الصفحات

2012/12/23

إشكالية القيادة في الثورة الجزائريّة ( الولاية الأولى نوذجا ) بقلم: عبد الله لالي


إشكالية القيادة في الثورة الجزائريّة
( الولاية الأولى نوذجا )
     بقلم: عبد الله لالي
وقع بيدي منذ حوالي سنتين كتاب لا يقدّر بثمن، وكان الذي دلّني عليه هو الصديق العزيز الصالح بوغفيري، وهو من نخبة الأصدقاء المدمنين على المطالعة والقراءة بشكل رهيب، قال لي هناك كتاب مدهش ومحيّر يتحدّث عن الصراعات السياسيّة التي وقعت أثناء الثورة، ويذكر فيها تفاصيل دقيقة لم يسبق أن ذكرها أحد من قلبه..
قلت ما اسم الكتاب ومن مؤلفه ؟ فقال لي أنّ الكتاب عنوانه ( إشكالية القيادة في الثورة الجزائريّة، الولاية الأولى نموذجا ) أمّا مؤلفه فهو محمّد زروال والكتاب موجود عندنا بمكتبة الجمعيّة ( يقصد الجمعيّة الخلدونيّة للأبحاث والدّراسات التاريخيّة )، وعلّق على الكتاب قائلا: لقد قرأته في الصيف الماضي ومنذ فتحت صفحته الأولى لم أستطع التوقف حتى أنهيته رغم أنّه كتاب ضخم..
وذهبت إلى مكتبة الجمعيّة واستعرت الكتاب، كان الكتاب ضخما بالفعل 596 صفحة، ولم يعد لديّ الطاقة القديمة ولا الوقت الذي يمكنني من قراءة الأسفار، أنا لا أعرف الكاتب ومن الصعب أن أغامر بوقت ثمين في قراءة كتاب لست متأكدا من فائدته، لكنّ تزكية الصديق الصالح له جعلتني أقدم ولا أحجم وأغامر ولا أتردّد..
بدأت بالقسم الأوّل ووجدته طويلا نسبيّا وكأنّه المدخل للدراسة إذ يقدّم فيه نبذة مختصرة عن (إشكالية القيادة أثناء الثورة، احتل ما يقارب السبعين صفحة، فأردت تخطيه ولكن ليس من عادتي فعل ذلك، فصبرت على قراءة الصفحات الأولى فوجدت الرّجل يكتب بفكر ثاقب وتحليل مفكر متمرّس – وإن لم يكن مشهورا جدّا – فتوقفت وذهبت إلى صفحة الغلاف الأخيرة وقرأت التعريف بالكاتب، كان محمّد زروال مجاهدا شارك في الثورة التحريريّة المباركة ثمّ استطاع بعد الاستقلال أن يواصل دراساته الجامعيّة ويصبح أستاذا في الجامعة..
ومن ثمة عرفت السرّ في روعة الكتاب إنّه من إنجاز رجل أكاديمي جمع بين الحسنيين؛ الجهاد في الثورة والمكانة العلميّة المرموقة بجدارة واستحقاق ولذلك كانت بداية الكتاب بداية باحث متخصّص يستخلص السنن والقوانين الاجتماعيّة والسياسيّة من أحداث ثورة عايشها بكلّ جوارحه، وكان موضوعيّا في إطلاق الأحكام على حوادثها إلى أبعد الحدود المتوقعة.
لم يبد الأستاذ محمّد زروال انحيازه لأيّ طرف من الأطراف الفاعلة في الثورة، غير الطرف الذي أجمعت عليه جماهير الشعب الجزائري وحضي بقبول معظم أفراد الأمّة، كانت القداسة الوحيدة هي للجهاد الشعبي، وللثورة عموما هذه الثورة التي ابتدأت بكلمة الله متوكلة عليه وراجية نصرته، وانتصرت بسبب إخلاص أبنائها البسطاء وصدق نيّتهم، وتضحياتهم غير المحدودة..
طرح الأستاذ محمّد زروال إشكالية القيادة وقال أنّها انتهت إلى قيادة جماعيّة، بسبب ما أحدثته زعامة مصالي الحاج من انشقاق وصراعات داخل جماعة الحركة الوطنيّة، والقيادة الجماعيّة من هذا المنطلق كانت قرارا خاطئا فيما يبدو، فقد تعمّق الصراع بعد ذلك على هذه القيادة وظهرت قيّادات كثيرة تنازعت فيما بينها لاسيما بعد استشهاد مصطفى بن بولعيد – رحمه الله – وتحدّث في القسم الأوّل أيضا عن الصراع الذي حدث بعد مؤتمر الصومام الذي أقرّ أولويّة الداخل على الخارج، وأولويّة السّياسي على العسكري، ثمّ قُلبت المعادلة بعد ذلك مباشرة بعد خروج زعماء القيادة إلى الخارج، واضطرارهم إلى إقرار مبدأ أولويّة الخارج على الداخل عمليّا.
ذكرني هذا القسم – حقيقة – بمقدّمة ابن خلدون التي انفصلت عن كتاب ( العبر ) وصارت كتابا مستقلا بذاته، يدرس أحوال الأمم وتقلباتها وسنن الحضارة ونواميسها، وقيام الدّول وزوالها، كان القسم الأوّل من كتاب ( إشكالية القيادة في الثورة ) بحق خلاصة قويّة لتأمّل وتحليل عميق لما جرى من صراعات سياسيّة أثناء الثورة.
وهنا فهمت تماما لماذا يقول بعض النّاس: التاريخ الحقيقي الذي يكتب عن الثورة؛ هو التاريخ الذي ستكتبه الأجيال القادمة، الأجيال التي لم تكن مشاركة في الأحداث ولا طرفا في الصراعات والنزاع، حتى تكتب بتجرّد وموضوعيّة، ولكن وجدت أنّ الأستاذ محمدا زروالا واحدا من الذين شاركوا في الأحداث وربما كان طرفا في الصراع، شاء أم أبى، لكن نتيجة البعد الزمني الذي صار يفصله عن تاريخ الثورة وأحداثها، وثقافته الأكاديميّة التي حصّلها بعد الثورة، وما يكون قد طرأ على فكره وكذلك عاطفته وانفعالاته الأولى من تغيّرات مكّنه من أن يكتب عن تلك الأحداث بموضوعيّة كبيرة.
وقد قدّم لكتابه بثلاث مقولات حريّة بالتأمّل هي:
" القيادة في الثورة الجزائريّة لا تطلب ولا ترفض "
" الكلّ يحبّ أن يقود، ولكن من يستطيع أن يقود ؟
" قليلون هم الذين قادوا فأحسنوا القيادة، وكثيرون هم الذين قادوا فأسأوا القيادة "  
إنّ هذه المقولات الثلاث التي قدّم بها الكاتب لهذه الدّراسة التي جاءت على شكل كتاب ضخم؛ تعتبر هي المفتاح أو المدخل الذي يولج منه إلى مضمون الكتاب وهدفه النهائي.. 
اختار الكاتب أن يدرس قضّية الصراع على القيادة بالولاية الأولى التاريخيّة ( الأوراس – الجزائر )، بصفتها النموذج الأوّل الذي يُحتذى وكانت هي الولاية التي تحمّلت عبء الثورة في أشهرها الأولى ( حوالي ستة أشهر تقريبا )، بالإضافة إلى أنّ الصراع على القيادة حدث في هذه الولاية أكثر من غيرها وحتى في الخارج في تونس والحدود كان رموز الولاية الأولى طرفا أساسيّا في هذا الصراع..
وأرجع الكاتب أسباب الصراع إلى الأمزجة النفسيّة واختلاف التفكير وعدم توفّر الثقة بالدرجة الأولى، كما أشار إلى عدم وجود شخصيّة ( جامعة ) ساهم بشكل كبير في هذه الصراعات، فبمجرّد أن أُلقي القبض على مصطفى بن بولعيد في الحدود التونسيّة – وقد كان في مهمّة لجلب السلاح من تونس – انفجرت هذه الصراعات ورغم أنّ القيادة الرسميّة على مستوى التراب الوطني لم تكن بيد مصطفى بن بولعيد وحده إلاّ أنّه كانت له سلطة روحيّة وكان مؤهلا إلى أن يكون الزعيم الأكبر للثورة؛ لعدّة خصائص وميزات توفّرت فيه..
لقد كان مصطفى بن بولعيد رجلا محبوبا لطيف المعشر له سمعة طيبة بين النّاس، فهو رجل وطني معروف بنضاله السّياسي من قبل، ومن أسرة غنيّة لها مكانتها الاجتماعيّة المرموقة، وقد جمع من صفات الزعامة الشيء الكثير، القدوة الأخلاقيّة ( شدّة التواضع ) والتجرّد مع الثقافة والالتزام، فضلا عن التضحيّة والبذل.
ولذلك بمجرّد أن هرب من السجن وعاد إلى الأوراس سكنت الخلافات، وهدأت الصراعات التي ظهرت إثر انتشار خبر القبض عليه في الحدود التونسيّة، وسرعان ما تأجّجت الصراعات من جديد بعد استشهاده مباشرة.
ووفقا لطرح الكاتب أو ما فهمته أنا من طرحه؛ فإنّ مصطفى بن بولعيد لمّا ترك الأوراس وذهب إلى تونس لجلب السلاح فقد ترك شيحاني بشير خلفا له، رغم وجود من هو أقدر منه على القيادة والمبادرة، وجعل له مساعدَين اثنين أوصاه أن لا يقطع أمرا بدونهما، وهما عاجل عجّول وعبّاس لغرور ويبدو أنّ السبب في ذلك يرجع إلى تكافؤ شخصيتي الرجلين، فهو لم يستطع أن يرجح كفّة أحدهما على الآخر حتى لا يُحدث صراعا وتنافسا بينهما.
ومما رجّح كفّة شيحاني بشير أيضا ثقافته العالية وقدرته الكبيرة على التخطيط والتنظيم، رغم أنّه متهم بتجنّبه النزول إلى ميدان المعارك ومباشرتها بنفسه، فكأنّما كان شيحاني بشير هو شعرة الميزان – بالنسبة لمصطفى بن بولعيد – بين عبّاس لغرور وعاجل عجّول ولكن رغم ذلك كلّه ورغم هذا الاحتياط والتوقي؛ غلبت الصراعات بين شيحاني بشير ومساعدَيه وفي نهاية المطاف قام عاجل عجّول وعبّاس لغرور بمحاكمة شيحاني محاكمة سريعة والقيام بتصفيته في ظروف غامضة صارت لغزا معقّدا لم تُفكّ خيوطه إلى يومنا هذا.
وتمّ بعد ذلك التحقيق في القضيّة من طرف العقيد عميروش الذي يبدو أنّه كان قد قرّر توجيه التهمة مباشرة إلى عاجل عجّول ومحاكمته فتفطّن عجّول لهذا الأمر واضطرّ للفرار – بعد محاولة لاغتياله – وتسليم نفسه إلى الجيش الفرنسي في المأساة المعروفة والتي طوت صفحة أحدِ أروع أبطال الأوراس وأكثرهم شجاعة وكفاءة.
وتمّ بعد ذلك أيضا محاكمة عبّاس لغرور وقتله، ودخل عمّار بن بولعيد في خطّ الصراع على القيادة بعد استشهاد أخيه مصطفى مباشرة، وتعقدت الأمور أكثر فأكثر..
وخلص الكاتب إلى أنّ هذه الثورة المباركة كانت ترعاها أقدار ربّانية، نظرت إلى صدق نيّة هذا الشعب وعزمه على طرد المحتلّ من أرضه، ولو كان الأمر للرجال وحدهم لكان نجم الثورة قد أفل ولأخمدت في مهدها، بسبب كثرة الخلافات والصراع على الزعامة..
ويعلّق الكاتب على كلّ تلك الصراعات بأسلوب منهجيّ متزن، وحكمة بالغة..ويقول أنّ هؤلاء المتصارعين كلّهم مخلصون وكلّهم وطنيّون صادقون، أو ذلك هو الغالب الأعمّ عليهم وعلى حالهم، ولكنّهم في نهاية المطاف بشر ككلّ البشر يخطئون ويصيبون ويعتريهم الضعف وغلبة الهوى وحبّ الزعامة.
وإنّ مثل مجاهدي ثورة أوّل نوفمبر فيما وقعوا فيه من خلافات؛ كمثل الصحابة رضوان الله عليهم والخلفاء من بعدهم الذين وقعت بينهم خلافات شديدة وحدث اقتتال كبير ولكن في النهاية يبقون صحابة نقتدي بهم وبهديهم، ونأخذ العبرة مما وقعوا فيه من الفتنة زمن سيّدنا عثمان وعليّ من بعده رضوان الله عليهما، وخلاصة الأمر ما قاله سيّدنا عليّ رضيَ الله عنه:
" هم إخواننا بغوا علينا
لقد كان في الثورة التحريريّة المباركة بغيٌ حدث من بعض القادة على بعضٍ، لسوء فهم أو لقلّة ثقة، وكلّهم مأجورون يوم القيامة إن شاء الله تعالى ويبعثون على نيّاتهم..
كما تحدّث الكاتب بمنهجيّة متميّزة وموضوعيّة كبيرة عن الصراعات التي وقعت بين الحكومة المؤقتة وقيادة الأركان وبيّن أخطاء هؤلاء وهؤلاء، وذكر كثيرا من الحقائق التي كانت غامضة منذ فترة طويلة. ومن طريف ما ذكره في هذه الصراعات أنّ بومدين كان منذ ذلك الوقت وهو يخطط لاستلام الحكم، وهذا يتفق مع ما قاله الشاذلي بن جديد في مذكراته.
أمّا الشخصيّة الوحيدة التي تكاد تحظى بإجماع كلّ الأطراف والتي تنزّهت عن كلّ غرض دنيوي أو مطمح نفسيّ أو رغبة في الاستئثار بالقيادة والزعامة أو حبّ التسلّط وفرض الرأي فهو الشهيد مصطفى بن بولعيد رحمه الله.
كما يتحدّث عن شخصيّة الحاج لخضر بإكبار وتقدير ويذكر شجاعته وإخلاصه، لكن فيه شيء من الشدّة وبعض من الحدّة تجعله لا يكون محلّ إجماع كامل وتوافق عام.
محمّد زروال كاتب أكاديميّ متمرّس خريج المدرسة الباديسيّة، ولذلك لا يخفى الأسلوب القرآني في كتابه بل هو يعلن عن ذلك إعلانا، فنجده كثيرا ما يضمّن عبارته تعابير قرآنيّة أو حديثيّة تشير إلى تشبّعه بالثقافة الإسلاميّة واحتكامه إلى القيم الراسخة ومن الأمثلة على ذلك نذكر هذه الطائفة:
-       يقول في صفحة 59 مثلا وفي فقرتين مختلفتين: " فقد كان هؤلاء تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " يقول ذلك تعليقا على قادة الثورة الخمسة الذين اختطفتهم فرنسا في حادثة الطائرة المشهورة، وهذا التعبير فيه تضمين لقوله تعالى: " تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ " جزء من الآية 14 من سورة الحشر.
-       ومثله قوله: " وخلال مفاوضات إفيان فإنّ الوفد الفرنسي اقترح على الوفد الجزائريّ أن يَأْجُرَهم الصحراء مدى تسعة وتسعين عاما "، ولفظ (  يَأْجُرَهم ) بصيغته التي ضبطها الكاتب بالشكل لفظ قرآنيّ خالص لا يكاد يُستَعمل إلاّ في القرآن الكريم وفي  لغة العرب القديمة، ولذلك نجد الكاتبَ نفسَه يهمّش لهذه الكلمة ويشير إلى الآية التي فيها من القرآن الكريم وهي الآية 22 من سورة القصص.
-       وقد وضّف كلمة ( ضدّ ) الواردة في القرآن الكريم بمعناها، حيث قال 226 : " وإنّني أنا شخصيّا كنت غير موافق على أن يُعيّن عمّار على رأس القيادة على أنّ هذا لا يعني أنّني كنت عليه ضدّا " ويستعمل التعبير نفسه في صفحة 419 ، ويكتب في هامش صفحة 226 " اقتداء بقوله تعالى: (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ..."  
-       كما نجد الكاتب أيضا يهتمّ باللغة اهتماما لافتا، إذ يَعمَد إلى شرح الكلمات التي فيها لبس، أو تصحيح بعض الأخطاء الشائعة، رغم أنّ الكتاب تاريخيّ بالدّرجة الأولى وذلك يدلّ على تكامل الفهم عند الأستاذ المجاهد محمّد زروال، وشعوره بأهميّة رساليّة اللغة، ومن أمثلة ذلك إشارته إلى كتابة اسم ( بن بولعيد ) بهذا الشكل؛ ذلك لأنّها لقب عائلي وهذه الطريقة في كتابة الألقاب معروفة في المغرب العربي عموما وفي الجزائر على وجه الخصوص. 
والكتاب بصفة عامة من أحسن وأروع ما قرأت حول الثورة الجزائريّة المباركة، لقد تناول الكاتب الأحداث بموضوعيّة كبيرة ولم يصوّر من الثورة أو من المجاهدين مثالا خياليّا لا يكون في الواقع، ولا يسنح لأحد من البشر، وإنما تحدّث عن الثورة بأسلوب واقعي يدرس جوانب الضعف وجوانب القوّة، وينقد ما يستحق النقد كما يشيد بما يستحق الإشادة من أحداث أو مواقف.      


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق