الصفحات

2012/09/27

لو غاب القمر" قصة بقلم: محمد نجيب مطر



لو غاب القمر

محمد نجيب مطر
كان في طريقه إلى مركز التكنولوجيا التابع لمدينته الصغيرة التي تحتضن النيل أو يحتضنها، فالنيل يحيط بها وكأنه تلوى فكانت مدينتهم بين جنبيه، وكما تعود نظر إلى السماء ليسلم على صديقه القمر كان يراه في السماء على الجانب الشرقي ليودعه عن الحافة الغربية في صلاة الفجر، ويقول له ربي وربك الله، ولكنه لم يجده في مكانه فتعجب، وبينما يسير في اتجاه المركز سمع أذان العشاء فدخل إلى المسجد وصلى صلاة العشاء ولم ينتظر لصلاة النافلة لارتباطه بدورة كمبيوتر في المركز التي تبدأ بعد الصلاة مباشرة ، حاول مرة أن يبحث عن القمر، ونظر مرة أخرى إلى السماء ربما يكون مختفياً وراء سحابة، ولكن بدون جدوى، قال ربما تواري وراء الأبنية العالية خجلاً من أفعال البشر، وسيظهر بعد مدة من زاوية رؤية أخرى، وتحرك نحو المركز الذي يحتل الدور الثالث في مواجهة النيل مباشرة لا يفصله عنه شئ ، وكانت الشرفة تطل على المياه وقد انعكست عليها أضواء الشاطئ والجسر القريب، وكانت القوارب الصغيرة رافعة ً أشرعتها وكأنها أذرع مرفوعة إلى السماء تدعو الله بالسلامة وتفرده بالوحدانية، لتنقل الناس بين الشاطئين، وكان المنظر الرائع للشاطئ الأخضر الذي ينعكس ضوؤه على صفحة المياه التي تتلألأ بأنوار بعيدة فكأنها في عرس أبدي لا يمل ولا يهدأ، وكأنما البشر الذين يعيشون على شاطئيه يعيشون في الجنة بينما الحقيقة أن الناس في هذه المنطقة تعيش كما تعيش أغلبية سكان البلد وسط جحيم الأسعار الذي ابتلع كل مرتباتهم ودخولهم بل ومدخراتهم إلى الدرجة التي جعلتهم لا ينتبهون لأي شئ، فلا تسأل خاوي البطن عن الجمال، إنه لا يرى أمامه و لا خلفه إلا مطالب الحياة التي دائما ما يعجز عن الوفاء بها، أضف إلى ذلك هم الامتحانات القادمة والنتائج ، كان لا يتمتع بتلك المناظر إلا العاشقون والشعراء والمجانين وما أكثرهم في هذا الزمن الذي يجعل الحليم حيران.
انتهى من دورته ثم عاد إلى الشرفة يبحث عن القمر فلم يجده فازداد قلقه، وصعد إلى الدور الرابع ثم صعد إلى سطح المبنى وبحث عن القمر فلم يجده في الشرق ولا في الغرب ولا تحت السحاب فالسماء صافية كقلب العاشق بلا سحب و لا قمر، أين ذهب القمر، وهل يمكن أن يختفي هكذا دون تعليق، ماذا سيحدث لو اختفى القمر ؟ ماذا لو فلت القمر من فلكه ، أو ذهب بعيداً ، أو انشق أو تفجر وتفتت وتناثر في الفضاء، لاشك أنها مصيبة وكارثة ستحل بالأرض، ماذا سيحصل لنا وللأرض؟!  أيكون القمر قد انفلت ولن نراه بعد ذلك؟ إذا اختفى سوف تنقلب حياتنا، أيمكن أن نعيش بلا قمر، أيمكن أن تستمر الحياة بدونه، وهل خلقه الله عبثاً يستوي وجوده مع عدمه، أيعقل أن تقوم أحد الدول بخطفه أو فلنقل أسره، أيمكن أن يتم تثبيته فوق أحد الدول أو المناطق كما يحدث في أقمار الاتصالات الصناعية، أيمكن تعديل مداره ليصبح مداراً متزامنا يسير بنفس سرعة الأرض فيظل موقعه النسبي ثابتاً فوق أحد المناطق الجغرافية على الأرض، هل يمكن أن تصل الجرأة والجبروت والعلم إلى هذا الحد، وهل الأرض تحتاج إلى القمر وهل ستظل الظواهر على ما هي عليه أم أن انتقال القمر وثباته سيغير أشياء كثيرة على الأرض، هذا هو السؤال الذي دار في عقل واصابه بالحيرة، هل يمكنك أن تتخيل ليل مظلم دائم ، لا تضيء سماءه سوى النجوم ؟
إن غياب القمر لن يعني فقط إلغاء جزء كبير من خيال الشعراء، وعدد هائل من الأغاني العاطفية، وكومة متضخمة من التشبيهات البليغة، التي تصف القمر وجماله، وتربط بينه وبين وجوه الجميلات، الأمر أخطر من هذا كثيراً، فالقمر ليس مجرد تابع للأرض، وجسماً كروياً تنعكس عليه أشعة الشمس في الليل، ليتألق كقرص فضي في السماء المظلمة، إنه جزء من حياتنا .. جزء كبير ..
إن غياب القمر يعني غياب الأهلة، وفقدان أعظم وسيلة تحديد بدايات شهورنا العربية، كشـهر (رمضان ) و ( شوال ) و ( ذي القعدة ) ، سنفقد مواقيتنا الدينية، سنفقد القدرة على تحديد مواسمنا وأعيادنا، وسنفتقد أيضاً جاذبية القمر، التي تتوازن مع جاذبية الأرض، وتتسبب في حدوث ظاهرة شديدة الأهمية، بالنسبة للملاحة، ستختفي ظاهرة المد و الجزر، وسيحدث اضطراب شديد في البحار، ستعلو الأمواج وتتضارب، وتتخبَط وستختل كل القوانين الملاحية، وسترتبك الأسماك في رحلاتها البحرية، ويفقد بعضها القدرة على الهجرة من مكان إلى آخر، مثلما يفعل سمك السلمون، بل و قد يفقد الحمام الزاجل أيضاً قدرته على تحديد هدفه ، وسترتبك اليرقات، وتعجز الديدان عن تحديد مواعيد الإخصاب، كل هذا بسبب غياب القمر ..
وحتى في أفلام السينما، سيحدث خلل مضحك، فلن يكون باستطاعة البطل أن يسأل محبوبته عما إذا كانت ترى القمر، لأنه لن يكون هناك قمر، ولن يجد مخرجو أفلام الرعب مشهداً أفضل من مشهد القلعة القديمة، ذات الأبراج العالية والمخيفة، والقمر يبرز خلفها في ليلة ليلاء ، وسيفقدون واحداً من أفضل أبطالهم .. ألا وهو ( الرجل الذئب ) ، ذلك الشخص الذي يتحوَل في الليالي المقمـرة إلى ذئب، يفتـرس ضحاياه بلا رحمة، ثم يستعيد آدميته عندما يختفي القمر، ولكن من المؤكَد أن عدداً من البشر سيسعدهم غياب القمر، وبخاصة اللصوص والمجرمون، وكل من يرتكب الشرور والآثام، أو يهوى الانطواء والعزلة، أو حتى بعض محبي مراقبة النجوم، وأيضاً بالنسبة لبعض المرضى النفسانيين، سيكون غياب القمر نعمة كبيرة ، فالأبحاث تقول إن حالة هؤلاء المرضى تتأثر كثيراً بالقمر، فتنتابهم نوبات عنيفة، في الليالي التي تكتمل فيها استدارة القمر، وغيابه يعفيهم من هذه النوبات.
تذكر التاريخ الهجري وتذكر أن اليوم أول أيام الشهر العربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق