لماذا قبلت ؟
فؤاد قنديل
وصلت إلى القرية التي
قيل إن أهله فيها
صاحبني منذ تركت
الطريق المسرعة نهر صغير
تحرسه لمسافات بعيدة
أشجار الكافور والتوت والجميز
النهر الطيب يمضي
بوداعة حاملا مياهه الجارية من قرية إلى قرية
يسقي الحقول .. تغترف
منه الموتورات والطنابير والشواديف
تقفز المياه
الضاحكة في قنوات صغيرة .
تسرع مثل تلاميذ صغار
يغادرون المدرسة بعد انتهاء اليوم
ظهرت من بعيد البيوت
الطينية المعروشة بحطب القطن والذرة
أبراج
الحمام ومئذنة المسجد
البيوت الجديدة
المبنية بالطوب الأحمر تقف بثقة على تخوم الحقول
لا تعبأ
بالبيوت القديمة المنكفئة .
قبل الجسر الحديدي
المفضي إلى القرية .. توقفت
لم أستطع أن أواصل
المسير حتى لا يفلت من عيوني المشهد الريفي
مشهد له حلاوة الفطير
المشلتت وحصاد القمح والشاعر يشنف الآذان بالسيرة الشعبية
مشهد له طعم
اللبن الحليب والسرسوب وميلاد العجول والنعاج الصغيرة والعيش السخن
مشهد له بساطة
الفلاحين وطيبتهم وجز فروة الخرفان وزغاريد الأفراح وطهور الصغار وولائم الأعياد ،
وذبح الخراف تلبية للنذور يوم تلد الزوجة أو ينجح الولد أو يطلع الجد للحج.
حاولت أن أتوارى خلف
شجرة عريضة الجذع بالقرب من طلمبة مياه ومصلى صغير مفروش بالقش والحصر
النسوة في النهر
بالقرب من الشاطئ يغسلن الأواني
ارتفعت ذيول الأثواب
إلى ما فوق الركب
لم يترك الماء من
الأفخاذ إلا القليل.. لحم مكتنز عفيّ ومضيء
يتبادل البنات
المشاكسة بالماء فيضحكن ضحكا بريئا
بعض الأيدي تعمل في فك
ضفائر الشعر الفاحم الطويل
أخريات ينحنين
وينهمكن في دعك الأواني بالطين ولوف النخيل
تتدلي فواكه الصدور
على الشطآن
عندما يرفعن
رؤوسهن وينثرن الشعر المتهدل تبدو الخدود أكثر توردا من فرط الانحناء والجهد
، وتتجلى عرامة الرقبة الزبدية وما تحتها ..
أحدق في الأبدان التي
بللها الماء فتحددت معالمها
يركض الخيال بأعماقي
كجواد بري متمرد ليس له صاحب.
يهمسن
بحديث سري وتتقارب قليلا الآذان ثم تنفجرن ضاحكات وتتبادلن قذف الماء
إلى
متى سأظل مصلوبا خلف الشجرة معلقا من شهوتي
العين
لا تشبع
أسترق
النظر إلي ما يطل من لحم البنات المشبوب الذي يستنيم باستمتاع لمداعبة
المياه
غير
البريئة .
الحذاء
الأسود الثقيل مثبت في الأرض بمسامير لا تسمح لي أن أغادر كي أنهي المهمة
شبح
طويل كالرمح يشق الفضاء من بعيد .. أسمع صوت ضربات الخيزرانة المنتظمة على
جلبابه في إيقاع متزامن مع كل خطوة
أسرع
بالخروج من مكمني المشين .
أنحني
على حذائي كأني أثبت أربطته
اعتدلت
وهندمت البدلة الميري
أظهرت
الأشرطة الثلاثة وهي في الجيش رتبة يعتد بها
يدي
قابضة على المظروف الأصفر الكبير
تقدمت
من الشاب الطويل القادم وسألته عن : سلامة أحمد رضوان البدري
ربما
تتاح فرصة أخرى عند عودتي لإلقاء نظرة على الصبايا
لفتت
نظري البنت ذات الشامة على ذقنها التي وفدت بعدهن
يلم
شعرها منديل أزرق موشى بالترتر
وقفت
تحكم ذيل ثيابها حول خصرها .. كان عمودا الرخام بالكامل في نن عيني
هبطت
حذرة إلى الماء .. ابتسمت لإحساسها الوليد والمباغت ببرودة الماء
هي من
تصلح زوجة لي بحق وترضى عنها أمي .
كيف
السبيل إليها وأنا ضيف عابر ؟
توجهت
إلى بيت سلامة وأنا أعيد صياغة ملامحي لتناسب الحالة ..
عليّ
أن أقدم رجلا وأؤخر أخرى .. موقف صعب جدا
لماذا
قبلت هذه المهمة ؟
يجب
ألا أدخل مهما ألحّوا
كلمات
قليلة أسقطها عند الباب وأرتد عائدا بأقصى سرعة .
-
أنا في غاية الأسف .. قائد الكتيبة وكل الكتيبة في شديد الأسف
..
البطل سلامة شرّف مصر ، واقتحم الموقع الحصين ودمره .. كلنا لابد نفخ ..
قاطعه
الرجل الكبير الذي تهيأ لمصيبة : المقصود يا بني
-
الشهيد سلامة
-
دوت من داخل الدار وغرفها ومن كل مكان فيها الصرخات .انهارت الأم والأخوات
وأوشكت الجدران
احتقن
وجه الأب وتبدلت على صفحته الألوان ..سالت دموعه وإن حاول حبسها أمام
الغريب .
سلمته
بسرعة المظروف.. أحسست بتفجر دموعي الساخنة .
أصبح
المشهد بكامله ضبابيا وصاخبا ومفرمة للقلوب
لم
أستطع البقاء لحظة
ركضت
عائدا والدموع لا تتوقف والجسم ينتفض .. كأن سلامة يفارق الحياة الآن فقط
لا أرى
ولا أسمع .. الدنيا سوداء من الأرض إلى السماء
أتعثر
في حذائي الأسود الذي زاد ثقله
لماذا قبلت ؟ .. لماذا؟؟؟ ..
|
طرح مميز.. دمتم موفقين
ردحذفumzug
umzug wien
umzug wien