لُعبة التأمّلات واستباق مخيّلة القارئ
|
|||||
يكتسب دال المستشفى في رواية 'تأمّلات رجل الغرفة' لأحمد طوسون مدلولات خاصة تجعله أقرب إلى السجن منها إلى أماكن العلاج والتمريض.
|
|||||
ميدل ايست أونلاين
|
|||||
بقلم: د. مهدي صلاح الجويري
|
|||||
هل يمكن أن يحدث فقدان جماعيّ للذّاكرة؟
إن
الأدب بوصفه نظامًا يقف على الجانب النقيض من الألفة والاعتياد يمنح
القارئ دائمًا فرصة طرح الأسئلة غير المألوفة. الأسئلة التي هي الدّافع
الرئيس إلى إعادة القراءة والتحليل والتأمّل، ومن ثمّ إعادة التّفكير في
الإجابات التي لا حقّ لها في الثّبات أو الطمأنينة، وإلا فقدت القراءة
متعتها وجدواها في الوقت ذاته.
السّارد في رواية "تأمّلات
رجل الغرفة" هو سارد - بحسب جيرالد برنس- غير مجانس للحكي، وهو يتولّى
إدارة السّرد بنفسه طوال الوقت، فهو من نمط السّارد العليم ببواطن الأمور،
وهو نمط رشحته مقتضيات السّرد بحكم الذاكرة المفقودة لدى شخصيّة البطل
(عايد) وباقي شخصياّت الرّواية.
لم يكن متصوّرًا إذن - من
الناحية الشكليّة على الأقلّ - أن يتولّى (عايد) عمليّة السّرد ما دام قد
فقد ذاكرته دون عودة،؛ لأنّ السّرد عملية تقوم في أساسها على التتابع
الخطّي الذي ينبني على تجاوز فعل في الزّمن الماضي، ومن ثمّ إعادة إنتاجه
لفظيًّا أو كتابيًّا.
ويشار في هذا السّياق إلى أن السّرد
لا يسير وفق رؤية تقليديّة في بناء الرّواية، فلا تجد مبدأ التّصاعد
الدّرامي، أو أحداثًا يسلّم بعضها إلى الآخر وصولاً إلى تأزّم الأحداث، أو
ما كان يعرف بالحبكة، وإنما تجد نوعًا من السّرد يعتني بالسّرد في ذاته،
ومن ثم تجد مستويين من مستويات الكتابة في النصّ: أوّلٌ يخادعك ببساطة
اللغة وسهولة الطّرح إلى حدٍّ يدعوك إلى التفكير في نوع القارئ الذي يتوجه
إليه السّرد، ثم تكتشف في مستوى آخر أنّ النّص قد عمد إلى نوع من المراوغة،
فقام بتغطية مساحات أخرى من الإلغاز والترميز، وهي مناط التأمّلات التي
يرشقها عنوان الرواية.
اللافت في الأمر أن السّارد يستبق
مخيلة القارئ بأكثر من طريقة، فالنّص، أيّ نصّ، يقدّم معطيات أو مفاتيح
ينفتح معها أفق التوقّعات، فيفترض القارئ افتراضات متعدّدة، وتنطلق مخيّلته
في فضاء واسع من التأويلات تنطلق من معطيات النّص وتعود إليه إلى أن
يستقرّ ترجيح بعينه.
لكن السّارد في الرّواية لا يترك هذا
الفضاء الواسع من الاحتمالات، ولا يضيّقها - في أغلب الأحيان - إلى حدّ
الوقوع في أزمة الرؤية الأحاديّة، وإنما يضع القارئ في نطاق من التوقّعات
قد يكون أرجحها ما استبقه إليها.
من هذا الاستباق مثلاً
توقّع الأحداث من خلال تساؤلات السّارد، فهو يفاجئنا – مثلا - بمشهد إفاقة
عايد من غيبوبته على هذا النحو "رأسه ثقيلة وباردة مثل بالون كبير مليء
بقطع الثلج المهشّم.. شيئًا فشيئًا استجابت أعضاؤه للمحاولة.. رفع ساعده
حتى يتمكن من رؤيته.. وخزه الكانول المثبّت بشريط لاصق فوق ذراعه.. رأى
آثار الجروح وسحجات وكدمات. لا بد أن حادثًا كبيرًا قد وقع.. كابد حتى خرج
منه صوت بطيء مثل أنّة ألم: لِمَ أنا هنا؟"
هكذا بلا
مقدّمات يفتح التساؤل الأخير توقّعات القارئ، فقد يتوقع مثلاً أن العبارة
الأخيرة مناسبة لحالة الإفاقة التي تمرّ بها الشّخصيّة تمهيدًا لتذكّر
الحدث الذي تسبب في هذه الجروح والكدمات، وقد يتوقع أن ذاكرة البطل قد هربت
منه وهو الآن في محاولة لاستعادتها، وفي الحالتين كلتيهما هناك توقع أوحت
به عبارات السّارد أن الشّخصيّة فقدت الذّاكرة، إلى أن يتم تأكيد هذا
الفقدان الذي استبقتنا إليه عبارات السّارد بعد ذلك بعدة صفحات، وذلك بسؤال
المحقّق للبطل عن اسمه، فلا يتذكر.
ومن الأمثلة البارزة
على هذا الاستباق ما تثيره أسئلة السّارد وتشكيكه في بعض الأمور الخاصة
بالشّخصيات أو الأحداث، فيطالعنا مثلاً مشهد نقل عايد إلى غرفة أخرى،
ونتوقع مع سياق السّرد أنه كان في غرفة العناية الفائقة، وهو يُنقل الآن
إلى غرفة أخرى فيفاجئنا السّرد بشخصيّة جديدة قد نظنّها الطبيب، ولكن
عبارات السّارد وإيماءاته لا توحي بذلك "انزاح البياض المصمت وتراءى أمامه
مكتب عريض واسع يجلس خلفه رجل يرتدي بذلة أنيقة كاملة برابطة عنق تتصدرها
صورة. توقف الجالس خلف المكتب الخشبي عن العبث بقلمه وإحداث تلك الدقات
الرتيبة".
المنطقي في سياق السّرد أن ينتقل المريض من
غرفة العناية إلى غرفة أخرى، أو أن يلتقي طبيبًا أو ممرضة أو مرضى آخرين
...إلخ، ولكنه ينتقل إلى مكتب يقبع وراءه رجل على تلك الهيئة التي استبقنا
إليها السّارد بإيماءاته، واستبقتنا معه هذه الشّخصيّة الجديدة هي الأخرى
من خلال طريقة الأسئلة التي تطرحها على البطل: "هل تخبرنا باسمك وسنك
ومهنتك؟
لم يستطع أن يهرب بعينيه اللتين تجمّدتا في
مكانهما. أحسّ أنّ ممحاة كبيرة مرّت على رأسه ولم تترك شيئًا بالذّاكرة..لم
يتوارد على رأسه أي اسم (إن طرق أحدهم رأسه لابد أن يكون اسمه).. بعد جهد
هرب بعينيه من حصار نظرات الرّجل التي صنعت ثقوبًا في جسده . على الحائط
شاهد الرّجل والنقالة وكائنًا شاحبًا يرقد فوقها وتفاصيل الحجرة فوق شاشة
عرض كبيرة .
اشتمّ رائحة فم كريهة حين مال الرجل واقترب من أذنه وهمس فيها:
هل نسيت اسمك "
والمونولوج
الداخلي الذي يأتي بعد هذا المقطع يشير إلى خوف الشخصيّة من أن تكون قد
ارتكبت جرمًا ما، ويفتح بابًا للشّك في نوايا هذه الشخصيّة القابعة خلف
المكتب الخشبي مما يؤكد أنه ليس طبيبًا، ويكشف لنا السّارد عن شخصيته صراحة
بعد ذلك بشكل مفاجئ وهو ما يبدو بارزًا في وصف السّارد لهذه الشّخصيّة
(شخصية المحقّق) وملامحها وصفاتها.
يستبقنا السّارد إذن
في فقرات متعدّدة بأكثر من طريقة، لنكتشف في النهاية أن ما تومئ إليه
عباراته كان مقصودًا، وأن عملية قفز ما على الأحداث تستبق القارئ.
الظهور
المفاجئ للشّخصيات قريب من هذا الاستباق كذلك، فالشخصيات تظهر على نحو
مفاجئ دون أي مقدمة أو تمهيد "يبدو وكأن خوفا ما يرج كيانه. خوف لا سبيل
إلى مواجهته إلا بهذا الهدوء والصمت.
وحدها ريم كان
بمقدورها أن تقرأ ما في عينيه من أسى، تقرأ السؤال الرابض هناك دون إجابة .
لا توجد إجابات بين جدراننا العالية . لا توجد أسئلة إلا داخل النفوس
المختبئة داخل كهوفها".
من ريم؟ وما علاقتها بعايد؟ لا
نعرف. وما يتصل بها من فقرات لا يعدو كونه ومضات تشير إلى علاقة عاطفية
تربطها بالبطل، وعلى الرغم من انحسار الفقرات التي تخصّ هذه العلاقة فإننا
نستطيع توقّع العلاقة بينهما من الفقرة السّابقة على نحو يتعمد السارد
إبرازه، وعلى أية حال فهي تظهر على هذا النحو المفاجئ، دون أن نعرف عنها
شيئًا، وهكذا تظهر معظم شخصيات الرواية ، كظهور خضر مثلا "يسمعون صوت خضر
يتردد صداه عميقًا - لكي تعرف لا بد أن تؤمن بفكرة - أو ظهور شخصية الشيخ
الذي لا نعرف عنه شيئًا مسبقًا " هل يدق باب الشيخ ويسأله، أو ظهور شخصية
سهام "بإمكانهم توقع أي شيء إلا أن يخلو مكان من أفراد الأمن خاصة بعد
أحداث الجمعة الأخيرة. حينها لاحظوا تغيرًا بسهام".
ها
هنا لا بد أن نتوقف عند أمرين مهمّين يتصلان اتصالاً مباشرًا بفكرة استباق
مخيلة القارئ التي نطرح، الأوّل فكرة الإلغاز، والآخر فكرة الزّمن.
نحن
لا نزال في موضوع الظهور المفاجئ للأحداث والشخصيات، ولا نزال كذلك نتتبع
إيماءات السّارد التي ترجح احتمالات بعينها يصرح بها بعد عدة صفحات أو في
فصول أخرى متأخرة من الرواية، فيقدم السّارد مثلا حوارًا يتوجه فيه (يحيى)
إلى عايد بالخطاب:
" لم أنت صامت؟
لم يا صديقي زرعوا الخوف بأرضك القاحلة ؟!"
ففي
المقتطف إشارة إلى ضمير الجمع الغائب (هم). هكذا فجأة. فمن هم الذين زرعوا
الخوف في نفس عايد؟ ثمّة إشارات متعدّدة إلى هذا الضمير توحي بأنّ هؤلاء
قد ارتكبوا الكثير من الجرائم في حق عايد، ويحيى، وسلوى وسائر شخصيات
الرواية. فمن هؤلاء؟
والسؤال الآن: إذا كانت المقتضيات
المنطقيّة لفقدان الذّاكرة قد حدّدت نمط السّارد بحكم أن استعادة الأحداث
وسردها (من الزّمن الماضي) لن تتاح لهؤلاء الأشخاص فاقدي الذّاكرة، فما
الذي يضطر السّارد إلى استباق القارئ؟
***
إذا
تأمّلنا - شأن تأمّلات رجل الغرفة - المستوى الثّاني من القصّ فإننا
نستطيع القطع بأنه يصنع النقيض تمامًا، فيستبدل بالبساطة الترميز، ويعمد
إلى شحن الدوالّ بشحنات دلاليّة تناوش القارئ النشط وتحفّزه على التّعامل
مع هذه الدّوالّ على نحو مختلف.
ليس هناك بالطبع حدّ
فاصل بين المستويين فنقول مثلاً إنّ هذا المستوى يقف عند حدود بعينها، أو
أن نضع تمييزًا بين المستويين، وربما كانت براعة هذا النّص في تلك المراوحة
التي تخفي الحدود الفاصلة بينهما.
المستشفى مثلا في هذه
الرواية دالّ يدعونا إلى تأمّل الإشارات النصيّة، ومن ثمّ طرح الأسئلة، فما
الذي يضطر الناس إلى الذهاب إلى المستشفى؟
الذهاب إلى
المستشفى إنما يكون طلبًا للاستشفاء، هذا أمر بدهي. فإذا كان المستشفى في
الرواية جزءًا من المشكلة وأداة لقمع المرضى وقهرهم فإن المسألة تحتاج إلى
التوقف. أو بالأحرى إلى التأمل.
المستشفى هي الفضاء
المكانيّ الذي تدور فيه أحداث الرواية، والمكان هنا مكان غير معلوم، مجرد
مستشفى ضخم له سور هائل، وهكذا أراد له السّارد أن يتّسع للفضاء الفلسفيّ
للنّصّ. فضاء الرّؤية.
عموما يكتسب دال المستشفى في
الرواية مدلولات خاصة تجعله أقرب إلى السجن منها إلى أماكن العلاج
والتمريض، وهي توصف بالمستنقع، أو مكان لتصنيع الجنون يدفع بالنزلاء إلى
اليأس، والسأم من الحياة ماضيها، وحاضرها"أصبح يكره عايدا الذي لا يعرفه،
وعايدا الذي يعرفه، كلاهما يشتركان في توريطه بهذا المستنقع.
لا يمكن أن يكون هذا مستشفى للعلاج.
إنه مستشفى لتصنيع الجنون".
المستشفى
مكان بوليسي ينتشر فيه الأمن والحراس، وهو مكان للإهمال، للأوامر،
للتعليمات، للسجن، للقهر، لكبت الحرية، وهو لم يكن كذلك – كما يصف السارد
في مواضع متفرقة - في أثناء إنشائه، كان المستشفى حلمًا للناس وللطبيب
معًا.
المستشفى فضاء مكاني كان يتّسع باتّساع المنطقة أو
مساحة الوطن، أو المنطقة العربية بأكملها، ولكنه ضاق إلى حدود السّور الذي
يقبع داخله النزلاء، وهي في مجموعها دوالّ أراد بها السّارد أن يصنع بناء
مختلفًا للمستشفى، ورؤية خاصّة قبل أن يصرّح بشكل مباشر تصريحه حول هذا
المستشفى" لا يعرف لِمَ يرى شبها إلى حدّ التطابق بين ساكني المستشفى وحال
العرب؟
دالّ المستشفى جزء من لعبة التأمّلات التي
يناوشنا بها السّارد طوال الوقت، اللعبة بمفهومها النقدي الذي يصلها
بالمعنى والتأويل من ناحية، وبما وراء المقول في النّصّ من ناحية أخرى "
لقد فتحت أعمال “سوسير” وغيره من مجايليه، وبياجيه ودريدا وبنفنسيت وغيرهم
الآفاق أمام المعطى النظري للألعاب.
ويستعرض المؤلف
المجري فارغا سلطان اللعب كموضوع معرفة وموضوع خطاب، ومن خلاله يطرح سؤالا:
كيف نتحدث عن الألعاب؟ وهو سؤال يفتح طريقًا مزدوجة على مستويين من
التحليل المتباين أنطولوجياً، فهو خطاب يتناول الموضوع المسمى بحصر المعنى/
اللعب، والآخر ما وراء الخطاب الذي يعنى بظروف الكلام المتعلق به".
الطبيب
هو الآخر في هذه الرّواية يدخل في لعبة التأمّلات، فالطبيب في هذا
المستشفى ليس موجودًا، أو أن حضوره غير ملموس وغير فاعل، وكل ما يعرفه
النزلاء أن احتفالاً سنويًّا يقام بمناسبة عيد ميلاده " منذ سنوات طويلة
مرت لم يسمع أحد عن احتفال بين أسوار المستشفى إلا الاحتفال بعيد ميلاد
الطبيب. ربما قرر رأفة بنا أن يحتفل به مرتين أو أكثر
- عاش ..عاش..عاش
- نحن فداك ..نحن فداك"
هل هذه العبارات "عاش، نحن فداك" تقال للطبيب الذي لا يعرفه مرضاه؟
وعلى الرغم من ذلك يقدمه السّارد على أنه صاحب السلطة المركزية "لا أحد في المستشفى يعرف شيئًا. الوحيد الذي يعرف ويقرر هو الطبيب".
من ثم يلعب السارد بالدوال اللغوية على نحو مثير، فنقرأ :
"شخص واحد يتحكم في كلّ شيء..
كأنّه لم يولد في هذه الأرض وهبط من فضاءات الكواكب المترامية بالسماء.
شخص أسطوري بملامح جبارة تجعل كل ما يقرّره صوابًا
وكل أوامره دستورًا.
الطبيب الجالس في المبنى الرئيس.
المبنى الذي لا يستطيع أحد الاقتراب منه!"
الأوامر، الدستور، الرئيس. هل هي مفردات لغوية عابرة في السياق؟!
ولكن هل مجرد التفكير في أن يكون أحد النزلاء طبيبًا كفيل بأن يذهبوا به وراء الشمس- بحسب التعبير العاميّ - فيختفي للأبد؟
" - أريد أن أدرس الطب.
غطى الشحوب وجوه الممرضين والأمن، علت الضحكات وجوه أعضاء اللجنة، تبادلوا كلمات هامسة انتهت بقول أحدهم:
- Good
Very good
تريد أن تصبح طبيبا؟
.............................
أشار بيده ناحية المبنى الإداري البعيد وقال:
- وما المانع؟
- لم يلحظ عايد ومحمود غيابه إلا في الصباح".
إنها
النّهاية التي قد تنتهي بمن يفكر في مزاحمة الطبيب سلطته. هذا الطبيب الذي
كان يمكن أن يقودنا إلى الحلم كما يصفه السارد" كان بإمكان الطبيب أن
يقودنا إلى المستحيل "أصبح يعاني من مرض الشيخوخة" لا بد أنه مرض
الشيخوخة.. طبيبنا ربما تجاوز الثمانين ونريده أن يطيب جراحنا!".
هذا
الطبيب المعزول عن مرضاه صنع منه منافقوه والمحيطون بكرسيّه فرعونًا أو
إلهًا، وهم الذين دفعوه للجلوس على كرسيه الوثير" لكن لم يعجبهم تواجده
بيننا.ظلوا يدفعونه ليدخل إلى المبنى الإداري ويجلس فوق كرسيّه الوثير
يستمع ولا يرى".
ألا نزال في حاجة إلى التساؤل عن علاقة
هذا الطبيب بالكرسيّ؟ هل ما زلنا في حاجة إلى التأكيد على أن الكرسيّ دالّ
مهم في هذا السياق ؟
إنها لعبة الدوال المشحونة بالمواربات الدلالية التي ألبسها السّارد تأملات الشخصيّة. شخصيّة البطل.
هل
أصبحنا الآن قادرين على تلمّس حدود الدلالة في إجابتنا عن التساؤل حول
إمكانية الفقدان الجماعي للذّاكرة، أو بتعبير أرجح فقدان الذاكرة الجماعية؟
وهل أصبحنا الآن نعرف أن سور المستشفى هو سور الوطن؟ وأن الطبيب الطاعن في
السن (تجاوز الثمانين) والمحيطين به هم وحدهم الذين أوصلوا النزلاء إلى
فقدان الماضي والحاضر معًا؟ هل أصبحت الإشارة إلى ضمير الغائب (هم) - الذي
وضعْنا علامات استفهام حوله منذ قليل - واضحة.
إن السلطة بما تمثله من قهر غاشم أفقدت النّاس ذاكرتهم، وتعمّدت إحباطهم ووصولهم إلى هذه الحالة من اليأس والاستسلام.
كان
طبعيًّا إذن بحسب نمط السّارد أن يتولى إدارة السّرد لأن شخوصه فاقدو
الذاكرة، أما استباق القارئ إلى المستقبل فيبدو أنه مثير هو الآخر.
***
الأمر
المهم الآخر الذي أشرنا إلى ضرورة الالتفات إليه هو هذا الاستباق وما
يقودنا إليه من إشارة إلى الزّمن. شخصية خضر تساعدنا على فك اللغز، فخضر
يمتلك رؤية شفّافة باصرة ومختلفة أقرب إلى لغة الكاهن أو العراف. وتتماهى
شخصية السارد الذي يسرد من خارج الحكاية مع شخصيّة خضر في مواضع كثيرة، في
معرفته بأدق التفاصيل، وفي استشرافه أفق المستقبل. لكن ليس هذا هو الدافع
الحقيقي في التقدّم على القارئ، ومناوشة أفق توقعاته بمرجحات موجّهة.
ذلك
أن الزّمن هو صاحب اللعبة الأبرز في هذه المسألة. فما بين توقّف الماضي،
والقفز إلى المستقبل دلالة ما. إن اللحظة تبدأ من الآن وليس من أي لحظة
أخرى تنتمي إلى الماضي. يراد للزمن الذي توقفت عنده حركة الذاكرة أن يُطرح
جانبًا، أن يتجاوز اللحظة الحاضرة. يراد الدفع في هذا الخطاب إلى المستقبل.
نحو اقتطاف لحظة ما وامضة . كفيلة بصناعة هذا المستقبل.
|
الصفحات
▼
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق