الصفحات

2012/08/25

"تصريح سفر" قصة بقلم: محمد نجيب مطر


تصريح السفر


محمد نجيب مطر
ذهب المهندس لكي يستخرج تصريح السفر إلى الخارج وهذا آخر يوم له في مصر، هناك سيبدأ عهداً جديداً بلا ظلم وبلا تعنت، لماذا كل هذا الاضطهاد والقسوة عند التعامل مع الأجهزة الحكومية فقط لأنه ربى لحيته، فقد استدعاه رئيس مجلس الإدارة وسأله بعد أن تكلم لدقائق في مواضيع شتى : لماذا تربي اللحية، فيرد عليه بثبات : إنني أتشبه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له : وهل فعلت كل سنن النبي ولم يتبقى إلا اللحية، فأجابه المهندس الشاب : أعتقد أنها حرية شخصية وليس هناك ما يمنعني قانوناً من تربيتها، فسكت على مضض على أمل أن يعود إلى سابق عهده بعد أن يمل منها، ولكن عندما رآه يؤم الفنيين في الورشة لصلاة الظهر اتخذ قراراً بنقله إلى أسوان معللاً ذلك بأن على كل مهندس شاب أن يعمل في جميع فروع الشركة، فابتسم المهندس وعرف أنها أول الابتلاءات التي يلقاها بسبب تمسكه بتربية اللحية.
وعندما حاول استخراج جواز السفر أرسلوه إلى أمن الدولة لكي تتم المقابلة ويقوموا بعمل تحريات عنه، وانتهت المقابلة بموافقتهم على إعطائه الجواز بالخروج وكأنهم لا يتمنون عودته، وكان يسأل نفسه أكانوا يفعلون ذلك لو قلد مايكل جاكسون، ثم يحوقل ويستغفر.
وعندما عاد إلى قسم البوليس ليأخذ الترخيص أخبروه أن يأتي بعد ساعتان، فجلس على قهوة قريبة وطلب فنجان من القهوة وأخذ يقرأ الجريدة، أخرجت نداءات الباعة الجائلين المهندس من أفكاره، وكان بعضهم يبيع مترجلاً ينتقل ببضاعته على كتفه من مكان إلى مكان ويعرض بضاعته مستوقفاً الباعة، والآخرون يفترشون الأرض، متخذين منها مكاناً لعرض بضاعتهم، ينادون عليها بعبارات فخمة مثل : بواقي التصدير لدول أوروبا، بضاعة أوروبية مستوردة، أو الكريستال الفرنساوي المعتبر، أو الصوف الإنجليزي الذي  لا يوجد مثله، وكانوا ينادون على بضاعتهم وهم يتلفتون يمنة ويسرة كأنهم يتوقعون هجوماً من عدو مجهول على وشك الوقوع، فهم مستعدون في جميع الأوقات لطي بضاعتهم والهروب بها بسرعة عند أي هجوم خاطف من موظفي البلدية عليهم لمصادرة بضاعتهم تحت زعم أنهم يخالفون القوانين، ليتركوهم في حالة من الحزن والحسرة على أموالهم التي ضاعت عليهم، وربما يكونون قد استدانوا بضاعتهم للحصول على ما يسد رمقهم، ويقوم الموظفون بذلك الواجب بكل حماسة وكأنهم يطاردون مجرماً قد ارتكب كبيرة من الكبائر وليس إنساناً يرغب في الحياة بشرف وتعب وعرق دون أن يوفروا له بديلاً مشرفاً لكي يعمل من خلاله في كسب لقمة العيش، كانت هموم الناس من حوله تسري عليه ما هو عليه من هم وغم وحيرة لا يعلم إلا الله مداها .
إن المهندس يعشق القانون ويرى أن الالتزام به واجب ديني وأخلاقي في المقام الأول، وأن القانون الذي لا ينفذ أسوأ من عدم وجوده، ولكن لابد للقائمين على وضع القوانين أن يجدوا بديلاً لهؤلاء البشر، لماذا لا يوفرون لهم مكاناً بديلاً يعرضون فيه بضاعتهم الرخيصة مقابل إيجار زهيد أو حنى بدون إيجار، لماذا نفكر دائماً في اتجاه واحد، فقد قال القدماء إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
وبينما ينقل بصره في السوق هنا وهناك رأى بائعة من الفلاحات كما توشي ثيابها بذلك تبيع بعض أنواع الخضر كالطماطم والخيار وكانت تضع ميزانها على الرصيف وتضع طفلها على صدرها ترضعه، وجاءها شرطي يقول لها أن تترك المكان و إلا أخذ منها البضاعة ورماها في السجن، ولقد فعل ذلك مع كل من كان قبلها فكانوا يدسون في يده ورقة من فئة العشرين جنيهاً فيضعها في جيبه ويتركهم، أما هذه المسكينة فيبدو أنها كانت جديدة في السوق أو ربما كانت جالسة لتوها وليس عندها ما يمكن أن تعطيه له، فردت عليه قائلة :  إنها ليست لصة أو بغي حتى يضعها في السجن، وأنها لن تعطيه شيئاً فما كان منه إلا أن دهس الخضراوت بحذائه الميري الضخم وأخذ يسبها بأقبح الألفاظ وأصر أن يأخذها إلى القسم حتى يؤدبها، فأمسكها من شعرها وجرها على الأرض وهي تمسك طفلها بيد وتحمل الميزان باليد الأخرى لأنهما أغلى الأشياء عندها، أثار المنظر النخوة في نفس المهندس فانطلق إلى الشرطي وصرخ في وجهه أليس في قلبك رحمة؟ هل أنت بشر أم حجر؟ ماذا فعلت المسكينة حتى تفعل بها ما فعلت ؟ اترك المرأة وستأتي معك، فهدده الشرطي بقوة لأنه اللحية نقطة ضعف فيه ويمكن أن يلفق له أي تهمة، سار المهندس مع المرأة وتجمع الناس حولهم وحمل عنها الميزان ووصى البعض على ما تبقى من بضاعتها، وذهب معها حتى سيارة الشرطة البوكس وقال لها لا تخافي سأسبقك إلى القسم وأنتظرك هناك لا تخافي أنا معك شاهد على الجريمة التي فعلها هذا الشرطي معك وسنشهد جميعاً أنا وكل هؤلاء الناس لصالحك وسنطلب لك حقك من هذا الرجل الذي أخل بشروط وظيفته، فازداد حماس الرجال الواقفين معه وقالوا نعم سنشهد على أنه طلب منك رشوة ولما رفضت فعل ما فعل، وجد الشرطي أن الأمر يمكن أن يتطور في غير صالحه فأنزلها وقال لها لا تفعلي ذلك مرة أخرى، وانطلق بسيارة الشرطة وهو يلعن في سره هذا الأفندي الذي استطاع تجميع الناس حوله، نظرت إليه المرأة في امتنان وابتسمت بينما كانت دموعها تسيل على خديها في صمت، فنزلت دمعة سريعة من عين المهندس وأعطاها الميزان ومبلغ جمعه لها من الناس وتركها وأسرع إلى مكتب الطيران لكي يلغي سفره فهناك الكثير مما يجب عمله من أجل إنصاف هؤلاء البسطاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق