الصفحات

2012/09/09

"ابن موت " قصة بقلم: محمد نجيب مطر



ابن موت
محمد نجيب مطر
دخل الطلاب معمل الأجهزة في كلية الطب لينفذوا التجربة المقررة عليهم في ذلك اليوم وهي تشغيل جهاز رسم القلب، قام المشرف بتشغيل الجهاز، ثم اختار أحد الطلاب وطلب منه الرقود على طاولة الكشف، ثم كشف عن صدره ثم نظف بعض المناطق ووضع عليها كريم ثم ثبت الأقطاب عليها؛ اثنان في الصدر وواحدة في القدم، ثم قام بتشغيل الجهاز وظهر رسم القلب واضحاً على الشاشة ثم ضغط مفتاحاً فطبع الرسم على ورقة في الطابعة، وبدأ المشرف في شرح مناطق الرسم وكيف يظهر المشاكل الموجودة في القلب، ثم أدخل مريضاً بالقلب من المستشفى الجامعي وفعل نفس الخطوات، وجعلهم يقارنون رسم القلب الخاص بالطالب ورسم مريض القلب، ثم أنهى المشرف حديثه للطلاب بأن يعيدوا التجربة على طالب آخر وأن يكتبوا تقريراً عن المشاكل المحتملة في قلب الطالب.
تركهم المشرف وجلس في المكتب الخاص به على مقربة منهم وهم يجرون تجربتهم، نادى الطلاب على زميلهم الدسوقي، وكان نحيفاً لكن في صحة ورشاقة لأنهم يعلمون أنه خارج لتوه من قصة حب فاشلة، فقد تمت خطبة حبيبته إلى أحد أعضاء هيئة التدريس بالكلية، ووافق أهلها لأن مركز الخاطب مرموق وأحواله المادية مستقرة وشقته جاهزة و لا ينقصها إلا العروس، كانت الزميلة التي أحبها الدسوقي فتاة خجولة، ذات بشرة بيضاء مشوبة بالحمرة تزداد بسرعة إذا تحدثت مع أي زميل لها، تظهر عليها علامات الطيبة المفرطة، عندما تنظر إلى وجهها لا تحس سوى بالسلام يغمر الدنيا، كان الدسوقي بسيطاً لماحاً ذكياّ صاحب نكتة وطرافة، يفتقده كل الزملاء والزميلات، يحب كل الناس وكل الناس تحبه، تصاحبه البسمة وربما الضحكة أينما حل وارتحل، كان حسن الهندام في بساطة، يرتاح إليه المتعب ويجد عنده الراحة كل مبتلى، أجمع الجميع على حسن خلقه وحسن خلقته رغم بروز صغير في الأنف يجعل له شكلاً محبباً، ومن فرط إعجاب زملائه به قالوا عنه ابن موت.
أحب زميلته وأحبته وعرف الجميع من النظرات واللمحات، ثم تطور الأمر إلى جلسات منفردة طويلة، وعرف جميع الطلبة تلك العلاقة وذاع الخبر وانتشر، ورغم ذلك أصر عضو هيئة التدريس على خطبتها، وانكسر الدسوقي وحل الحزن على الوجه الضاحك، فاختاره زملائه للكشف عليه لأنهم يمزحون بأن قلبه احترق ولم يعد له قلب.
رقد الدسوقي وثبتوا الأطراف على صدره ورجله، وقاموا بتشغيل الجهاز فلم يعطي أي صورة على جهاز رسم الموجات، قاموا بإزالة الأقطاب ونظفوا مكانها ثم وضعوا الكريم مرة أخرى، وأعادوا التجربة فلم تظهر اي صورة، أخذ الطلاب يتضاحكون ويغنون ... دسوقى قلبه انحرق .. دسوقي قلبه انحرق، سمع المشرف الضجة فقام من فوره وعنف الطلاب، وسألهم عن المشكلة، فأخبروه، فأعاد هو بنفسه نفس الخطوات، فلم ينجح في العثور على أي صورة لرسم القلب، فاستدعى أستاذ المادة الذي قام بتغيير الطالب فأعطي الجهاز صورة ممتازة لرسم القلب، ثم أعاد الكشف على الدسوقي فلم يعطي أي رسوم، حاول الدكتور قياس عدد نبضات القلب فلم يحس له بأي نبض، انتقل الدكتور وبسرعة إلى جهاز رسم المخ وقام بتشغيله وعندما لم يجد أثراً لأي رسم، قال : إن المخ الذي يعطي الأمر للقلب بأن يدق ليضخ الدم إلى الجسم لا يعمل فكيف يعمل القلب؟ ضحك الدكتور وقال له: لوكنت عندي بالمستشفى لأعطيتك شهادة وفاة وأنا مستريح الضمير قرير الوجدان، ثم أخبره أن يأتيه إلى العيادة لكي يكشف عليه لأن هناك شيئاً غامضاً في القلب والمخ لابد من إماطة اللثام عنه.
خرج الطلبة من المعمل وهم يحملون الدسوقي على أعناقهم وهو يضحك وفي عينيه حزن عميق، ويهتفون : دسوقي قلبه انحرق، دسوقي قلبه انحرق ... كانت حبيبته خارجة من المدرج ورأت هذا المنظر فانحدرت من عينها دمعة رغماً عنها.
لم يعد دسوقي للكلية فقد اكتشف الطبيب مشكلة كامنة في قلبه منذ ولادته تهدد حياته وتحتاج إلى علاج طويل فاحتجزه بالمستشفى، وانقطعت أخباره وزاره زملاءه فوجدوا شخصاً آخر ينتظر الموت ولم تفارقه بسمته، وفي أحد الأيام علقت ورقة في ركن الاعلانات تنعي الدسوقي الذي رحل مبتسم الوجه حزين النظرة مكسور النفس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق