الصفحات

2012/10/01

من أحلى الأيّام.. بقلم: عبد الله لالي



من أحلى الأيّام..
بقلم عبد الله لالي
الجزائر
01...
القراءة في الطريق...
من أحلى الأيّام في حياتي تلك الأيّام التي قضيتها رفيقا للكتب، أتصفحها وأقرأها بنهم وكانت نعم الرفيق وخير الصاحب ، بل كثيرا ما كنت أشعر بالوحشة والغربة عندما أتنقل من مكان إلى آخر ولا يصحبني كتاب أو مجلّة أو حتى جريدة دسمة المادة جمّة الفائدة والنفع..
ومما أذكره في هذا المقام قراءتي لعشرات الكتب إن لم أقل مئات ..وأنا أتنقل عبر الطريق إلى أماكن عملي المختلفة وخلال مرحلة الدراسة الطويلة، قرأت كتبا كثيرة وعديدة ومتنوّعة لكن أكثرها علوقا بالذاكرة كتاب ( الأغاني ) لأبي الفرج الأصفهاني هذا الكتاب العجيب الغريب حبّبني في قراءته الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي – رحمه اللهعندما ذكر أنّه من مراجعه الكبرى في الأدب وأنّه كلما أراد الكتابة نظر فيه مدّة من الزمن حتى يستقيم له الأسلوب على نسق الأوّلين..
أذكر أنّني قرأت منه حوالي أربعة عشر مجلدا وأنا في طريقي إلى عملي بمدرسة الحوش التي تبعد عن بسكرة حوالي خمسين كيلومترا، وكنت أستغلّ مدّة الانتظار في محطة الحافلات لأقرأ ثم أواصل القراءة في الحافلة مرّة أخرى ..وكان بعض الأصدقاء والمرافقين يعجبون من انغماسي في القراءة ، ويقولون ماذا تقرأ ..؟ وماذا تستفيد من كلّ هذه القراءة ؟ فأناقشهم أحيانا واكتفي بالابتسام أحيانا أخرى حتى لا تضيع منّي دقيقة واحدة في الطريق ..لاسيما إذا كان المحاور ساخرا أو مستهزئا.. !!

02.. ...
القراءة في الطريق..
بعض الذين شاهدوني وأنا أقرأ كتاب الأغاني استغربوا الأمر، وقالوا لي: كيف تقرأ كتابا خاصا بالأغاني وأنت إنسان متدّين ( كنت حينها مرسلا لحيتي ) فابتسم لكلامهم وأقول: إنّ في هذا الكتاب من الأغاني لا يساوي عشرة بالمائة، والباقي كلّه شعر وأدب وتراجم وأخبار من أندر وأروع الأخبار الأدبيّة...ثمّ إنّ الأغاني التي فيه هي من روائع الشعر العربي الذي لا يقلّ جودة وقوّة وحسن سبك عن الشعر الجاهلي..
وقد ذكرت أنّ أوّل من لفت انتباهي إلى قراءة كتاب الأغاني ( حصلت على طبعة منه بمكتبة البلديّة من 25 مجلدا ) هو الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي وقد ذكر ذلك في بعض كتبه وتكرر منه الأمر عدّة مرّات، ولما كنت في إحدى المرّات أحمل الكتاب معي لقراءته في الطريق ( أقصد في الحافلة)، التقيت بأحد المثقفين الفضلاء وتعرّفت عليه بسبب كتاب الأغاني الذي لفت انتباهه في يدي، وكان هذا المثقف هو الشيخ العيد قديدة من مشونش ( إمام بالمسجد العتيق ومؤلف كتاب فقه الصلاة)، وقال لي لو أنّك تقرأ أيضا كتابا آخر لا يقلّ عنه أهميّة وروعة إنّه كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للممقرّي فأثار في نفسي الفضول وتطلعت إلى الحصول عليه ..

03 ...
القراءة في الطريق..
اشتهر عن الأوربيين أنّهم يقرأون في عربات ( الميترو ) وفي الحافلات، ومن ثمّ ظهر ما يسمّى بكتاب الجيب ذي الحجم الصغير والفائدة الجمّة، وقد أدهشتني هذه العادة عندهم كثيرا وقلت في نفسي: نحن أمّة اقرأ ونحن أولى بالقراءة منهم، لنحقق في أنفسنا مقتضى قوله تعالى " اقرأ.."
قلت فيما سبق أنّني قرأت حوالي أربعة عشر مجلّدا من كتاب الأغاني أثناء تنقلاتي بين عملي والبيت، وقد يستغرب بعض النّاس هذا الأمر ولكن الذين جرّبوا نهم القراءة والإدمان عليها لا يرون في ذلك أي عجب، لكن لا بأس أن أذكر أنّني كنت في عامي الأوّل في التعليم وأنّني كنت في التاسعة عشرة من العمر، وكانت رحلتي إلى عملي تستغرق ما يقارب الساعتين أحيانا آو أكثر، أغيّر خلالها الحافلة ثلاث مرّات..
كنت أنتقل بالحافلة من بلديتي شتمة ( شط الماء ) إلى مقرّ الولاية بسكرة خلال نصف ساعة تقريبا، فاستغل تلك المدّة في القراءة ثم أستقلّ الحافلة أيضا في مدّة نصف ساعة أخرى إلى دائرة سيدي عقبة، وكذلك أقضيها في القراءة وفي سيدي عقبة أبقى منتظرا سيارة لتنقلي إلى بلديّة الحوش ما بين عشرين دقيقة إلى نصف ساعة، فاتخذ لي زاوية في أحد المقاهي القريبة وأواصل القراءة، كما أقرأ في السّيارة إذا وجدت مكانا مناسبا ولم يزحم السائق السيارة براكب إضافي.. كانت رحلة عمل متعبة ولكنّها رحلة قراءة مفيدة بلا شك..وقد استمرّ معي الأمر على ذلك المنوال غالبا مدّة إحدى عشرة سنة..قرأت فيها كتاب الأغاني والكامل للمبرّد وعيون الأخبار لابن قتيبة وغيرها من عيون كتب التراث والأدب الحديث أيضا.. وسيأتي الكلام عن بعضهما وما يحفه من طرائف وأقاصيص..
ومن طرائف ما أذكره في هذا الأمر أيضا أنّني كنت مسافرا إلى العاصمة في شهر ديسمبر في بداية التسعينيات، لحضور تجمع شعبي لجمعيّة الإرشاد والإصلاح بقاعة ( حرشة ) فأخذت معي كتابين كان أحدهما لتوفيق الحكيم وقرأتهما في الطريق ( يستغرق قطع الطريق بين بسكرة والعاصمة في الحافلة أكثر من ثماني ساعات غالبا )، وكنّا في التجمع نفترش الأرض لشدّة الزحام وكثرة المشاركين، فوضعت الكتابين قريبا منّي فلما نهضت من مكاني بعد التجّمع نسيت الكتابين، ..وعندما ذكرتهما بعد ذلك قلت هنيئا لمن وقعا في يديه..
04...

القراءة في الطريق..
انتقلت في عامي الثاني بقطاع التعليم إلى بلديّة أوماش والتي تبعد عن بسكرة حوالي 20 كم، وبطبيعة الحال الانتقال إليها يستغرق زمنا قد يضيع هدرا إذا لم تستغل مسافة الطريق في قراءة مفيدة، وكان لابدّ من التزوّد لهذه الرحلة الطويلة والتي دامت أربع سنوات لابدّ من التزوّد لها بمكتبة صغيرة متنقلة كنت أحملها في محفظتي الصغيرة ، لكن في هذه الرحلة صاحبني مجموعة من الأصدقاء المثقفين، شعرت في بادئ الأمر أنّهم سيعيقونني عن القراءة التي أدمنت عليها ،غير أنّي سرعان ما اكتشفت أنّ اثنين منهم أكثر شغفا بالقراءة منّي وأنهم أشدّ حرسا على طلب العلم..
وكنّا كثيرا ما نقطع قراءاتنا بمناقشات رائعة ومتميّزة لا تزال آثارها وفوائدها عالقة بالذهن إلى اليوم ، ومن ذلك أنّ تلك المناقشات كانت سببا في ترسيخ المعلومات التي نأخذها من الكتب وإثرائها ، كما كانت سببا في قراءتنا لكثير من الكتب التي لم نطلع عليها من قبل أو لم نسمع بها أصلا..
قال لي أحد هؤلاء الأصدقاء ذات مرّة: إنّ الجنّ يصيبون الإنسان بالمسّ مسّا حقيقيا ، أيّ أنّه مسّ ماديّ..
وقد ذهب إلى هذا الرأي كثير من العلماء، لكنّني خالفته الرأي وقلت أنّ الصواب هو أنّ المسّ مسّ معنوي ( أي وسوسة ) ولا يعقل أن يكون المسّ ماديّا ولا دليل عليه من الكتاب والسنّة..
فقال الصديق الفاضل: هناك أدلة كثيرة عليه..
قلت : كلّها أدلّة ظنيّة لم يتفق على دلالتها العلماء ..ولا يوجد دليل واحد على المسّ الماديّ المباشر ، قطعي الثبوت قطعي الدلالة ..
فقال: سآتيك بكتاب يبرهن على ذلك بأدلة قاطعة ..
فقلت اتني به وعجّل ..
فوعدني أن يأتي به من الغد ..
وانتظرت أن يأتي بكتابه بشغف بالغ..

05..
القراءة في الطريق..
كتبت في الحلقة الرابعة من هذه الذكريات التلقائيّة عن أحلى الأيّام مع الكتب والتي بدأتها مع ( القراءة في الطريق ) وسأواصلها إن شاء الله تعالى..
كان صديقي المثقف جدّا والمدمن على القراءة مثلي قد وعدني أن يحضر لي كتاب الدكتور عبد الرزاق نوفل والذي هو بعنوان ( الإسلام والعلم ) ، وذلك ليقنعني أنّ الدكتور عبد الرزاق نوفل يثبت بالأدلّة القاطعة أنّ مسّ الجنّ مسّ حقيقي ( ماديّ ) ، وفعلا أحضر الكتاب وفتحه أمامي ليبحث عن الصفحة المطلوبة والتي فيها الدّليل القويّ والبرهان الواضح ، فلما وجدها وسلّمني الكتاب لأقرأ فيه - وكانت الحافلة تسير متجهة إلى أوماش نحو طريق العمل - بدأت أقرأ بإمعان إذ بي أكتشف أنّ الدكتور عبد الرزاق نوفل ينقل كلام غيره ليبطله لا ليؤيده فقلت لصديقي لقد جئتني بدليل يدعم رأيي ويدحض رأيك فاختطف منّي الكتاب ونظر فيه ..فوجد الأمر كما قلت له ، فتعجب كيف لم ينتبه لذلك ..ولكنّه ظلّ متمسكا برأيه .. وأهمّ شيء في الأمر كلّه أنّني استعرت منه الكتاب وأظنّ أنّي قرأت بعض فصوله في الحافلة ، وتشعب بنا الأمر إلى الحديث عن رأي ابن تيميّة في الموضوع وتلميذه ابن القيّم ورأي الغزالي ( المعاصر ) الذي تبنيّت أنا رأيه في الموضوع .. واكتشفنا بعد حوار طويل أنّ هذا الأمر ظلّ محلّ خلاف قرونا طويلة ولم يبت فيه برأي حاسم ..فقلنا لبعضنا كيف الوصول إلى الحق وهنا جاء دور الحديث عن أصول الاستدلال والتدليل في القرآن والسنّة ولذلك حديث طويل ( عريض )..

.. 06
القراءة في الطريق..
صارت القراءة في الطريق عادة مترسّخة عندي منذ بضعة سنوات ، وأصبحت محفظتي التي لا تكاد تفارقني تنتفخ بالكتب والمجلات والجرائد على مختلف أنواعها وكنت أقتني في اليوم الواحد عادة أكثر من جريدتين يوميتين بالإضافة إلى إحدى الأسبوعيات لاسيما الثقافيّة منها ..وكنت كثيرا ما احتار في ما أبدأ بقراءته في الحافلة أو السيّارة ، هل أبدأ بالجريدة أو المجلّة أم بالكتاب الذي أكون قد قرات منه جزءا ما ولعلّي وصلت إلى منتصفه أو شارفت على خاتمته..
كما كنت احتار كثيرا في مطالعاتي بين التعمّق أو التوسّع في الأدب أم في الإسلاميّات ، وربما قطعت كلّ تلك القراءات ولجأت إلى القراءة في التاريخ لاسيما التاريخ الإسلامي الذي كثيرا ما تسحرني فصوله وتذهلني أحداثه..
وكان الصديق الفاضل الصالح بوغفير يملك مكتبة ضخمة تحتوي الكثير من كتب التاريخ والأدب والإسلاميّات ، وكلما تشعب بنا الحوار في الحافلة او المحطة إلا ويأتي اسم مرجع من المراجع الهامة في هذه المجالات الثلاث فيقول : إنّه عندي في مكتبتي أو هو موجود في مكتبة صديقي حملاوي..
فكانت مكتبته ومكتبة حملاوي بحق ذخيرة وزادا ننهل منه كلما عسر علينا شراء كتاب أو صعب علينا إيجاده..
ولما انتقلت غلى العمل بالعاليا ( أحد أكبر أحياء بسكرة ) صعب عليّ القراءة في الطريق، لأنّ الانتقال إلى المدرسة كان على مسافة قريبة ولا يحتاج إلى حافلة ..وكانت مدّة التنقل تستغرق ما بين ربع ساعة إلى عشرين دقيقة ، وآلمني أن تضيع المدّة في المشي فقط فاهتديت إلى نوع آخر من المطالعة أو المذاكرة ، حيث كنت أدوّن بضعة أبيات شعريّة من عيون الشعر العربي القديم او الحديث ، او حديثا نبويّا شريفا ، في بطاقة صغير أضعها في جيب سترتي أو قميصي ثم أنظر فيها من حين لآخر وأنا أمشي لأحفظ ما فيها..
وربما يراني وانا أتمتم وأحرّك شفتي في الطريق بين وسط المدينة وحي العاليا مرورا بوادي سيدي زرزور يظنّ بي الظنون

07..

القراءة في المكتبات..
هناك مكتبات عامة كثيرة في الدنيا ،يرتادها القراء والباحثون من كلّ حدب وصوب، وفي بلادنا أيضا مكتبات كثيرة وعديدة تزخر بشتى أنواع الكتب والتصانيف الرائعة ، ولكنّها تكاد تكون خاوية على عروشها، ويشكو مسؤولها والقائمون عليها من هجران النّاس لها ، وقد عجبت في الأمر لهذه الظاهرة وأزعجتني غير أنّي لمّا خالطت المثقفين وخبرت أحوالهم عرفت السرّ وكشفت السبب..
فقد دخلت مكتبات عامة كثيرة وحاولت القراءة فيها لكنّ الأمر لم يدم طويلا، إذ أدركت أنّ المطالعة لا تصلح في المكتبات العامة للمثقف المدمن، إنّ المثقف يحبّ أن يأخذ الكتاب معه فيقرأه في البيت لمدّة ساعات طويلة وقد يكمل قراءته في الحافلة أو في السيّارة أو وهو ينتظر في إدارة من الإدارات أو في أيّ مكان آخر لا يشعر فيه أنّه سيسلم الكتاب إلى أصحابه دون أن يكمله بعد لحظات..
وقد أسعفني الحظ في الثمانينيات أن كلفت بالإشراف على مكتبة البلديّة في قريتنا، وكان تكليفا شفويّا، وعملا طوعيّا ليس من ورائه أي مردود ماديّ ) وكانت المكتبة عامرة بأروع وأجود الكتب ، فكأنما كانت غيثا وقع على أرض عطشى..وأخذت أقلّب هذه الكتب وأتصفحها واحدا واحدا ، وأدهشني أنّي وجدت كثيرا من هذه الكتب مازالت مختومة لم تفض بعد ، لاسيما كتب التراث منها، بحيث كانت أوراقها تطبع كلّ أربع صفحات ملتصقة بالرأس مع بعض ، فجعلت كلما راقني كتاب قطعت هذه الصفحات من أعلى بواسطة حرف مسطرة مسطحة، حتى أتمكن من قراءته ..

08  ..

القراءة في المكتبات..
وأذكر أنّ من بين الكتب التي وجدتها مختومة بهذه الطريقة ، كتاب الكامل للمبرّد وهو مطبوع طباعة مصريّة في ورق شبه صقيل في أربعة أجزاء، كلّ جزء منه يتجاوز الثلاثمائة صفحة، ولم أصبر لأفتحها جميعا فكنت آخذ كلّ مرّة أحد هذه الأجزاء وأفتح الصفحات الأولى، حتى إذا انتهيت من قراءتها فتحت التي بعدها..إلى أنهيت قراءتها جميعا وقد اكتشفت في المبرّد لغويّا وأديبا رائعا، وأذكر أنّه كانت تبث في الفترة نفسها تقريبا حصّة عراقيّة في القناة الوطنيّة لتعليم اللغة العربيّة على شكل مسلسل شبه هزلي، وذكر فيها المبرّد مرّة في حديث دار بين رجل وامرأة قرب برميل، فسأل أحدهما الآخر: هل هو المبرّد بفتح الرّاء أم المبرّد بكسر الراء..؟
فخرج من داخل البرميل المبرّد وقال بغضب:
- لعن الله من برّدني..
أي أنّه المبرّد بكسر الراء لا بفتحها، وهي مسألة خلافيّة بين المترجمين لأعلام اللغة..
ومن الكتب الأخرى التي كانت لي معه حكاية طريفة، وفككت صفحاته المختومة أو الملتصقة ببعض كتاب ( رسالة الغفران ) لأبي العلاء المعرّي من تحقيق بنت الشاطئ ( عائشة عبد الرحمن )، وكنت أظنّها لما سمعت اسمها أوّل مرّة فتاة مغرورة من أدعياء الأدب والمتطفلين عليه، لاسيما لما علمت أنّها من تلاميذ العقاد ، وكنت أجد في نفسي على العقاد وأميل إلى الرافعي وأناصره عليه ولم أعاصرهما ولا عشت في زمنهما..
وإذا بي أكتشف أنها عملاقة من عمالقة الأدب واللغة، وأنّها أستاذة كبيرة وأديبة طبقت شهرتها الآفاق ، وقرّرت أن أقرأ هذا الكتاب ( رسالة الغفران ) الذي سمعت أنّ دانتي الإيطالي سرقه منه وكتب الكميديا الإلهيّة...

09 ..
القراءة في المكتابات..
رسالة الغفران:
طبعا دانتي لم يكن وحده من فعل ذلك، بل كثير من علماء الغرب سطا على تراثنا العلمي والفكري بليل ونسبه إليه، المهمّ أنّني حملت معي الكتاب الضخم الذي يزيد عن خمسمائة صفحة، وبدأت في فصل صفحاته الملتصقة كان متن الكتاب ( رسالة الغفران ) ربما لا يزيد عن مئة صفحة أما بقيّة الصفحات الأخرى الأربعمائة أو أكثر فقد كانت عبارة هوامش للدكتورة عائشة عبد الرحمن..
والحق يقال أنّني استفدت من هوامش بنت الشاطئ أكثر من استفادة من رسالة الغفران نفسها، إذ كانت الهوامش دسمة غنيّة بالمعلومات والطرائف الأدبيّة والنوادر اللغويّة والتحقيقات الهامّة، غير أنّي تعبت في قراءته أيّما تعب وكنت أحيانا أقرأ في الليل فأجدني قد غفوت وعيناي مفتحتان، فأمر بعدّة أسطر أقرأها آليّا دون أن أستوعب ما فيها، فأعيد قراءتها من جديد..ولم أتمكن من قراءة الكتاب كاملا وبشكل متفحص إلا بعد ما يقارب العام الكامل، ولكن كنت أقطع قراءتي له بقراءات أخرى..
والطريف في الأمر أنّ مرتادي مكتبة البلديّة كان مصابا بمرض عصبي، فجاءني ذات يوم وقال لي أريد استعارة رسالة الغفران، فأدهشني طلبه وخشيت أن يضيع هذا الكنز الثمين وهو عنده ، فاعتذرت إليه بلطف وطلبت منه أن يختار كتابا آخر أكثر سهولة وأعظم فائدة بالنسبة له، فخرج وقد ظهر السخط في وجهه..
وبعد مدّة من الزمن بينما كنت عائدا إلى البيت مع أحد الأصدقاء، وكان الوقت متأخرا صرخ بأعلى صوته في هدأة الليل:
-       يزعمون أنهم متدينون ويبخلون علينا بـ ( رسالة الغفران )..
فعجب صاحبي مما سمع وكذلك أنا ولكنّي شرحت الأمر له يتضح ما خفي عليه، والأعجب أنّ الكتاب اختفى من رفوف المكتبة ولم نعثر له على أثر..
10 ..
مكتبة البلديّة..
كانت مكتبة البلديّة لما دخلتها أوّل مرّة زاخرة بالكتب، عامرة بشتى أنواع المؤلفات والتصانيف..لكنّها كانت كلّها مبعثرة يغطيها التراب ويعلوها نسيج العنكبوت، فبدأت بإزالة كلّ ذلك عنها وترتيبها بمساعدة بعض الأصدقاء ..وأقبل بعض المثقفين يختارون منها ما يروقهم لا لكي يقرؤونه في المكتبة بل يستعيرون تلك الكتب لقراءتها في بيوتهم...
وكنت أجد صعوبة في استعادة تلك الكتب، وكثيرا ما يتلكأ أصحابها عن إرجاعها وصعب عليّ أن أتخذ منهم موقفا حازما لأنّنا كلنا كنّا أبناء قرية واحدة، ونتعامل بالعواطف فضاعت بذلك كتب كثيرة سواء في الفترة التي كنت مسؤولا فيها على المكتبة أو الفترة التي كانت قبلها أو بعدها، وشركني في المسؤوليّة أشخاص آخرون ينوبون عنّي إذا غبت..وكان التكليف كلّه سواء لي أو لغيري تكليفا شفويّا ليس بشكل رسمي ولا قانوني..وهذا سبب ثان جعلني لا أستطيع أن أكون حازما في متابعة إعارة الكتب..
ومن كنوز هذه المكتبة التي نهلت منها كثيرا وشكلت جزءا هاما من ثقافتي الذاتية، كتاب ( عيون الأخبار ) لابن قتيبة و( الأغاني ) للأصفهاني، ومعظم كتب العقاد وتوفيق الحكيم والكثير من كتب مصطفى صادق الرافعي، الذي سحرت بكتبه أيّما سحر لاسيما ( وحي القلم ) هذا الكتاب الذي كنت أقرأ فيه أيّام الامتحانات منصرفا عنها غير عابئ بها، وقد أضعت بذلك القليل وربحت الكثير الكثير جدّا ..من قوّة اللغة وجودة الأسلوب، والثروة اللغويّة التي أفادتني كثيرا في فنّ الخطابة، حيث انخرطت في تلك الفترة وأنا ما أزال شابا في تقديم بعض الدروس المسجديّة..
كما وجدت في المكتبة قصص محمود تيمور فأتيت عليها كلّها قراءة، كما وجدت بعض الكتب المترجمة فقرأت بعضها مثل كتاب ( اللامنتمي ) لـ كولن ولسن وكتاب الأمّ لماكسيم غوركي، وقرأت أيضا بعض القصص بالفرنسيّة بصعوبة بالغة، لأنّني كنت ضعيفا جدّا في الفرنسيّة إلى أن صارت لغتي الفرنسيّة متوسطة ، بعد شيء من الجهد والمثابرة..
وكنت على كلّ حال إذا دخلت المكتبة سهوت عن كلّ شيء عداها، وشعرت برغبة عارمة في قراءة كلّ ما فيها في أقصر مدّة ممكنة..لكنّ ذلك لم يحصل أبدا كما تمنّيته وتلك قصّة أخرى سأذكرها حين يأتي أوانها.. 
يتبــــــع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق