الصفحات

2013/03/12

كرسي متحرك.. قصة: هشام بن الشاوي


كرسي متحرك 
هشام بن الشاوي
كاتب من المغرب

أجلس إلى الكرسي الوحيد الشاغر، لأحتسي كوب شاي في ما يشبه مقهى شعبيا، على ضفة نهر مدينة هادئة وبسيطة. كنت في حاجة إلى أن أكون وحيدا حد اليتم؛ لم أكلم رفاق الطاولة، حتى لا يقتحم أحد عزلتي.
 كنا خمسة، سادسنا حزني الذي تفاقم حد الانكسار والتلاشي، ولازمني منذ ضيّعت مشروع رواية بضغطة زر خاطئة، فتبخرت من حاسوبي الشخصي. غمغمت : "ضاعت الحبيبة، وضاعت الرواية. يا الله!".
سخر العجوز  الجالس على يميني من رفيقه المقابل له، فانتفض الأب قائلا : "هل أترك ابني الذي يتصل بي من "الطاليان" (إيطاليا) يرن، ولا أرد على الهاتف؟"، وأعاد العجوز المشاكس تمثيل حركة صديقه، الذي نسي السجود وخشوع الصلاة، وراح يبحث بيدين متلهفتين، كقلبه، عن الهاتف النقال، في جيوبه داخل المسجد. وتحدثت الأرملة بقلب ملتاع عن ابنها المراهق، الذي تفعل المستحيل لكي لا يحس بأي نقص أمام أقرانه؛ تحدثت عن ملابسه الكثيرة، التي تجلب امرأة لكي تنظفها له، وفشله في الدراسة، رغم الدروس الخصوصية، حتى لو كانت تتسول في الحافلات، لكنه هرب من البيت، ولا تعرف إلى أين، وتخشى أن ينحرف ويلازم رفاق السوء.
اقترب شاب ثلاثيني من طاولتنا، وهو يحرك قدميه على الطريق المتربة، أمام الكرسي المتحرك، دون أن يعتمد على حركة ذراعيه، وعلى ملامحه  يرتسم حزن جليل يليق بشاب مقعد، ألفيتني أنظر إلى الجهة الأخرى، ورائحة "السيليسيون"* تنبعث من  ثيابه. من طاولة مجاورة ارتفع صوت امرأة تقسم أنها رأته صباحا يمشي على قدميه، وبدأ يشتمها بأقذع السباب. انتظر أن يجود عليه أحدنا بصدقة، فلم نعبأ به، وفكرتُ في مغادرة المكان بسبب الرائحة التي لا تطاق، وانتبهت إلى ضيقي صاحبة الطاولة، فأمرته أن يبتعد، لأن زبائنها لا يملكون نقودا، فقال بنبرة حزم،  لا يتناسب والحزن الذي كان يكسو ملامحه: "دعيني أترزق الله".

دون اتفاق مسبق بيننا، تواطأنا على الصمت، عله ينصرف، بيد أن الأرملة، التي اعتادت أن تجلس إلى هذه الطاولة، بسبب كرم صاحبتها.. عاتبته بأمومة مشيرة إلى أنه قد يصير مقعدا بالفعل، فلم يعبأ بكلامها، وقال:  "لا ينفع معكم إلا الحيلة". نهرتها صاحبة الطاولة في حدة : "اجلسي صامتة أو قومي.."، ورفعت يدها باتجاه الحافلة التي أوشكت أن تنطلق، بعد أن امتلأت كل مقاعدها...

في زهو، فتح الشاب المقعد كيسا بلاستيكيا مليئا بالخبز،  متباهيا أمام الأرملة بحصيلته اليومية، التي تفوق ما يجود به عليها ركاب الحافلات، لأن الناس يتعاطفون مع إعاقته، وأخرج من جيبه قطعا نقدية، وراح يعدها، ففتحت حافظة نقودها، واستعرضت مجموعة من الأوراق المالية، وقد تهللت أساريرها، ورفعت - بأسى جريح- كيس الأدوية الذي يلازمها...
 قال لنفسه بصوت مسموع: "إنها تكفي لشراء "السيليسيون" !". استوى واقفا، وصاح بابتهاج : "أنا.. الآن بخير"، ودفع أمامه  كرسيه المتحرك، وشهقت امرأة الحافلات، كأنما تذكرت شيئا مهما نسيته : "إنه كرسي ابن زبيدة الأعرج، وهو يستأجره منه...".

 ضج المكان بالضحك، وهو يبتعد عن الأنظار دافعا أمامه الكرسي، ويده لا تتوقف عن رفع سرواله المتساقط.

----------
* لصاق  سائل يستخدمه المشردون كمخدر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق