الصفحات

2013/03/27

الليبرالية الجديدة/ الدكتور: عبدالله الغذامي بقلم:محمد الفارسي

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلةالليبرالية الجديدة/ الدكتور: عبدالله الغذامي
متكأ:محمد الفارسي

قبل الدخول في الحديث عن كتاب الدكتور/ الغذامي. تجدر الإشارة إلى أن المحتوى يمثل الرأي الفردي للكاتب، ولا يختص بآخرين، وهو وحده المسؤول عما يدور.
كما أن الحديث لا يشمل مناقشة المقولات الفلسفية أو الدينية ومحاورتها؛ لاكتشاف الصحيح من الزائف فيها، تبقى مهمته العرض، والعرض فقط، بينما المناقشة الحوارية تبتعد عن حديثنا اليوم، وإن كانت الحوارية محتاجة إلى أسس، ربما لا يكون وقتها هذا.
سيلاحظ أخي الكريم وأختي الكريمة؛ قراء الحديث أن الكلام يتشعب ويلتف ما بين النفسي والعلمي والتأملي والاستنتاجي والحواري؛ لكوني اتبعت سياسة الكتابة بعد نهاية الفصل، فلا أنتظر لبقية الكتاب كي أكتب التلخيص، فهو ليس تلخيصاً بالمعنى الدارج، بل هي قراءة سريعة جداً وفق نظرية/ السياق. التي تتبعتها وأفضت الحديث حولها في كتابي القادم "السياق والأنساق" والتي ستصدر عن دار النفائس البيروتية، قريباً.
قيمة الطرح في الكتاب بما يتولد حوله من أسئلة وحوارات، وما أطرحه اليوم هو حوار للحوار، ومناقشة للمناقشة، اعتمدت فيها على قراءاتي السابقة لكتب الدكتور، إضافة إلى المنهجية التي أتبعها، وهو ما سيتبدى جلياً في أثناء حديثي.
أترككم الآن للقراءة، وألتقيكم في النهاية؛ علّي أحظى ببعض ودكم وملاحظاتكم.

المقدمة/ العالم على كف شاشة.
بدأ الدكتور افتتاحية الكتاب "سيظل العالم على كف عفريت"، بدأ بالضرب على الوتر الحساس في الحياة البشرية، فلقد بدا سوداوياً بعيداً عن الأفكار والرؤى الطوباوية.
يعمل الدكتور – على غير العادة – على البدء بالخطر وتحديده، عوض فرض الأسئلة المعتادة عن الأزمة والهوية والشعور بالاختلاف؛ تلك أسئلة مهمة دائماً ما يتحفنا بإجاباتها، أما هنا في مقدمة الكتاب فيدفعنا دفعاً شديداً إلى اعتناق الفكرة المظلمة عن الإنسان والنظام العالمي الجديد.
الفكرة التي يقدمها ليست سوداويةً مطلقاً، بل تبقى الجوانب المشرقة في بعض جنباتها، وإن لم تكن لنا نحن كعرب، بل لآخرين من أوروبا وأمريكا، لكنه يصر ويؤكد الظلامية الطاغية على المشهد الكوني.
الفصل الأول/ مابعد العولمة: تحولات المصطلح. 

حينما ننتقل إلى الفصل الأول، نلحظ النبرة التحذيرية تنطلق بلا سابق إنذار، فالأمثلة المضروبة تدل على ما افتتح به الكتاب، من طغيان المادية والعلمانية والنظام الجديد لثقافة الناس وعاداتهم وعلى الجميع الانخراط في البوتقة والانصهار في العولمة ، وإلا سيظل خارج الزمان والمكان؛ سيعيش حياته البدائية المتخلفة.
أمام هذه السوداوية المظلمة تأتي الأمثلة والاستشهادات، بعضها ذكرها في كتبه السابقة؛ مثل سقوط الصنم الرمزي لصدام حسين، وبعضها أتى حديثاً مثل: تسونامي والزلزال الياباني وانفجار المفاعلات النووية.
يعتمد على مقولات فوكوياما في تأسيساته النظرية لمرحلة "نهاية التاريخ" وإن كان قد ألبسها ثوباً مختلفاً وتسمية مواربةً لا تشير إلى المعنى بتمامه.
نعم، لمقولات فوكوياما وتشومسكي أثرها في توجيه الفصل الأول عبر الإصرار على السوداوية الطاغية، وكون النظام المؤسسي المنبني على القطبية الأحادية هو سبب كل المشاكل على الأرض، فعندما كان النظام متعدد القطبية حاضراً، لم تكن المشاكل بالصورة التي نراها اليوم من عولمة الحدث؛ كأنه حجر دومينو يصيب آخر وهكذا حتى تتهاوى بقية الأحجار.
بينما أقرأ ثيمة الاحتقان في الفصل الأول، تبادر إلى ذهني كتابات مشابهة أتت قبل سنوات، ككتاب "صراع الحضارات" لصامويل هنتنجتون، وقتها تنبأ بحرب كونية تضرب الحضارات الأرضية بأجمعها، في معركة مفصلية يتحدد على ضوئها مسير الإنسان وتاريخه.
لا أود استباق النتائج، فلا زلت في الفصل الأول، وأمامي فصول أخرى في الكتاب؛ لأقرأها وأكتشف المزيد من الطرح الغذامي في الكتاب.
لا يفوتني الإشادة بالطرح، شهادتي مجروحة بالتأكيد، فمن أنا لأشيد بطرح الدكتور الغذامي، ولكنها الحقيقة التي يجب أن تقال، وهذا واقعها، إن الطرح في غاية الروعة والإتقان، وإن كنت أتفق مع الدكتور في جوانب مهمة إلا أنني أستدرك عليه عدم تأسيسه للنظرية القائلة بتعدد الأقطاب ودعمها.
صحيح أنه ذكرها في كلام عابر، وكانت في حاجة إلى مزيد من التعمق، فهي منطلق لحل معضلات عدة، وتجيب عن أسئلة ظلت حائرة في الذهن، خصوصاً للشباب المقبل على الحياة في ثوبها الحالي، ربما غفران ذلك يكون في منهجية الكتاب التي تتوسل الطرح التاريخي للحدث "الظاهرة" ومناقشته، حيث يفترض الدكتور قارئاً ملماً بجوانب الحديث، فلا يحتاج إلى الإفاضة والشرح.
أيضاً، ثمة نقطة الانطلاق في بحث الليبرالية من الدواعي إليها، فالعالم العربي (عالمنا) يستند إلى أسس تختلف بدرجات متفاوتة عن العالم الغربي الأوروبي والأمريكي (عالمهم)، ثمة خصوصيات ثقافية وتاريخية واقتصادية ودينية وجغرافية، أهملها الدكتور، وفضل بدلها التركيز على الخاصية المشتركة بين المجتمعات الكونية، أعني بها خاصية "التقانة" أو "التقنية" حسب تسمية البعض هنا أو هناك.
الاختلاف جزء مهم من منظومة المفاهيم التي دأب الدكتور على بثها في العديد من كتبه ابتداءً بـ المرأة واللغة والكتابة والنص المضاد و النقد الثقافي والفقيه الفضائي، وبقية كتبه في شكل متفرقات كلامية، واخترت الكتب السالفة لوضوح المنهج والمفهوم فيها.
لست في مقام الإيضاح والتوجيه للدكتور، إني أعلم بالفرق ما بيني وبينه، فقط، كانت إشارات تذكيرية تحفر في الذهن وتحاول استدعاء استجابة.
أواصل: إن التركيز على القارة الأوربية باعتبارها مهد الليبرالية وسهولة القراءة فيها من خلال استيعابها للتنظير والتطبيق والنقد "إعادة القراءة"، جعل عمل الدكتور يستثمر الجاهز ويطبقه في بيئة مخالفةٍ للبيئة المنقول إليها.
القارئ العربي يختلف عن القارئ الأوربي، الدكتور يعلم ذلك جيداً، إن نقل التجربة في مختبر الفكر يستلزم التعديل عليها لتتوافق والفكر الجديد، وهو ما افتقده الكتاب (في فصله الأول على الأقل)، لقد تم نقل التجربة الغربية الغنية بتفاصيلها إلى القارئ العربي.
القارئ العربي محتاج إلى نقل التجربة بعد التعديل عليها وصياغتها بما يتلاءم وثقافته وفكره وظرفه التاريخي.
لعلي ألتمس العذر للدكتور فتركيزه على النظرية الغربية أسهل من قراءته للواقع العربي الراهن، الواقع العربي المحفوف بالمخاطر؛ الذي ينتظر مخاضات الولادة القسرية في بيئة تتميز بعدم سهولة قراءتها.
أثق في الدكتور وفي قدرته على الطرح والمحاورة، وما كتبته سابقاً إنما كان قراءة للفصل الأول من كتابه، بانتظار بقية الفصول.

الفصل الثاني/ السؤال الملون: الحرية أو الديموقراطية.
يبدأ بالتأكيد على ما سبق من كون التجربة الأوربية هي المفتاح لقراءة الواقع الراهن في بعده الثقافي والأيديولوجي، فالقارة العجوز اكتنزت التجربة وتعارضاتها، وباتت الآن عرضة للقراءة وإعادة القراءة مرة بعد أخرى، ويمكن استخلاص النتائج منها.
مع تقادم الزمن تصبح التجربة أغنى وأثرى بالتعديل والانتقاد، ولذا انبحثت الحرية والعدالة والمساواة والتعددية الثقافية في إطارها الأوروبي، وجاءت الأسئلة من صميم الفلاسفة هناك؛ بدءًا من أفلاطون في جمهويته الفاضلة ومروراً بمنتسكيو وراسل وآخرين.
الشاد للانتباه في هذا الفصل؛ دخول المعترك إلى الثقافات "الهامشية" أو الجانبية، فلم تعد الهيمنة الأوروبية الثقافية بطغيانها حكراً على القارة العجوز، بل انطلقت للتبشير بالوليد الكوني، سعياً إلى عولمة الأرض، وهو ما تقابل مع رفض من الفئات الثقافية المنطوية على نفسها، فحدث الصراع المرير على الهوية، واستلابها أو بقائها.
التمثيل بالمملكة العربية بوصفها تمثل النسق الإسلامي غير القابل للتفاوض والتطور، جاء في ثنايا الطرح، وكأن الدكتور انتبه إلى الأسئلة التي فاتته في عرضنا للفصل الأول، وبدأ في الإجابة عليها.
قدّم الاختلاف كفرضية أوشكت على الزوال، فالعالم بات "شاشة" زجاجية، لا تمتلك مقاومة للآتي، فليس بوسع الفرد الخوض في الحفاظ على هويته وتمايزه الثقافي في ظل عولمة كبيرة كالتي تحدث الآن.
امتلأ الفصل بالمصطلحات والأسماء الفلسفية لأوروبيين، فهم الأقدر على نقد التجربة الديمقراطية العالمية ومحاسبتها وحوكمتها، فأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل السائر.
نهاية الخصوصية كما يقدمها الدكتور تعني ضمن ما تعني إلغاء التمايز الثقافي والفكري والاختلاف عن الآخر، وهي عملية خطرة، تسبب وأد الثقافة المحلية وإحلال ثقافة غريبة، تسعى لاستلاب الفرد وتطويعه في بيئة لا تمت لبيئته الأصلية بصلة.
البحث شائك، وجد عميق، وهو ما عبر عنه الدكتور وأكده في مبحثه وسؤاله عن الحرية، وهو ما انطوت عليه مخاطر ومزالق كثيرة حينما يتم استلابها وتقديمها كوجبة جاهزة إلى الأفراد في مجتمع مغاير للمجتمع الذي نشأت فيه.
قيمة الحرية لا تتعارض وقيم الفرد الأساسية باعتبار حصوله عليها كحق من حقوقه، بل ربما يسعى إليها حينما يحصل على الفائدة الاجتماعية، ويعمل على تأصيلها كسلوك اجتماعي، تدعمه المؤسسة وخطابها، في عملية تداولية وتفاوضية فاضحة لأي مسلك يريد استلابها وتدميرها.
أحسن الدكتور أحسن الله إليه، وجميل منه أن يختم الفصل بحقيقة إدراكه إلى أهمية إدخال "الإسلامي" في مجال النظرية الديموقراطية في العدالة والحرية.
وكأنه يجيب على الأسئلة تباعاً في تراتبية انبنائية لا تخطئها العين الخبيرة، ومن مثل الدكتور عينه خبيرة.
أظنني سأقرأ الفصل الثالث بشغف، فالحديث يدور حول النظرية الإسلامية في العدالة والحرية والاجتماع، فإلى هناك.

الفصل الثالث/ نظرية العدالة / الوسطية.
يقدم الدكتور فكرة الوسطية في الإسلام، مازجاً بينها وبين الحالة الراهنة للربيع العربي، متخذاً من المثال المصري وسقوط "مبارك" مجالاً خصباً للتأويل والقراءة الثقافية في ظل ارتفاع الشعبي وسقوط النخب.
الفعل الحالي للجيل الناشئ الشاب ورغبته في التغيير وإصراره على سقوط النخبة، وضع الجماعات المتدينة في مأزق، وحولها من العمل السري المقموع والمشكوك فيه إلى الواجهة.
أصبحت القوى الإسلامية التي كانت توصف بالتطرف والمحاربة من الدولة هي القائدة للجماهير عبر انتخابات مدنية، مما أوجد معادلة جديدة في الفكر الإسلامي العريق.
ذلك الفكر المنبني على الوسطية كشعار إسلامي خالد ظلت تصدح به دون تطبيقه فعلاً، وها هو الوقت قد حان لوضع نهاية للمغامرة التي استمرت عقوداً من الهرب والاختباء، والخروج إلى الشارع للقيام بالعمل السياسي الانتخابي.
هذه الفكرة انسربت في أذهان الإسلاميين بما فيهم من متشددين ومنفتحين، وتبدت في التصريحات واللقاءات الإعلامية التي بُثت لقادة التيارات الإسلامية المتشددة في الوطن العربي ورغبتهم في تأسيس دولة "مدنية" بعيدةً عن الدينية والعلمانية معاً.
فكرة الوسطية ناقشها الفصل الثالث من منطلق قرآني، وكأن الأستاذ الدكتور/ الغذامي. تحول من ساحة النقاش الثقافي إلى حلبة التفسير والاجتهاد في الفقه وأصوله.
نعم، بدا الدكتور كأستاذ في الفقه وأصوله وهو يستعرض نظرية الوسطية ونشوئها من معمعة نظرية العدالة الإلهية؛ التي هي أشمل وأثبت عند البحث والاستقصاء.
المتتبع لكتب الدكتور يجده قد نثر جزءاً من مذكراته الشخصية في الأنحاء ومن ضمنها تتلمذه في درس الفقه على أستاذ بارع، ولعل كتابه قبل الأخير "اليد واللسان" خير شاهد على ما نقول.
المهاد النظري للوسطية الإسلامية جعل ارتباطاتها بالمختلف، فليس بين المتوافقين وسطية أو "توسط" بل بين المتخالفين يوجد توسط.
يجوز القول إن الفصل الثالث من أروع الفصول في الكتاب، رغم شحنه بالمفاهيم الفلسفية والفقهية والغوص في بحر الفقه والتفسير، لكن ذلك لم يمنع تقديم الفكرة بصورة مشرقة، وإن اعتراها عند البعض غيوم؛ لضعف الجهاز المفاهيمي لديهم، ولا يلام الدكتور على ذلك.
السؤال الآن، قبل الدخول في رحلة القراءة للفصل الرابع، هل سنرى تطبيقاً واعياً لنظرية الوسطية الإسلامية في عالم مشحون بالتباغض والتباعد، إن كان على المستوى الشعبي العرقي أو الديني المذهبي، أو القبيلي المتمدين.. هي أسئلة وليست سؤالاً واحداً، وإن كانت الصياغة تطرحها في هيئة سؤالٍ مفرد، يحفر في الذاكرة ويستنجد بالقيم الموروثة والمعاشة.
لنكمل رحلتنا مع الكتاب في قراءة لذيذة؛ لنرى إلى أين سيأخذنا الدكتور في الفصل الجديد...

الفصل الرابع/ الليبرالية الموشومة.
التمهيد النظري لمصطلح الليبرالية عبر سبر التاريخ الموروث للكلمة كمصطلح متنقل، فمنذ البدء كان المصطلح يعيش في البيئة الفلسفية بشكلة الأنقى، بعيداً عن تدخلات الساسة والمنظرين لحرفه عن معناه الموضوع.
اتخذ المصطلح الليبرالي صيغة تامة ذات معنى رمزي يشير إلى الحرية في استيفائها لشرطيها؛ التفكير ثم القول، أو بتعبير الدكتور: حرية تعبير وحرية تفكير.
الحقيقة أن الطرح في هذا الفصل كان شيقاً جداً، على الرغم من الاستعانة بالتاريخ الأوروبي، وكذلك الاستعانة بأهم رموز الفلسفة في القارة العجوز ممن تناولوا مسألة الليبرالية في بعدها الفلسفي قبل أن تتحول إلى الجانب السياسي ثم الاقتصادي.
استخدام المصطلح في التعبيرات السياسية حرفه عن معناه الأولي الفلسفي، وجعله يحمل الدلالات السيئة في داخله، التي التصقت به من الاستعمال.
المصطلح في أساسه كان بياضاً، فلما استحوذت عليه السياسة واستخدمته، بدأت الألوان في الهطول عليه، وكان اللون الغالب هو الأسود.
لعلي لا أبالغ إن قلت: إن الفصل الرابع من كتاب الليبرالية الجديدة كان يحمل هماً كبيراً تبدى من الطرح السريع والجارف للدكتور، فلقد شعرت أثناء قراءتي للفصل بالسرعة التي انكتب بها، مع التكرار الدائم والمثير لأهم المقولات الواردة فيه، وهو ما نقل ملاحظة الهم المسيطر على الكاتب أثناء ممارسته لكتابة هذا الفصل بالذات.
الفصول السابقة خلت من ملاحظة السرعة والهم المسيطر، أما هذا، فتتبدى فيه الملاحظة كأوضح ما يكون.
اللافت أيضاً في هذا الفصل تركيزه بعد المهاد النظري على التطبيق التشريحي لليبرالية العربية، وخصوصاً السعودية؛ حيث خصها بمزيد بحث وتقص، وأخرجها من دائرة الليبرالية الحرة إلى دائرة الليبرالية الموشومة، والوشم كما يذكر الدكتور: تحميل المصطلح بدلالات سلبية.
الليبرالية السعودية إذن موشومة، ناقصة في التأسيس المعرفي الفلسفي، ومعناها ولفظها جاءا "صدفة" عبر تسمية صحفية لجماعة الناس الذين هم بالأساس بلا انتماء حزبي أو نقابي؛ مجرد أشخاص من الشارع.
أجد الدكتور شن حملة بالغة القسوة على المنتمين للتيار الليبرالي، وأحال بداياتهم ونهاياتهم إلى العدم، وكأن السوداوية التي افتتح بها الكتاب في المقدمة قد انتقلت لتحل في هذا الفصل؛ كأساً من اللهب على رأس كل ليبرالي سعودي.
لا عجب في النظرة السوداوية التي يختم بها الدكتور قضية الليبرالية السعودية، لأنه وجد الأصل في التسمية نسبة خاطئة، وما ممارسات الأشخاص في المحيط الليبرالي سوى ألاعيب صبيان، لا تمت إلى الفلسفة أو الممارسة السياسية بصلة.
يقدم الدكتور في الفصل الرابع وجبة دسمة من المفاهيم الفلسفية ويناقشها بصورتها العلمية، وإن توخى التسهيل في الشرح لأجل الفهم، إلا أن المصطلح الفلسفي يبقى إدراكه صعب المنال لغير الدارس الباحث المتخصص، وهو ما يثير عند قراءة كتابات الدكتور لوناً من الإبهام وعدم الفهم لدى البعض.
التأسيس المفاهيمي جد هام لمن أراد قراءة كتاب الدكتور وبخاصة الفصل الرابع، فبدون الجهاز المفاهيمي سيخرج القارئ بنتائج مغلوطة لما يقرأ، وستستحيل الأفكار لديه إلى ألغاز.
أظننا اقتربنا من إنهاء الكتاب، ولم يبق بعد التأسيس للمصطلح، إلا القيام بالخطوة الأخيرة؛ المتمثلة في تنقية المصطلح من الشوائب التي لحقت به، وتأسيس الليبرالية الجديدة بحق، وإعطائها صفاتها الحقيقية، وليست تلك الدخيلة عليها من الخارج، سواء أكان سياسياً أو دينياً أو اقتصادياً، مع الاختلاف في حجم وكيفية الإضافة ونوعها.
إلى الفصل الخامس وقراءة ممتعة.

الفص الخامس/ الإنسان (شبه) الحر.

حرية الإرادة؛ هي ما يمكننا أن نشاهده في الفصل الأخير من كتاب "الليبرالية الجديدة"، بدأ الدكتور بالإيضاح المستند على أقوال الفيلسوف "جون ستيورت مل" بأن الإنسان لا يعيش حالة كاملة من الحرية، بل هو إنسان "شبه حر" تتملكه مجموعة من التجاذبات في حياته واتخاذه لقراراته.
مهما بالغنا وقلنا بحرية الإنسان، فسيكون هناك في النهاية التأثير من الخارج؛ إما بصورة ظاهرة كالقوانين، أو بصورة مضمرة كالعادات الاجتماعية، ولذا فالدكتور يحاول نسف فكرة حرية الإنسان من البدء، فالليبرالي ليس حراً كما يدعي، إنما هو خاضع لمجموعة من القوانين والقواعد التي تسيره في حياته وفكره.
رحلة طويلة في مصطلح الليبرالية الجديدة يأخذنا إلى البدايات، وكيفية تشويه "وشم" المصطلح، وإخراجه من دائرته الفلسفية إلى التطبيق في الحياة.
بالطبع يصل الدكتور إلى نتيجة بحثية، تتمثل في القيمة التفاوضية التي يمكن أن تسير سلوك الناس في الحياة، وتنظم أفكارهم وأمورهم، وتقبلهم للآخرين، مهما كان الآخرون، ويعيد تذكيرنا مراراً بالمقولة حول الحرية: أن تفعل ما لا يضير غيرك.
الفصل جاء في ثوبه الفلسفي الخالص، وإن بدا في بعض فتراته أخف من الأخرى على الذهن، حينما يضرب الأمثلة من الواقع الأمريكي أو الأوروبي، أو حتى من الواقع الشخصي في محادثته من الأجنبي.
القيمة العليا التي يراها الدكتور جديرة بالبقاء والتنمية؛ هي القيمة التفاوضية، فعبرها تتم الحياة بلا أوجاع تعتريها، تتخذ المظهر اللآئق بها، وبدونها تختفي قيمة الليبرالية الجديدة ومعها قيمة الإنسان كإنسان، وليس كشيء آخر.
يصل بنا إلى "الكتلة الحرجة" ويسبر أغوار النظرية الفلسفية، محاولاً قراءة الواقع العربي الراهن؛ واقع الثورات العربية في ربيعها، حاملاً أملاً بأن تسود القيم التفاوضية الأشكال الحياتية العربية بعد الثورات الربيعية.
يجدد الدكتور الأمل والثقة في القارئ، وعول عليه في الوصول إلى المراد، من خلال تنحيته للأنا الجشعة والأنانية، واستبدال ذلك بالقيمة العليا؛ قيمة التفاوض واحترام الآخر وإعطائه الحرية اللازمة.
المسألة صعبة وعسيرة على القارئ مثلما هي عسيرة على الدكتور، ولعلنا ننتهي من الفصل الأخير، بل ننتهي من الكتاب برمته ونحن نطرح السؤال التالي: هل يستطيع الإنسان "العربي خصوصاً" إدراك أهمية القيمة التفاوضية ، ومحاولة تطبيقها في حياته؟
أظن الإجابة على هكذا سؤال، هي بين يديك أيها القارئ.

خاتمة/ 

الفكرة الأساسية التي خرجت بها من الكتاب؛ بحثه في مسألة "الهوية" وضياعها في الشباب العربي الحالي، لقد توسل الدكتور بالنظرية الليبرالية وعرضها عرضاً مشوّقاً، مبيناً مزاياها وعيوبها، ولنا نحن فقط حرية اتخاذ ما نراه مناسباً ومتناسباً مع حياتنا الراهنة ومستقبلنا المنظور.
إن بحث "الهوية" في هذا الكتاب هو امتداد للبحث الذي قام به الدكتور في كتابه "القبيلة والقبائلية" فلقد قام مشكوراً بتوسيع البحث وتعميقه، وأدخله مع مفهوم "الليبرالية الجديدة" كتشاركٍ في المعنى بين المصطلحين.
ولعل النظرة التي خرجت بها من قراءة الكتاب، تقارب أو تماثل ما تحدثت عنه سابقاً في مقال "الحج إلى معرض الكتاب الدولي بالرياض" من أن الدكتور نقد الليبرالية وأخذ في التأسيس للديانة الجديدة؛ ديانة الهويّة.
لا أرغب بليّ عنق أفكار الدكتور، بل الاستماع إليها والاستفادة منها، هو ما يفتح شهيتي للقراءة والمحاورة.
الديانة البديلة هو موضوع الكتاب، فبدلاً من الليبرالية؛ التي اعتُمدتْ سابقاً، ووصلت لمرحلة عالية من "الوشمية" لا بد لنا الآن من مصطلح آخر، يكون بديلاً، وفي نفس المستوى من القوة، ليحل الأزمة الثقافية في الذهنية العربية "والسعودية بخاصة".
سريان الكتاب وانتشاره في السوق السعودي، وسرعة نفاده من معرض الكتاب في زمن وجيز، أضاء جانباً من المشكل الذي يعتري الفرد في هذا المجتمع، إنه مجتمع يعيش بلا هوية حقيقية، وهذا الكتاب جاء ليقدم الحل لفقدان الهوية، عبر إلغاء الليبرالية أو تعديلها إن أمكن، وهو الأمر الذي يعتبر في غاية الصعوبة.
ثمة أمر أخير أود الإشارة إليه، وهو مجموعة من الأسئلة، أطرحها على الكتاب والكاتب والقارئ، من أجل أن لا يقال: تعسف في الرأي والقراءة، وخرج بنتائج مغلوطة أو مجانبة للواقع الصحيح.
كتاب "الليبرالية الجديدة" لمن يتوجه في خطابه، من هو القارئ المثالي المفترض في ذهن الدكتور حينما كتب ما كتب؟ 
بسبب حشد الكم الهائل من المصطلحات والأفكار الفلسفية، لا نستطيع الادعاء بأن القارئ العادي في إمكانه فك جميع الرموز، لابد هنا من قارئ مفترض، وهو القارئ "النخبة" وليس الشعبي، فالشعبي بسيط في قدراته واستنباطاته مع سرعة تأثره.
خلو الكتاب من الخاتمة النهائية الملخّصة للموضوعات الواردة، ماذا كان الهدف من ورائها؟ خصوصاً إذا علمنا أن الكتاب ناقش موضوعات متشعبة ذات أبعاد واسعة، ولا يمكن إدراك الغرض إلا بالتلخيص النهائي في الخاتمة.
هل فعلاً سقطت النخبة وجاء زمن الشعبي؟ كما يكرر الدكتور في مقالاته وكتبه، أم إن النخبوية تترسم خطاها في أحاديثه، مثلما يطرح في كتبه، من خلال انصياعه للنسق واتباعه إياه، بدون علم منه، وكأنه في ظل مناقشة النظرية، ينقضها دون أن يدري.
لا أظن الدكتور يغفل عن الملاحظات السابقة، فهي مرتكزة في ذهنه، إنما في كيفية نقلها إلى "النخبوي / الشعبي" هل يمكن لنا التأكد من حسن النقل والإفهام، أم ستظل فكرة التشظي للمعنى وهروبه هي السائدة عند القارئ؟
ما علاقة الطرح النظري بالتفكير "النسق" السائد، وهل في الإمكان التغاضي عن جميع ما طرح؟ تلك نتيجة سوف تظهر في المستقبل، ولا يبدو أنها ستطول؟
هل جاءت قراءتي صحيحة وسليمة؟ أتمنى ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق