الهارب إلى الخلف من كلّ أَمام.  لكأنما هي في التحليل الأخير ردّة فعلٍ طفوليّةٍ للإخفاقات التي لحقت بالمشاريع العربيّة، والإحباطات التي رانت على آمالها، ممّا جعلها تنكفئ إلى واقعها القديم؛ حالَ الشاعر الجاهلي حينما كان يقف على الأطلال، ويبكي على الرسوم، ويستنجد بالآثار.  وليس من المبالغة القول إن هذا التمادي في التمادي قد يُسقط عمّا قريبٍ الخطوط اللغويّة الحمراء كلّها؛ ليفتح البيبان على مصاريعها لمزاحمة العربية بأخلاط من اللغات؛ فاليوم لهجاتنا العاميّة، وغدًا اللغة العبريّة- كما أصبح عليه الأمر دستوريًّا في بعض البلدان المغربيّة، إلى جانب العاميّة الأمازيغيّة- ثم ستأتي الفارسيّة،  والهندية.. وهلمّ جرّا.  ولتلك المزاحمات اللغويّة والمراودات اللهجيّة تأثيران، تأثير مباشر وآخَر غير مباشر.  يتمثّل الأوّل في إحلال اللسان الآخَر محلّ اللسان العربي، أمّا التأثير الآخر، أي غير المباشر، فيتمثّل في تدجين العربيّة الفصحى نفسها، وتلهيجها، وإنْ بدت معربة فصيحة؛ بما ينحرف بها عنه من ثراء العربيّة، ودقّتها، وذوقها في التعبير، وأساليبها البلاغيّة في التصوير.  آية ذلك أنك  تجد ما يسمَّى باللغة الصحفيّة اليوم، أو اللغة الإعلاميّة عمومًا، يقع في مستوى لغويٍ هجينٍ، يظهر في شِبْه لغة محكيّة، وإنْ بدت معربة، وتشبّهت بالفصحى.  بل لقد أصبح ذلك هو لسان الأدب العربي الحديث غالبًا؛ حتى صار مَن انحرف عن نَسَق تلك العربيّة الإعلاميّة- طامحًا إلى أخذ نفسه بأصالة تعبيرية- عُرضةً لأن يُرمى بالتفيهق، والتقعّر، والتوحّش؛ إذ لا بدّ أن يكون عاميًّا (تقريبًا)، وإلّا نَبـَتْ عنه الذائقة العربيّة المعاصرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق