الصفحات

2012/10/12

( فضاءات مدينة ) و ...المكان الرابض بداخلنا بقلم / ياسر محمود محمد



 ( فضاءات مدينة ) و ...
            المكان الرابض بداخلنا
بقلم / ياسر محمود محمد
كاتب و باحث من محافظة السويس
_____________________________________________
دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل ما تَشَـــاءُ = وَ طِبْ نَفْسًا إِذّا حَكَمَ الْقَضَـاءُ
وَ لاَ تَجْزَعْ لِحَادِثَةِ اللَّيَالِي = فَمَــا لِحَــوَادِثِ الـــدُّنْيَا بَقَــاءُ
من أشعار الإمام الشافعي
الرواية صــ10ـــ
-(تصدير ٌ)-
       صدرتْ رواية " فضاءات مدينة " للدكتور / رضا صالح ، الأديب السويسي ، في أغسطس عام2010 ، في نحو مائتين و خمسين صفحة من القطع الصغير ... عن (سلسلة إبداعات) ، و هي سلسلة أصبح هناك أخيرًا تغييرًا في شكلها و ألوان طباعتها كسمة للتطور في ألوان الطباعة .
أما الغلاف فتصميم " فكري يونس " حيث اللون الأزرق هو الغالب على غلافها مع فلاش     ( لمعة ) ضوء أبيض بارتعاشات سريالية و شكل غير مميز لمدينة صناعية جديدة ذات أبنية عالية تشق عنان السماء الغائمة خلف الغيوم .
و قد صدرت للكاتب قبل الرواية مجموعة قصصية بعنوان " آه منها " كما نشر قصصه في عدد من الدوريات .
***
كتابة المكان تميز بها العديد من الروائيين .. و المكان يختلف باختلاف موقعه ... " نجيب محفوظ " – على سبيل المثال – في أكثر من رواية يتشعب المكان بأبطاله ... و يسير في منحى قصة فريدة لكل فردٍ معه في زمن مختلف ، و المثال الأبرز على ذلك " أولاد حارتنا " التي يرقد الجبلاوي في نهايتها .
و إذا كانت آفة حارتنا النسيان في " أولاد حارتنا " ، فإن العكس هو الحاصل في " فضاءات مدينة " – الرواية التي نحن بصددها لرضا صالح - ؛ فمدينة رضا صالح ميزتها هي أنها ذكرى أبدية بداخلنا .
فالسويس التي يتحدث عنها " رضا صالح " كامنة بداخل الأبطال منذ بداية الرواية أثناء الحرب العالمية الثانية هاجر أبو اليسر – جد البطل – إلى القاهرة من مدينته السويس لكنه يعود ليشتري مخبزًا في المدينة الساحلية الهادئة مع نهاية الحرب ... و من هنا تبدأ رحلته ، رحلة البطل " صادق ماجد أبو اليسر " ، و أخيه البطل الضد " نادر " في السويس حيث يمثل " صادق " قيم الخير و الشرف في مقابل " نادر " الذي طغت عليه الحياة و ماديات العصر فينتهي الأمر باستيلائه على ميراث إخوته و تنكّره لهم .
رحلة المكان و فضاءاته و بوحه تبدأ منذ أول القصة إلى نهايتها و معها رحلة بوح البطل.
و إذا كان أبطال " نجيب محفوظ " لا ينسون المكان و إنما تطغى عليه شخصياتهم بنبابيتهم الغليظة و نسائهم المكتنزات ، فأن أبطال " رضا صالح " يعيشون في المكان و بالمكان ، حتى ليبدو المكان و كأنه سرٌّ غامضٌ رابضٌ بداخلنا يظل يتأمله البطل و يتأمل احواله و التغيرات التي مرت و تمر به من أوّل الرواية إلى آخرها .
فها هي السويس تبــــدأ من جـــديدٍ مع " صــــادقٍ " من المرحلة  الإعدادية  حيث النكسة ، و " صادق " على عتبتات البلوغ ( لاحظ توقيتات الأحداث و مراحل العمر لدى البطل ) .
يقف " صادق " ( بالجانب الشرقي حيث شارع و ميدان النمسا ، و موقف سيارات الأجرة و الحناطير ، تتوسط الميدان من مكتب الصحة العتيق ، على الناصية بالجانب الغربي من المدينة يواجه بازارا الهندي )                                                                 الرواية صــــ17ــــ .
إن البطل الحقيقي في رواية " رضا صالح " هو السويس و فضاءاتها ... السويس التي كانت لا تتجاوز جزءً صغيرًا من مساحتها الحالية ... بينما في نهاية القصة / بوح البطل تتجاوز الأمكنة لتمتلأ تلك الفضاءات باتجاه طريق ( السويس – القاهرة ) و في أنحاء أخرى .
و يظل المكان مع البطل في رحلته إلى السعودية بلاد النفط ، فيأخذ الكاتب بتقنية لا تخل بالبناء خطًّا سرديًا جديدًا مستخدمًا أسلوب الرسائل ، و بالتحديد سنة 1986 ، و حيــث يـــكــــتب عقد السفر في سفـــارة بــــــــاكـــســـتـــان لأن العلاقات السياسية متوترة مع السعودية على خلفية " كامب ديفيد 1976 " !
أما عن المكان فهو يبرز بداخلنا من خلال الأحداث هو ( الآخر في روحنا ) ، قد ينتقل الجسد إلاّ أن الروح تظل مع المكان بكل أحداثه كذلك يظل العقل شاردًا يفكر في كل تلك الأحداث التي تنمو مع و داخل و حول المكان .
و بواسطة الرسائل يستخدم الكاتب أسلوب الكولاج عبر عدة مقتطعات من جرائد مصرية و إقليمية ( سويسية ) ليعطينا الكاتب إطروحات عن انعكاس أحداث الوطن – حتى و إن بدت صعيرة و منعزلة عن السياق – على المكان قد تبدو الأحداث ضخمة مثل معاهدة السلام إلى الإنفتاح بل و الأزمة الاقتصادية التي قد تتجسد في أخبار تافهة لغير المنتمين للمكان .
( قرأتُ تحذيرا فحواه .. إن مكالمة التليفون ستكون ست دقائق من أول يوليو 1999 بعد أن كانت فقط بعشرة قروش و المدة غير محددة ! كذلك فإن اللالي لاعب السويس الشهير أيام الستينات توفى بعد أن فقد بصره و عاش فقيرًا ، و سيارة أوبل عملت حادثا شهيرا على أحد الكباري بالقاهرة.... ) ( واسمع هذا الخبر زوج يتصالح مع زوجته اللعوب بعد أن تأكد من خيانتها له ؛ خوفًا على مستقبل أبنائه ... ) .                                                  الرواية صـــــ164 ، 165ـــ .
كان هذا من ضمن ما أرسله الشيخ " سامي " المعادل الصوفي لروح البطل إلى صادق تأملاً في أحداث الوطن .
***
يعود " صادق " من السعودية بعد وفاة زوجته و أم أولاده " فضيلة التهامي " ، و بعد ضياع " شروق " حبيبته ( لاحظ أيضًا دلالة الأسماء و توقيتتات ظهورها و اختفائها في الرواية حيث لها مغزًى مهم ) .
عاد " صادق " ليفاجئ بواقعٍ جديدٍ غير الواقع الذي كان يامل أن يكون مشابهًا لواقع المدينة في حرب أكتوبر و دور أبنائها في المقاومة الشعبية ، بل ربما ينعكس حال محافظته الصغيرة على الوطن الممتد خارجه ، و لم يتموسق مع الوطن / المكان الرابض بداخله . عــــاد ليجـــد " كمــال " و " عارف وردة " شخصيات وصولية تتبع مبدأ يمقته و يسجل عليه عواره الشديد ، مبدأ (( الغاية تبرر الوسيلة )) ذلك المبدأ ( الميكافيللي ) الشهير ، و لا غاية عند أصحابه سوى المال و المال فقط حيث الطريق لكل شيء ، و عبره يتم تجاوز كل قيمة .
عاد " صادق " و " الصدق " ديدنه ليجد " الفضيلة " التي ماتت بداخلنا و طغت على أصالة المكان ، و يتشظى الواقع المؤلم عند عودة البطل ليتأمل في المدينة التي تفرعت و نمت فلم تعد تلك المدينة الصغيرة بل ظهرت فيها سمات جديدة و أخلاقيات الزحام التي هــي غريبة عليها مثل اسمها " بلد الغريب " ، لكن ما يعوضه عن ذلك هو المكان الذي ينمو و تتفرع شجرته بداخله ؛ فالمدينة الآن تتماهى مع امتداد و تقدم الزمن كملمحٍ أساسيٍّ من طبيعة تلك المدهشة دائمًا / الحياة .
المدينة الآن تضم " الإيمان " و " العبور " و " الصبّاح " و " فيصل " على طريق مصر القديم ( و في نفس الناحية الشرقية ، و على طريق القاهرة الجديد تم إنشاء أحياء " 24أكتوبر " و " الأمل " و " مدينة مبارك " ، أما في الناحية الغربية من الطريق فيوجد " حي السلام " رقم 2 ، كما تم بناء مدن "التـوفــيــق " و الفردوس " )  .                               الرواية صـــــ180ـــ .
و يا ليت الســــويـــــس تعيش بنفس معاني أسماء مدنها الصغيرة !!! هل كنتَ تتمنى ذلك يا " صادق " ؟ سؤالٌ أسأله أنا بالنيابة عن الكاتب .
***
من خلال أسئلة وجودية عديدة باعثها الأول المكان بقيمه و أصالته التي كانت موئل الجميع و التي تآكلت قليلاً شجرته من جذعها حيث نخر سوس الفساد و الوصولية في أهم فرع من الشجرة و هو فرع الطبقة الوسطى ليتبوأ مكانها أفراد من البورجوازيين تحت عباءةٍ رأسمالية أقل  .
و يعيش البطل أحداث الحياة العادية في مراحله المختلفة / المكان ، و تنتهي الرواية نهاية منطقية حيث يلقي البعض جزاءه الذي يستحقه من خلال بذور بذرها لنبتة عقيم لا تجدي نفعًا في الدنيا و الآخرة .
و في يوم شتوي من عام 2005 كانت النهاية الحقيقية للرواية شبه الوثائقية للسويس و الوطن ... حيث كارثة الباخرة " السلام 98 " التي غرقت إلى قاع البحر الاحمر و معها ورقة التوت التي غطت زيف و خواء البعض ، و يستغرق الكاتب في وصف آلام الشخصيات المختلفة ( النبيلة و الضد ) حول ذلك الحدث .
تدور الحياة دورتها المألوفة لنا كبشر حيث يشعر " صادق "  بوجوب الاعتذار للمدينة حيث لم يبح – و معه الراوي العليم الذي نظن مجرد ظن أنه الكاتب – لم يبح " صادق " إلا بجزءٍ صغيرٍ من الحقيقة .
و يختم الكاتب روايته بذلك الحلم الصوفي (( و التصوف جانبٌ مهم في المرحلة المتأخرة للبطل )) حيث :
( تعلق بصره بتلك الطيور الهائمة في الفضاء و هي تتبارى ، فرقة باليه تقوم باستعراض رائع لقدرتها على العلو و السمو ) إلى أن يقول ( استمر محدقًا فيها .. و هي تبتعد في السماء رويدًا رويدًا .. حتى اختفت تمامًا وراء ذلك الأفق البعيد )   .                      نهاية الرواية صـــ224ـــ .
-(خاتمةٌ)-
ربما توارى " رضا صالح " في الظل حيث يرقد بعيدًا في مدينته الهادئة و التي ربما لم تعد هادئة ، يجلس في مكتبه في عيادته التي هي في مبني من أقدم مباني المدينة و تحتل نصف عيادته مكتبته الزاخرة بالكتب من كل الأنواع .
و هذه المحاولة الانطباعية لروايته ما هي إلا رؤية له و للسويس و شخصياتها في  روايته و بالتالي للوطن و جرحه النازف داخلنا .
و ها أنا ذا أوثق بشهادتي تلك لكاتب تنبأ له الكثيرون باحتلال الصدارة في موكب أدباء مصر المحروسة دائمًا بقيم المكان في داخل كتابها .

 

هناك تعليق واحد: