الصفحات

2012/08/09

"نبش المخبوء" قصة بقلم: عبد العزيز مشرف


نبش  المخبوء
 عبد العزيز مشرف

             الجو شديد القيظ ، لا تجد أحداً فى الشوارع  ، الكل استتر واستظل ، لم يبق غيرهم – وهم كالعادة – لا يبالون  بالحر ولا بالبرد – المهم أن يكونوا  هناك  معاً كما اتفقوا  ، عند شجرة الكافور العتيقة ، فى يد كل منهم " بوصة " تعادل أضعاف قامته  ، كأنها وهى فى أيديهم  حراب مشرعة ، تتأهب لموقعة وأى موقعة : موقعة إنزال أعشاش العصافير والجمام من  الشجرة .
           أطفال أكبرهم لم يجاوز الثامنة ، جمعتهم شوارع القرية  فى أيام الصيف  ، وقربتهم  ظروفهم المتشابهة ، يكاد لا يمتاز أحدهم عن الآخر إلا فى سحنة الوجه وطول القامة ، بعضهم ينتعل الأرض ، وآخرون شمروا عن سيقانهم وسواعدهم  ،   وقفوا يتفيئون ظلها المبسوط على مساحة واسعة شبه دائرية ، خارجها لا تطيق قدم مس الأرض من حرارتها ، الرءوس والأعناق مشرئبة إلى الأغصان تبحث خلالها عن عش هنا أوهناك ، يصيح أحدهم ها عش وآخر هناك ، تمتد البوصات الرشيقة متسللة عبر الفروع المتكاثفة لتنفذ إلى أسفل العش النائم على فرع شجرى مستلق على صدر الشجرة  
      العيون كلها معلقة بطرف " البوصة " وهى تلامس قعر العش ، تتمنى كل يد أن لو كانت هى التى تمسكها ، فيا له من شرف رفيع سيتذاكرونه فيما بعد ، وبه سيتباهون  ، ويعيرون إن فشلوا فى المهمة ، كل عين صارت  " صنارة " التقطت صيدها ، ولن تفلته حتى تجذبه لأسفل .
   تبدأ  اليد الطفولية فى تحسس العش بطرف " البوصة " بغمزه فى أماكن متعددة  حتى تنفذ فى الجزء الرخو منه ؛ فتسمع زقزقة صغار العصافير ، حينها تعلو نبرة الحماسة ، تتقافز القلوب ، وتود العيون لو قفزت إلى العش لتنظر ذلك العالم العشى المحجوب ، تستمر البوصة فى الاختراق حتى إذا ما استمكنت بدأ ماسكها بلفها حتى تلتف  عيدان العش عليها ،  هم حينئذ لا يبالون بالأصوات الصادرة من الداخل   تشكو زوال  الوطن ، وتألم لوحشة البطش ، ربما فسروها وعيونهم تضحك زقزقات فرح بإنجازهم الكبير .
                 يجذبون البوصة إلى أسفل ومعها العش كأنه رأس عدو مريد فوق سن رمح ، ووسط  بهجة وترقب يوضع العش على الأرض ، يخلصونه من البوصة  ،   يتزاحمون للرؤية ، يدس صغيرهم رأسه بين الأقدام ، ويحاول أن يوجد  فجوة تتيح له رؤية المشهد التاريخى ، يبدءون النبش فى اللحم الطرى الصغير الذى كان فراخ العصافير وصغارها ، معظمها فارق الحياة وبعضها يترنح  إن لم تقتله هذه المعركة قتله الرعب ، ربما امتدت يد لتأخذ واحداً منها لتعبث به ، يضعونه على حائط ، ويقول قائلهم من أجل أن تأتى أمه لتأخذه ، فهل أرادوا أن يرحموا لوعة الأم ، وفجيعتها فى بنيها ؟! ، أم أرادوا أن  يستزيدوا من  اللهو بعذابات هذه الكائنات ؟! .
        وبالفعل ربما تأتى الأم المكلومة  فتحوم فوق رءوسهم فكأنما تستحلفهم أن يكفوا عن العبث  بحياتها ،  هل رق لها أحدهم ربما ، لكنه يتحاشى البوح لئلا يتهم بالجبن والخور فلا يشترك فى العملية القادمة ، لا يكتفون بعش واحد ، بل يقضون القيلولة كلها فى  نبش مكامن الطيور ، لا ينجو منهم غير ما لا تصل إليه  أيديهم وعصيهم ، فإذا ما بدأت الحرارة تنكسر ،وأذّن  للعصر ، وخرج الناس من مهاجعهم عادوا أدراجهم ، كأن شيئاً لم يكن ، وكأن حياة فوق الشجرة لم تهدم ، وكأن قلوباً لم تمتلئ بهذا الحدث فى المستقبل ندماً .
    ويستقبلون يوماً جديداً بمثل ماكان فى سالفه ، لكنهم أيضاً يستقبلون  غدأ أبعد  سيكونون فيه فى موضع العش ، والفراخ ، ومنهم من سيكون كالعصفورة الوالهة ، لم يكونوا يدرون أن الشجرة العتيقة ستشى بهم إلى المستقبل ، وأن  نفوساً  بأيديها حراب  ستترصد لهم كل مكمن ،  وأن قلوبهم ستغدو غرضاً  لهجمات الحياة وآفاتها ،  آه لو كانوا يعلمون لتركوا الأعشاش فى سلام . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق