الصفحات

2013/02/10

أشرف محمود عكاشة يكتب عن "جدارية حزن": "السرد المراوغ " وكتابة الما وراء عبر الوجود والوجدان..

"السرد المراوغ " وكتابة الما وراء عبر الوجود والوجدان في مجموعة ( جدارية حزن )
كل ألم عظيم يصنع إبداعا -إنسانا- عظيما هكذا ترسخ في يقيني ما كان يردده أحد الأصدقاء نقلا عن ديستوفسكي ،حدث ذلك حينما روادتني ريشة هناء جودة وهي تنقش جدارية لعاطفة نظمت عقد القلوب جميعها على شتات أصحابها ألا وهي الحزن في كل زمان ومكان ومن هنا كانت إنسانية إبداع هناء جودة في مجموعتها القصصية ( جدارية حزن )...
 
السرد المراوغ:                                                
"منذ زمن سحيق كانت تكتبها القصة..."
"ما كان منها إلا فعل ما تستطيع عمله البكاء المر في وحدتها الأزلية ..."
" كانت حبلى بالحلم .."
ما بين كآبة الجدران حين تحمل سياط العزلة ودفء وحميمية الجدر حين تضج بمشاعر الأمن والحماية اختارت الكاتبة مفردة جدارية واتبعتها بكلمة حزن نكرة لتفيد عموم الحزن تلك العاطفة النبيلة ؛ لتفاجئ المتلقي الذي تهيأ لمن يشاركه حزنه فيهون على كلاهما بأن ذاك الحزن صار ذكرى تحويها تلك الجدارية وذلك هو سحر الإبداع الذي يصنع أملا من الألم .
فإذا تجاوزنا بقية عتبات النص نجد أن مرواغة السرد عند الكاتبة لا يتوقف عند ايحائية المفردة والتي تخلقها التراكيب التي تنحتها من خلال تلك المفردات لنجد الكاتبة تراوغ حتي في استخدامها لضمائر السرد فنجدها لتهرب من الاتهام بذاتية التجربة تلجأ إلى ضمير الغائب في كثير من قصص المعاناة والألم في المجموعة مثل قصص (طيف،عودة ،تمرد ، هاجس ، وداع ) فقللت القصدية غير الابداعية لضمير الغائب إلى إضعاف الأثر الوجداني عند المتلقي لتلك القصص رغم صدق التجربة بينما ذات الضمير (ضمير الغائب) اكثر مصداقية وأثرا حين كان بالفعل قراءة وجدانية للآخر في قصص (توبة، وصال ،وحش الغربة ،وفاء اللحن،حفل عشاء ، وكثير من الومضات والقصص القصيرة جدا التي حوتها الجدارية )
ونجد ضمير المتكلم قد استحوذ عليها حين تكتب قراءتها للآخر الذي هو الوجود بكل مفرداته عند هناء جودة وكأنه نقاء الحس والوجدان لدي الكاتبة الذي قد جعلها تمتزج بهذا الآخر فكانت تلك القصص التي دارت بضمير المتكلم أكثر وصالا مع وجدان المتلقي مثل قصص( خسوف ،زلزال ،السيدة ،كبرياء ، انتظار،عجز) وفي القصص الثلاثة الاخيرة نجد الكاتبة تبدع بضمير المتكلم الذي يوحي بالذات الفردية بينما تقصد في قصة كبرياء الذات الأنثي على وجه العموم وفي قصتي انتظار وعجز ترمي إلى الضمير الجمعى (مصر – الأم )
ومراوغة السرد امتدت إلى نهايات بعض القصص عند الكاتبة لتحدث المفارقة التي تعمد إليها الكاتبة ( وهي مفارقة تصنعها النهايات الايحائية المفاجئة وليس المفارقة التي النهايات التناقضية ) ادهاشا عند المتلقي تجعله يصفق لإبداع الكاتبة ويشاركها صنعه بالتحليق عبر نافذة التأويل التي تفتحها أمامه تلك النهاية وليس أدل ولا أصدق على ذلك من تلك النهاية الرائعة لقصة (خسوف) فبعد أن ترسم لنا مشاعر اللهفة وتثيرنا بالتنامي الحدثي داخل النص والذي يؤكد على دفء وحميمية العلاقة بين الطفل والبطلة استنادا إلى عنصري الزمن والمكان كأساس للسرد واستلهام الموروث الشعبي لتحقيق أتم إثارة لوجدان المتلقي؛ وتأتي النهاية لتنفي عنها كونها الأم كما تخيل المتلقي وتفتح أمام المتلقي باب التأويل من تكون تلك البطلة التي تلبستها كل هذه الأمومة ورغم ذلك مايزال الطفل يبحث عن وجه أمه الذي يراه في وجه القمر " تطلع فيّ ببراءة سنواته الخمسة – وحسبته لا يعرف له أما سواي – متسائلا: هل سيعود القمر مرة أخري لأرى فيه وجه أمي االتي ماتت من زمن ؟!
وكذلك في قصة نجاة والتي جاء السير فيها عكسيا من المفارقة إلى توحد المختلفين لخدمة البعد القضوي الذي تسعى الكاتبة إلى ترسيخه وهو أن الثورة هي سبيل النجاة
ومن هنا ننطلق إلى الشق الثاني للقراءة التأملية .....
كتابة الما وراء عبر الوجود والوجدان :
"تغيب كل ضوضاء السكون فتفيق من غيبوبتها العميقة ..."
" لكنها لم تنس أبدا ليلة بكي فيها القمر على صدرها ..."
"أشارت عقارب الساعة إلى اللا وقت ..."
ليس المقصود بالما وراء البعد الفلسفي وحده بقدر ما نقصد البعد القضوي الدلالي على امتداد النصوص حيث نجد هذا البعد يتوارى خلف النصوص اجمالا ولا يقدم بشكل حدثي أو وصفي مباشرفتعمل الكاتبة كل أدواتها السردية وقدراتها الإبداعية في شحذ همة المتلقي للمشاركة الفاعلة من خلال التأمل العميق لكشف ذلك البعد القضوي فيشعر المتلقي بذلك بمتعة كونه السابق إلى سبر أغوار المعرفة بالتشارك مع المبدع وكل ذلك من خلال الموجودات والوجدانيات فلحظة التنوير في جل النصوص لا يصنعها حدث أو وصف أو اشارة أو مفتاح ارشادي يلقيه المبدع في ثنايا النص بل يصنعها النص مكتملا كما قصة نجاة فعلى امتداد النص لاتجد أثرا لنجاة ولا خروجا من معاناة الا باكتمال النص واكتشافك بأن النجاة الحقيقية هي الثورة على القهر والظلم والمعاناة وليس الهروب منها ، كذلك في قصة "خسوف " التي أعدها من أروع قصص المجموعة حيث يأخذك التنامي الحدثي والصراع داخل النص واستقراء الموروث الشعبي أن الخسوف هو خسوف القمر بينما عند اكتمال النص يتبدى لك أن الخسوف هو الذي يصيب البطلة حين يصدمها اكتشاف أن هذا الطفل الذي كانت له أما لا ينسى أمه التي ماتت ويرى وجهها في القمر...
وإذا تأملنا النصوص في مجملها نجدها تنصف الأنثى ولا تغيب الرجل ولكنها تحاول أن تمنح الأنثي على امتداد النصوص وجدان المتلقي ومشاعره ..
كما تركن النصوص إلى ثنائية القطب الثابت والقطب أو الأقطاب المتحركة سواء كان ذلك من خلال الموجودات أو أركان القص من زمن ومكان وشخوص لتؤكد من خلال ذلك المسحة الصوفية التي تتسلل من الإهداء"وإلى من تحن إليه الروح " وخلال النصوص حتي نهاية النص الأخير الذي تختمه المبدعة بقولها" تتم الشهادتين وتغمض عينيها ... راضية مرضية "
وقفات نقدية :
• نتقدم بخالص التقدير والتحية للدكتور ثروت عكاشة صاحب التقديم والدراسة التحليلية الرائعة للمجموعة
• أجادت الكاتبة في أنسنة الموجودات على امتداد نصوصها واجادت العزف على عنصري المكان والزمان داخل أغلب النصوص
• الومضات والنصوص القصيرة جدا داخل المجموعة برغم أن بعضها أخرجته الشعرية المفرطة عن مقصده الابداعي عبر البعد الدلالي إلا أن جلها يكشف عن براعة الكاتبة في تكثيف الجملة السردية واختيار المفردة الموحية
• زيادة الوصف الشعري والذي يصل حد التجريد في بعض النصوص كان عامل ضعف لا قوة
• الكاتبة تملك القدرة المبدعة على صنع حدث قصصي يملك على المتلقي حواسه وجوارحه ولكنها مقلة في ذلك فجاءت النصوص التي كان فيها الحدث فاعلا من أروع نصوص المجموعة مثل ( خسوف ، نجاة ، زلزال ،حفل عشاء ، انكسار)
• فضاء النص من الاهداء وحتي نهاية المجموعة كان عنصرا دلاليا فاعلا وعلى وجه الخصوص في قصص (يقين ،خسوف ، عجز )
• تحتاج الكاتبة إلى تنويع تكنيكات السرد في مجموعاتها القصصية القادمة كذلك هي في مسيس الحاجة إلى كتابة الواقع برؤاه الابداعية المتجددة دوما وليس بالضرورة تضمين القصص بابعاد فلسفية عميقة قد تجهد متلقي هذا العصر فتصرفه عن المشاركة في تأويل الابداع
• تحتاج الكاتبة إلى التخلي عن الوصف المباشر والاعتماد على الوصف الحدثي لأن ذلك دائما أثره أعمق في وجدان المتلقي .
وفي الختام
يبقي لنا دوما أن نقول أن ما صدر عن القلب يصل دائما إلى القلب تحية منا لمبدعتنا هناء جودة وتحية لكم و دمتم بكل الخير ودام لنا الإبداع دوما قمر يجمع حوله عقد قلوب محبيه .
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق