الصفحات

2013/05/17

هل الرواية ديوان العرب المعاصر؟بقلم: أ.د.عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي



هل الرواية ديوان العرب المعاصر؟
 أ.د/عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي

 تُرى: أ اللغة وسيلة في الحياة أم غاية؟ 
أ هي أداة تواصل فقط، أم هي مادة الحياة الثقافيَّة والحضاريَّة نفسها؟
إن اللغة أكثر من ذلك، فهي جوهر الإنسان، وهُويَّته.  ومَن لا يرى هذا، لا يرى شأن اللغة في الثقافات والهُويَّات، أصلًا.  غير أنه يتولَّد عن هذا سؤال آخر: أ مصدر الهُويَّة الشعبيُّ من العطاء الثقافي أم الرسمي؟
لا هذا، بالضرورة، ولا ذاك يمكن أن تنحصر فيه منابع الهُويَّة.  بل الهُويَّة تنبع روافدها من مَعين اللغة والتاريخ والحضارة.  فما جاء من ذلك المَعين الأصيل ففيه هُويَّة الأُمَّة. 
ولا شكّ أن الأمَّة العربيَّة إنما كانت أُمَّة شِعر بما كانت تستشعره، في لا وعيها الجمعي، من وظيفةٍ حِفاظيَّةٍ للشِّعر على اللغة والهُويَّة.  وقد صَدَق عمر بن الخطاب في معرفته بتراث العرب، حين وصف الشِّعر بأنه «عِلْم أُمَّة».  ومن ثَمَّ جاءت مقولة «الشِّعر ديوان العرب».  ولذلك لم تتشكَّل فنون سرديَّة عربيَّة تُذكر، إلَّا من خلال حكاياتِ بسيطة، ومقاماتٍ، وليالٍ، ومواعظ، ونحوها، من هذه الأنماط الساذجة في معيار الأبنية السرديَّة.  ذلك أن الأُمّة العربيَّة من أشدّ الأمم حفاظًا على ماضيها، واعتزازًا بسالفها.  كذلك كانت في ماضيها وسالفها، على الأقلّ!  وجاء الشِّعر وسيلتها المُثلى إلى ذاك الهدف المنشود.  لم يكن للعرب مسرح، ولا قِصص مركَّبة طويلة، عدا ملامح متناثرة، وركيكة البناء قصصيًّا، ناهيك عن لغتها السُّوقيَّة، أو الهجينة؛ لأنها نتاج حواضر إسلاميَّة، وأوساط شعبيَّة، يختلط فيها الحابل بالنابل، والعربي بالأعجمي.  حتى الملاحم الشِّعريَّة لم يعرفها العرب، على غرار أُممٍ أخرى.(1) 
لماذا؟
لسبب واضح، وهو أن السرد نتاج المجتمع المدني، والثقافة العربيَّة نتاج البادية والريف أكثر من أيِّ بيئة أخرى.  على أن المدينة هنا لا تعني الأبنية والشوارع فحسب، ولكنها تعني روح الأمَّة كذلك، والنظام التعدُّدي، والمجتمع المختلط، والثقافة الحِواريَّة.  ولذلك فإن العالَم العربي إلى الآن يعيش ديوانه الشِّعري. 
إن ما يشاع من أن الرواية هي ديوان العرب المعاصر، إنما يأتي من قِبل روائيِّين، أو نَقَدَة، مترفين، يوزِّعونه مجَّانًا، وهم في غرفهم المكيَّفة، البرجعاجيَّة.  وأمَّا الشعب، فما برح على بئر القصيدة، والأغنية؛ فهي أنفاس حياته الأزليَّة.  وهو يدرك- أي العربي العامِّي- خاصِّيَّة الشِّعر الوظيفيَّة، التي لا يجدها في الرواية.  خاصيَّته، اللغويَّة، والقيميَّة، والتغييريَّة، والثوريَّة أيضًا.  وهذا ما يتماشى مع طبيعة العربي، ومأثوره كذلك. 
كما يبدو أن العصر من جانبه آخِذٌ في مساعدة العربي على المضي في هذا الاتجاه الشِّعري العريق.  ذلك أن السيرورة التقانيَّة تبدو أكثر مناسبة لطبيعة الشِّعر، التكثيفية، أكثر من جميع الأجناس الأدبيَّة.  بدليل أن وسائل الاتصال الحديثة هي أكثر طواعيَّة بكثير للخطاب الشِّعري منها للخطاب السردي. 
وحين نعود إلى تطوُّر الفنون القوليَّة وتاريخه، سنلحظ أنها كانت سرديَّة في عصورها القديمة.  حتى الشِّعر نفسه كان سرديًّا، أو قل السرد كان منظومًا شِعرًا.  وكذلك كانت بعض الفلسفات والعلوم.  ثُمَّتَ انفصل الشِّعر واستقلّ، وتخلَّص من مطوَّلاته السرديَّة الثقيلة.  ومن هنا تبدو سيرورة التاريخ الأدبي نحو الشِّعريَّة، لا نحو السرديَّة؛ لأن ذلك هو اتِّجاه الرحلة التطوُّرية للمجتمعات البشريَّة نفسها، والرحلة التطوريَّة لتقنيات التخاطب كذلك.  ولقد لحق هذا التطوُّر فنّ القصّ نفسه؛ فجاءت (القِصَّة القصيرة) عَقِب الرواية- التي وُلدت عن الملحمة الشِّعريَّة- والقِصَّة القصيرة أقرب إلى الشِّعر منها إلى السرد؛ من حيث التكثيف والاتِّكاء على الرمز والإيماء، لا التفصيل والحوار والوصف الطويل، الذي لم يَعُد يحتمله لا الزمان ولا المكان في هذا العصر.  ثم جاءت (القِصَّة القصيرة جدًّا)، لتخطو خطوة أجسر إلى طبيعة الشِّعر؛ فالقِصَّة القصيرة جدًّا ألصق ما تكون شبهًا بطبيعة ما يسمَّى قصيدة النثر. 
لذا يمكن القول: إن أدب العرب- بالإضافة إلى عوامل البيئة والثقافة- كان نتاج عامل تطوُّري، ومنذ وقتٍ مبكِّر.  فالعرب، كغيرهم، قد مرُّوا ببعض عصور السرد، كما تدل على هذا بعض الملاحم القديمة التي عُرفت في حواضرهم الساميَّة، ممَّا اكتُشفت آثاره في العصر الحديث.  بيد أنهم أفضوا إلى الجنس الأدبي الأنسب لحياة القلق والترحُّل والرعي والبداوة، وكذا الأنسب للطبيعة الذاتيَّة الاجتماعيَّة، وإن كانت ذاتيَّةً قَبَلِيَّة؛ بمعنى أن ذاتيَّة الشاعر لم تكن لتنفصل عن جماعيَّته، وانضوائه القـَــبَلي، باستثناء صعاليك الشُّعراء. 
ومن هنا يتبدَّى أن (النظر إلى أن القول بسرديّة العصر هي رؤية عصريَّة) نظرٌ لا يلحظ من المسألة سوى جانبها السطحي، المتعلِّق بما تُعبِّر عنه الرواية، مثلًا، من تَعَدُّدٍ، وثراء، وسعة؛ وبكلمةٍ واحدةٍ من: (مدينة).  فالرواية مدينة.  غير أن تلك النظرة تَغفل، من جانب آخر، عن أن تقنية الراوية بدائيَّة، ومترهِّـلة، ولاتُناسب طبيعة العصر الحاضر، أصلًا.  فكما كانت لا تُناسب الحياة القَلِقَة وغير المستقرَّة في المجتمع العربي القديم، فإنها في المقابل لا تُناسب الحياة السريعة والقَلِقَة في العصر الحديث. 
إنها لمفارقة استنتاجيَّة أن يرى بعضهم عكس هذا، ويظلّ يزعمه وينافح عنه. 
على أن المدينة المعاصرة قد أصبحت- إضافةً إلى ما سبق- تنحو إلى «الكبسلة»، إذا جاز القول، ولم تَعُد تلك المدينة الكلاسيكيَّة القديمة، الفارغة للحكايات والأقاصيص.  بل بات التعبير عن ذلك بأن «العالم قرية صغيرة»، غير كافٍ للتعبير عن عالمنا المعاصر، الذي صار شاشة جوَّال صغيرة.  ومن هذا المنطلق بات من الضروري أن يُوجَد نصٌّ وامضٌ؛ يوائم ذلك كلّه، كالقِصَّة القصيرة جدًّا، تحكي روايةً في سطر أو سطرين، وتُناسب أن تصل إلى القارئ بعبءٍ أقلّ جدًّا، وحجمٍ أقصر، فيزدردها في وقتٍ لا وقت فيه لقراءة راوية، ناهيك عن ثلاثيَّة، أو رباعيَّة، أو غيرها من هذا الترف الخرافي السَّردي، الذي كان أيَّام البَحبوحة و«البَحْبَحَة» وطول البال! 
إلّا أنه يبدو أننا سنظلّ، نحن العرب، نُردَّد أن «العصر عصر الرواية»، وأن «الرواية ديوان العرب الحديث»، وإن ناقضنا الواقع والعصر والتاريخ.  سنفعل ذلك كعادتنا، ريثما يتناهى إلى أسماعنا شعار غربي آخر، يقول: إن العصر «عصر الشِّعر»، وأن «الشِّعر ديوان العصر»، فننبثق متصدِّرين الساحة لترديد ذلك الشِّعار، واجتراره، وترسيخه، والدوران في فلكه في كلّ فجٍّ عميق، من الملتقيات، والمؤتمرات، والسِّجالات، والحوارات، والكتابات، تاركين فنون القِصَّة برُمَّتها على الرفوف، حتى يأذن الله باستيراد شِعارٍ جديد، وهلمّ جرًّا. 
إننا نستورد رؤانا، وشعاراتنا، كما نستورد نظَّاراتنا، ولا نَصْدُق في قول ما نرى، ممَّا يدلّ عليه العالم الخارجي بالضرورة! 
لماذا؟
لأن العَشَى عامٌّ فينا، والنظارات ما زالت مستوردة!  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حول هذا انظر دراستنا بعنوان: «الشِّعر الجاهلي بين الغنائيَّة والموضوعيَّة (قراءة في جدليَّة الشِّعر والثقافة من خلال السبع المعلَّقات نموذجًا)»، (حوليَّات آداب عين شمس، جامعة عين شمس بالقاهرة، م35 (يوليو- سبتمبر 2007)، ص ص 827- 865).  ويمكن تحميل نسخة منها عبر هذا الرابط: [http://khayma.com/faify/index323.html]-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «هل الرواية ديوان العرب المعاصر؟»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12370، الأربعاء 14 مايو 2013، ص28]، على الروابط:


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق