انتكاسة
القصة الفائزة بأحد مراكز في مسابقة القصة القصيرة " مكتبة الإسكندرية
"
ناصر خليل
ظله يحاول ألا يسير خلفه ,يحاول أن يضع نهاية لتلك
الرابطة الأزلية بينهما 0 لم تكن المرة
الأولي للتمرد فلقد كانت المحاولات كثيرة,يلازمه
ليل نهار , لقد سئم من أم يجرجره خلفه أينما سار يتوارى عن الأنظار لكن الشمس
تفضحه أكثر وتظهره للناس وتظهر ضعفه وتفضح عبوديته لهذا الكائن وهذا ما يؤلمه أشد الإيلام , يتدحرج علي
الأرض النظيفة أو الموحلة أو القائظة
دائماً والكائن بمنأى عن كل هذا ولا يعيره
انتباهاً 0
يتمني يوماً أن يتبادل
معه موقعه فيصير هو الكائن ويصير الكائن هو ليقرأ تعبيرات وجهه وينظر في عينيه
حينما يكتشف الكائن أن ظله فارقه إلي الأبد
إنه مشوق ليري تلك النظرة في عينيه
0 لحظات الحرية معدومة في حياته فهو لم يتجول يوما ً بدون الكائن ,لا يستطيع
الابتعاد عنه لو لسنتمتر واحد , إنه
يشهد كل جزء في حياته أفعاله
الخيرة ونزواته النزقة في صمت تام 0
جاءت لحظة التمرد حين ترك الكائن ممداً في سريره ووجه محمر ودرجة حرارته عالية وجسده لا يقو علي
النهوض ,خرج إلي الشارع و مرت عليه نسمات رائقة فابتسم لأول مرة يخرج وحيدا ً بعد
أن تخلص من تبعية الكائن 0 الشارع كعادته في هذا الوقت من الصباح يئن من كثرة
الأقدام المهرولة لتستقل أتوبيسا ًأو
تاكسيأ أو ميكروباصاً لتدرك أعمالها إلا هو فلقد كان يمشي بتؤدة فلم يكن ثمة شيئاً
يلح عليه في الإسراع , لقد كان سعيداً وهو
يري الظلال في تبعية أصحابها وهي لا تستطيع الفكاك منهم ,لقد استولت عليهم الدهشة تماماً حين رأوه حتى أن بعضهم سخروا منه وجاهروا بضحكاتهم
والآخرون أمطروه بنظرات الحقد لكنه لم يأبه
يكفيه شعوره بالحرية والسعادة0
فكر في أن يذهب إلي
مكان جديد لم يرتاده الكائن ولكنه وجد نفسه محشوراً في نفس الأتوبيس الذي يستقله
الكائن ,لكم كان الجو خانقاً ككل مرة ! ما
الذي دفعه إلي هذا ؟
دخل المكتب وألقي التحية عليهم فلم يرد أحد لم يتردد طويلا
ً وجلس في مكتبه إنه يعرفهم جيداً فهم مملون ودائماً يتحاشون الكائن , حتى إنه سمع
ظلالهم تشكو منهم ومن قسوتهم 0
أحس بالاختناق وأن
شيئاً ما يضغط علي جسده الهش الشفاف ,فقرر الانصراف علي الفور 0
وجد نفسه واقفاً في نفس المقهى الذي كان يرتاده الكائن
وجلس في نفس المكان وبنفس نبرات الصوت طلب
شاياً وشيشةًً , حاول أن يتحدث مع الشخص الذي بجواره ولكنه لم يتفوه بكلمة واحدة
,لقد رأي ظله كان يعاني أشد المعاناة وكان كصاحبه صائم عن الكلام 0
كان "القهوجي
" يمر بين المقاعد حاملاً الصينية
وبها طلبات مرتادي المقهي ولكنه لم يتوقف
أمام منضدته ولم يأت بالطلبات التي طلبها ,فصرخ في وجهه ,الغريب لم يتوقف أحد عن
الحركة أو أبدي انزعاجا ً من صرخته ,
" القهوجي لم يتوقف هو الآخر كأنه أصم أو أعمي 0 لم يطق البقاء أكثر من هذا
فانصرف حانقا ً 0
انتصف النهار
والشمس تعذب كل من بالشارع بسياط
لهيبها المتتالية ولقد فعلت فعلها بجسده
الشفاف الواهن, الظلال تهرول خلف أصحابها
لتهرب من أسر الشمس الحارقة 0
كان ما يشغله أكبر من
هذا إنه السؤال الذي يضيق الدائرة حول رقبته أين يذهب ؟؟؟
وجد نفسه أمام شقتها
" عنايات " التي اعتاد الكائن زيارتها ليلهو معها مثل غيره من الرجال
0لقد كانت لحظات جميلة تلك التي قضاها مع الكائن داخل تلك الشقة 0أمام الباب أكياس
من الخضر والفاكهة ,هو لا يتذكر أنه ضغط علي زر الجرس فانفتح الباب وخلفه "عنايات
" بشعرها المسترسل والمنسدل علي نحرها البلوري وصدرها الرجراج كل شيء في جسدها كان طرياً وشهياً , عيناها
تختزنان لؤم ومكر بنات حواء 0
أرتمي في أحضانها ولكنها مالت بجسدها والتقطت الأكياس ثم أغلقت الباب كأنها لن تنتبه لوجوده , اعتلي وجه وجوم وشعر بخيبة أمل 0 ظل واقفا ً في الصالة وهي
تتجه إلي المطبخ كم كانت مؤخرتها لدنة
وتتناغم في الصعود والهبوط كأنها في سيفمونية موسيقية جميلة , نادي عليها بصوت
متهدج مملوء برغبة محمومة في الاستمتاع بهذا الجسد ,كانت جيوش من
النمل تسعي داخل جسده تنهش بلا رحمة 0 فكر للحظات أنها تتمنع عليه فتلك عادة
الجميلات ليرضين شبقهن الأنثوي أنها حتماً ستدعوه لفراشها حينما تعود من المطبخ
وتعتذر إليه وتأخذه في أحضانها وتنسيه كل شيء 0 حينما عادت إلي غرفة نومها لم
تدعوه ,كان ظلها والذي يبدو سعيدا ً
برفقتها رمقه بنظرة لئيمة وابتسم في خبث ثم تواري مع رفيقته , ملأ الغيظ
قلبه فترك شقتها , تهالك علي السلالم
كعاشق أمضي ليلته في إرواء جميلة لا تعرف الارتواء ولكنه كان تهالك الخائب واليأس
0
ظل يتسكع في الشوارع لا يقصد مكاناً بعينه ,ترك نفسه للطرقات تسيره
كيفما تشاء وأخيراً وجد نفسه أمام الكائن المستلقي علي سريره نائما ً , ألقي بنفسه
بجواره مستكينا ً فلقد ناله تعب شديد ثوان
وكان النوم يزحف علي كل شبر في جسده 0
في الصباح الباكر خرج الكائن إلي الشارع ,كان ظله يتبعه مبتسما ً
في هدوء 0
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق