الصفحات

2013/06/17

فصل من رواية دولة العقرب للروائي الكبير فؤاد قنديل

فصل من رواية دولة العقرب
 فؤاد قنديل 
 كنا واحدا وعشرين شابا حشرونا بعضنا فوق بعض في عربة نصف نقل كحلية اللون من عربات الشرطة ومعنا ثلاثة جنود برشاشات . توقفت السيارة أمام مبنى عتيق في ميدان لاظوغلي . أسرعنا بالنزول بعد أن كدنا مع الحر نتحول إلى عجينة واحدة من اللحم والعرق . صعدنا سلالم المبنى دفعا بقبضات أيدي الجنود . تحرك يا بهيم منك له قبضات متنوعة في الثقل وفي المواضع التي تصيبها وكلها في ظهورنا ، هاجمتنا ونحن قرب نهاية الدور الثاني صرخات وتأوهات عالية وطويلة تخرج من أعمق الأعماق تدل على آلام مبرحة تحاول تبليغ شكواها إلى السماوات . جسمي ارتعد وأوشك على التشنج . لابد أن المعتقلين يتلقون ضربات قاصمة بأدوات ثقيلة . تقطيع أجسادهم بسكاكين لا يسبب هذه الأصوات .. سيشوي الله أجساد المجرمين يوم جهنم تواصلت الصرخات الكثيرة القادمة من وراء جدران عديدة ومتفرقة . ثقبت قلوبنا وزلزلت أرواحنا . ما أن وصلنا إلى الدور الرابع في المقر الرئيسي لمباحث أمن الدولة حتى تمنينا أن نسقط على الأرض طلبا للراحة بعد أن تكسرت أعمدتنا الفقرية وتحطمت أكتافنا . طلب منا الضابط الوقوف للعد والتسجيل . أدخلونا جميعا في حجرة كابية متهرئة الجدران . الصراخ لا يتوقف . وضع معظمنا الأكف على الآذان . البعض حاول أن يعلق فلم يجد الكلمات ولم يجد لسانه . الكل متوتر والأيدي تخبط بعضها . النظرات زائغة . الغرفة فارغة تماما إلا من روائح مقززة لا تحتمل. ربما كانت هنا دلاء كثيرة ممتلئة ببول طال تخزينه. لا توجد مقاعد ولا أسرة . بقينا واقفين . لا أدري ماذا جرى لي . أحسست كأني مصاب بالجرب . جلدي يأكلني فأهرش في قفاي ورأسي . جلدي يأكلني في كتفي وصدري فأهرش حيث أحس بالقرص الخفيف المتواصل والمتحرك بسرعة مثل فأر يحاول الهرب. بدأت الصرخات تخفت تدريجيا حتى توقفت. ياه .. توقف الهرش واختفى الجرب . عادت الأعصاب إلى مواضعها إلى حد ما وظل الترقب سيد الموقف . لحظات قليلة ثم دخل علينا ثلاثة جنود ضخام الجثث . لم أكن أتصور أن الإنسان وصل إلى هذا الحجم ، أكبرهم رتبة يحمل رشاشا والاثنان يحملان أكياسا سوداء . قال الأعلى رتبة والأضخم : أهلا بالشباب لم نرد ربما من هول المفاجأة . فاستطرد : نورتم لاظوغلي أخرج كل جندي من كيسه بعض الأقمشة السوداء ومضي يلفها حول العيون . عصابة من قماش خشن جدا وله رائحة بشعة لعلها بول أيضا . ربطها الجندي على عيني بشدة حتى شعرت بالاختناق والعمى . لما انتهت مهمة تعمية العيون أمروا أن نتوزع على أربعة صفوف . كل صف به خمسة ، والأخير به ستة . سرنا مغمضي العيون وراء الجنود . عند باب الحجرة الأولي دخل الصف الأول ، وعند الثانية دخل الصف الثاني وهكذا . وسرعان ما بدأ حفل الاستقبال . بعد أن دخلت الغرفة الثانية وأغلق الباب إغلاقا محكما نزلت على كل أعضاء جسمي الضربات . أظن أن عشرة على الأقل كانوا يضربونني . تيقنت إنهم مجموعة من الأخوة الجزارين انطلقوا ينتقمون مني لأني من وجهة نظرهم قتلت أباهم وأمهم ، وربما زوجاتهم وأولادهم أيضا ، وسرقت كل ما يملكون . زعق اثنان من رفقائي الأربعة وسمعت بكاء ثالث هو أصغرنا جميعا . كدت أبكي من أجله صرخت فيهم : نحن مصريون مثلكم يا أولاد الكلب قال أحدهم وهو يوجه ضربة قوية إلي رأسي : إذن لابد من ضربك حتى تنسى يا بن الشرموطة . ظلوا يكيلون اللكمات ويوجهون الضربات ويصفعون بالأكف .. لم أستطع الاحتمال . حاولت توجيه أية ضربة لكنني لم أكن أرى أحدا وكانت محاولتي تؤدي دائما لمزيد من الضرب .. فاض بي الألم وتنبهت أنني كنت أتأوه بشدة ولم يكن الضرب يتيح لي فرصة أن أسمع صوت ألمي الفادح.مضى السفلة يقذفون الأقدام المسلحة بالأحذية الثقيلة في مؤخرتي وجنبي وصدري ووجهي ورأسي حتى ارتطمت عدة مرات بالجدران الصلدة . الصراخ يتوالى والآهات تمزق القلوب . أحسست بالدم يسيل من وجهي ثم سقطت على الأرض فتابعوا قذفي بالأحذية وعجن بطني وصدري ثم رفعي عن الأرض ومعاودة اللكم والصفع و والتركيز على الصدر والبطن والظهر والمؤخرة إلى أن تهاويت مغشيا علي . استيقظت على أصوات الألم وصراخ الرجال من شدة ما يتلقونه من ضرب وتكسير عظام .مرت سنوات من الضرب والسحق وأظن أن الدفعة الأولي من الضاربين استبدلوا بدفعة ثانية وربما ثالثة. بقينا ثلاثة أيام نتلقى فطورنا في الصباح بالصورة ذاتها التي تم استقبالنا بها ثم يوزع علي كل فرد بعد أن يفيق من الغيبوبة - إذا أفاق – رغيف متحجر ومترب كان فيما يبدو منشور على سطح المبني عافته العصافير والفئران وقطعة من جبن نصف متحجر ، و في المساء نتلقى طريحة أقل من الضرب مع كثير من البصق و الشتائم الموجهة للوالدين والأخوات مع رغيف مقدد وطبق صدئ به عدس مملوء بالحصى . كان علينا أن نشرب من دلو به ماء تطفو على سطحه شوائب كثيرة لم أحاول معرفة طبيعتها لكن بعضها كان يتحرك، وفي يد الدلو كوز مربوط بحبل، ودلو آخر للتبول لم يتم التخلص منه طوال وجودنا في لاظوغلي. قاومت الظمأ طويلا إلى أن اضطررت للشرب من الدلو . لم أجد ما أنتشل به الشوائب . كان قد نفذ منذ اليوم الأول كيس المناديل الورقية الصغير في تجفيف بعض نقاط الدم التي سالت من أنفي وفمي وقدمي . تناقشت مع زملائي في الغرفة في مشكلة الماء . وافقوا على اقتراحي بأن نمر بالكوز على سطح الماء بالعرض وببطء لنجمع أكبر قدر من الشوائب العالقة وننثره على الجدران ، فتخف إلى حد ما . جربنا مرة ثم اقترح جميل أن نغسل به وجوهنا بدلا من رميه. وافق الجميع بعد أن اقترح ثالث أن يكون ذلك بمس الماء والمسح على الوجوه. المهم شربنا الماء مع ما تبقى من الشوائب. في اليوم الرابع بدأ معنا التحقيق كل فرد على حدة. كانت لجنة التحقيق مكونة من نقيب وجندي للضرب وجندي للتسجيل . دهشت لأنهم خصصوا لي كرسيا ولم أنل هذا الشرف منذ وصلت قبل عدة أيام مرت كسنين ، كان الكرسي مطلوبا بالطبع حتى أكون أمام عيني المحقق وهو يوجه لي الأسئلة ويستطيع تأمل ملامحي إذا كذبت أو سخرت أو أبديت أية إشارة ، ولكي يتمكن جندي الضرب من ممارسة مهامه بعناية وإتقان . سألني النقيب عن اسمي ، قلت بمنتهى الأدب : ناجي الورداني تنهد متمسكا بالصبر وإن كشفت نظراته المتوعدة عن أنه يكبح غضبا هائلا. قلت في سري : لماذا الغضب يا باشا ونحن لم نبدأ بعد ؟. قال : اسمك رباعي يا رمة يا بن الرمة تنهدت كبحا للغضب . المفروض أن أقوم وأمسح بكرامة أهله الأرض . لا أحد يسب أمي . إلا أمي . للأسف سبوها كثيرا . لا أعرف حتى الآن السر في العداء الشديد الذي يكنه معظم رجال الشرطة خاصة الضباط للأم . هل السبب فقط هو محاولتهم إهانة الرجال ؟ . لم أجد الفرصة لا للغضب ولا لتفسير عقد الضباط المدربين على هذه السفالة. قلت : ناجي أحمد رمضان الورداني سيادة النقيب المنتسب لجهاز قذر مثله أسمعني قائمة طويلة من الاتهامات التي لا يقل العقاب عليها عن الإعدام .. اعتداء على ضابط الشرطة أثناء تأدية عمله . سب الضابط بألفاظ فاحشة . البصق عليه وعلى الجنود . اختطاف سلاح ميري. توزيع المنشورات المعادية للنظام . المشاركة في تكدير الأمن العام .. قيادة المظاهرات دون الحصول على موافقة الجهات المعنية . إلقاء زجاجات المولوتوف على قوات حفظ النظام والتسبب في إصابات عديدة بين الجنود . إطلاق هتافات تزدري النظام لاستعداء الجماهير ضده. رفع لافتات تتضمن السب للقيادة الأعلى ، ولافتات أخرى تتضمن رسوما وكلمات مسيئة للقيادة الأعلى و لكبار المسئولين . تحطيم بوابات وأسوار ونوافذ عدد من الممتلكات العامة .إشعال النار في ثلاث سيارات نقل جنود خاصة بالأمن المركزي . تحطيم وتدمير عدد من السيارات الخاصة . جر العابرين في الشوارع لإجبارهم على التظاهر وترويع الآمنين.تعطيل حركة المرور . الانتماء لحركات وجماعات غير قانونية . التحرش ببعض الفتيات العابرات بحجة دفعهن للمشاركة . سألني النقيب الوسيم : ما قولك فيما هو منسوب إليك ؟ حاولت أن أجيب مباشرة بالنفي أو بغيره فلم أستطع . لم يكن يدور في ذهني غير أن هذه التهم لا يمكن أن يقدم عليها شخص بمفرده ولا العشرات .ولم أستطع أن أمنع نفسي ولتكن العاقبة ما تكون من قولي : أظنك نسيت جرائم أخرى ياباشا؟ قبل أن أكمل كانت صاعقة قد نزلت على سلسلة ظهري فقصمته. وقعت ووقع فوقي الكرسي الذي كنت أجلس عليه . حاولت أن أقوم بسرعة قدر الإمكان حتى لا يسب الضابط القذر أمي ، نهضت بصعوبة فقد أحسست أن ظهري انقسم نصفين وعمودي الفقري تفكك بحيث انفصل عنه الحوض ونصفي السفلي كله . أعاد النقيب سؤاله ، قلت له بأكثر لهجة مهذبة في غير موضعها: أرجو سعادتك أن تنسى مؤقتا إنك تمثل جهاز أمن مهم ، وتقيم الاتهامات الموجهة لشاب يريد أن يبني مستقبله وهو خريج جامعة وممثل مسرحي و .. أولا لا يجب أن أنسى عملي وجهازي يا حثالة المجتمع ، ثانيا أنا أنفذ الأوامر ولست أنا من حدد الاتهامات ، ثالثا التمثيل يكون في بيتكم وليس هنا ، رابعا عليك يا بن الجزمة الإجابة فقط على الأسئلة التفت فجأة للجندي الثاني وقال له بعبارة حادة : أنت تتفرج علينا ، لماذا لا تسجل ؟ والتفت إليّ وقال : خلصنا في يومك الأسود وإلا أجلت التحقيق معك أسبوعا تشرفنا هنا في الجهاز ونزيد لك الوجبات تفضل سعادتك أنا تحت أمرك ما رأيك في التهم المنسوبة إليك؟ يا فندم أنا فعلا اشتركت في مظاهرة احتجاجا على الانتخابات المزورة قاطعني بحدة : وأنت مال أهلك ؟ .. أنت ممثل ..مثل يا سيدي براحتك . هناك من يتحملون كلامكم الفارغ . ما ذنب البلد؟ والانتخابات لو كل واحد انصرف لعمله وأخلص له سيكون كل شيء على ما يرام يا فندم مرة أخيرة وإلا علقتك .. ما رأيك فيما هو منسوب إليك؟ لا أعترف بأية واقعة منها غير أني حاولت بالتظاهر التعبير عن رأيي بشكل سلمي تماما اعترف الآن بشكل سلمي تماما وإلا ستعترف بشكل غير سلمي بالمرة اختر مصيرك بالصورة التي ترضاها لنفسك ومستقبلك كيف أعترف سعادتك بأمور لا علاقة لي بها وأقسم بالله العظيم لسنا في محكمة وحياة أمك .. إذن لن تعترف أحنيت رأسي ولم أجد ما أقوله وإن كنت أفكر فيما يمكن أن أتعرض له لكني لم أسمح لنفسي بالضعف والاستسلام . أعرف يقينا أنني سوف أتلقى ضربا مبرحا وتتحطم عظامي ، لكنني لن أخون نفسي ولا الناس المعذبين والمقهورين .. لقد اتفقت مع الزملاء على الثبات . الثبات . تعرضت ورفاقي للضرب الشديد وقد زادت الوجبات بالفعل كما صرح الضابط ، وتأكدت لنا رغبتهم في الانتقام ليس منا فقط ولكن من كل من تخطر بباله ولو لحظة فكرة المقاومة . إنهم يرفضون مبدأ عدم الإذعان . لا يتخيلون أن أحدا من أبناء الشعب المصري يمكن أن يقول للسلطات لا ، حتى لو كانت بسيطة وقليلة الشأن . ومن هنا يشعرون بالخطر المحدق بهم . ولا يتصورون غير حتمية أن يسحق كل من لا يقر بارتكابه جريمة المقاومة لأنه ببساطة يرفض فلسفة النظام العبقرية في خلق حالة توافقية بين كل المتناقضات ويقيم بينها انسجام نادر . لذلك لابد أن يعاقب بشراسة من يفكر في هدم البناء . ليس مٌهما لو مات الآلاف من أجل الحفاظ على النظام والسلطة وهيبة الدولة التي توفر الاستقرار الوهمي للملايين ، وقد كان يمكن أن تبتلعها الانقسامات والحروب والأنظمة الشيوعية العفنة أو الإسلامية المعقدة. إنهم يحمون البلاد ضد الأعداء بكافة أشكالهم ويثقون أن الأعداء لا ينقضون علينا من الخارج فقد تم تحييدهم وترتيب رشوتهم وإبعادهم ، أما الأعداء الحقيقيون المتجددون فهم كل الخارجين على النظام من أبناء البلد. في أحد الصباحات التعسة دخل جندي الضرب الذي حضر التحقيق وقال: لن تتناولوا فطوركم اليوم لأنكم ستنقلون إلى السجن سأل رمزي نصيف بحذر: قبل أن نعرف نتيجة التحقيق؟ نتيجة التحقيق أرسلناها للسجون التي ستنقلون إليها عصر اليوم مال الجندي وفك الكوز من دلو ماء الشرب واغترف من دلو البول وسكبه في الدلو الأول مرتين وخرج. حركة بسيطة جدا لم يصاحبها سب ولا ضرب أداها الجندي بهدوء مع ابتسامة خفيفة وكأنه يتمنى لنا ليلة سعيدة . حركة تدل علي ضمير يقظ وإحساس ، فالجندي لاحظ أن دلو الشرب ناقص ولا يجب تركنا ظمأى فصب فيه كوزين من الدلو الثاني بشع الرائحة توقعنا والسيارة المغلقة بإحكام تمضي في طريق المعادي أن يكون مستقرها اللعين في سجن طرة ، لكننا تجاوزنا سجن طرة ومضت السيارة بسرعة أكبر لعدة كيلومترات حتى بلغت مبني ضخما فتوقفت أمامه وأمرونا بالنزول . كنا سبعة. سور عال يصل ارتفاعه إلى نحو ثمانية أمتار. ويكاد يكون طوله بلا نهاية. تبدو جدرانه خشنة جدا . سأل رمزي السائق عن المكان ، قال : طول العمر لك . هذا سجن العقرب. اصفر وجه رمزي ومؤكد اصفر وجهي لأني كنت قد سمعت به من صديق صحفي . استقبلتنا بوابة ضخمة مصفحة من الخارج والداخل لا يخترقها الرصاص . وزعونا على الزنازين . عنابر ضخمة ومهيبة . جدرانها سميكة جدا . مباني لابد إنها ابتلعت كميات هائلة من الأسمنت والحديد قادرة على أن تعيش آلاف السنين شاهدة على وحشية العهد. أدخلوني زنزانة فيها تسعة معتقلين كانوا جميعا يتأوهون فقد تلقوا وجبة الغذاء منذ قليل . قلت : السلام عليكم لم يرد أحد . اثنان فقط حركا رأسيهما في وهن شديد . أدركت الحالة المأساوية التي يعانيانها . سقط قلبي في قدمي. جلست في موضعي . كنت ظمآنا جدا ومجهدا جدا لم تلمس شفتاي قطرة ماء منذ الأمس . في الصباح ناداني جندي فخرجت من الزنزانة . قال : اخلع كل ملابسك إلا قطعة واحدة. تبعته إلى الخارج . وجدت ثلاثة جنود معهم عصي تلمع في أشعة الشمس . قالوا : ستتوجه الآن للتحقيق . قلت بقدر قليل من الدهشة : تم التحقيق معي في لاظوغلي . قال أحدهم : لاظوغلي مخصص للأطفال . هيا بسرعة نم على بطنك . ستزحف إلى غرفة التحقيق . نظرت إلى الأرض كان هناك ممر بعرض مترين مفروش بالحصى مسنن الزوايا . انحنيت ببطء فتلقيت أول ضربة من العقرب. أدركت بصورة ما أن لاظوغلي فعلا للأطفال. سقطت على الحصى . هممت أن أرفع جسمي وأعتمد على يديّ وقدميّ فلم أستطع ، ولما تنبهوا لما أنوي عمله كسرت ظهري ضربة حذاء ضخم أو ربما تم الضرب بالفردتين معا . زحفت بطيئا فمزقني كرباج . بدأت أقوي عزيمتي وأتعامل مع خناجر الحصى التي تمزق جسدي وتثقبه . خمسة وثلاثون مترا حتى غرفة التحقيق . كنت أزحف كالتمساح الصغير المطعون . لكني تعلمت كيف أتعامل جسديا مع كل ألوان العقاب حتى الآن . عندما وصلت وأمروني بالوقوف أمكنني أن أرى بطني وصدري وفخذي وقد تحولت إلى غربال تتساقط من ثقوبه قطرات الدم .فتح الجندي بابا حديديا مصفحا . تلاه بعد مترين باب خشبي ربما كان من سمكه مصفحا أيضا . طلع عليّ هواء شديد البرودة حتى أنني ارتعدت وتداخلت لكني كنت راضيا به وتمنيت أن يدوم قليلا . لمحت ضابطا يجلس على مكتبه الفخم . الحجرة مزينة بالأعلام وبراويز ذهبية بداخلها شهادات وعلى المكتب أقلام فخمة ودفاتر أنيقة وكسوة جلدية . دفعنى الجنود فجأة وبمنتهى القسوة نحو باب آخر . اجتزته فإذا حجرة تفح لهيبا و بها أدوات ومقابض . دفعني الجندي وأمسك بعصا تبرق لمس بها كتفي فانخلع قلبي وصرخت بشدة . مر بها على صدري وبطني ورقبتي فقدت نصف وعيي ثم لكمني فأوقعني . دخل الضابط وقال كلمتين: سنجري التحقيق في مكتبي ثم توقع عليه .عدم توقيعك يعني موتك . لا وقت لدينا . واضح ؟ لا أدري لماذا قلت : واضح خرج الضابط بعد إشارته للجندي أن يتبعه . جرني الجندي إلى غرفة الضابط المكيفة . قال الضابط على الفور : وقع سألت وأنا أوشك على فقد بقية الوعي : علام أوقع ؟ ضرب الضابط المكتب بقبضة قوية زلزل صوتها الجدران وزعق : وقع تلفت حولي فسقطت الصاعقة على ظهري انحنيت ووقعت وشعرت بالانهيار . تهاوي جسدي لأفيق في الزنزانة . فجأة همست : أين أنت يا ريم ؟ ..أين شباب الحركة . أين شباب 6 إبريل ? .. أنت على كل ظالم يا رب. قال معتقل تجاوز الستين على الأقل : الحمد لله إنك بنفسك صححت النداء . لا تنادي البشر. توجه فقط إلى ربك .. سألته : منذ متى وأنت هنا ؟ منذ تسعة وعشرين عاما وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما وخمس ساعات. لم أكن هنا منذ البداية . جئت مع افتتاح هذا السجن عام 1993 . قضيت قبله اثنتى عشرة سنة بين مزرعة طرة وأبوزعبل والوادي الجديد في سجن بطن الحوت . تنهدت ودهشت . توقفت حواسي لحظات . أشار لي على المعتقلين الآخرين . أقلهم قضى عشرين عاما ، وبعضهم أنجب ابنته ثم دخل السجن وعمرها عام والآن لديها أولاد وهو لا يزال هنا ولا يعرف عن أهله شيئا ولا يعرفون. سألته عن سجن العقرب. قال . هذا السجن بدأ إنشاؤه عام 1991 تنفيذا لاقتراح من حسن الألفي وزير الداخلية ومساعده حبيب العادلي الذين وافقا على مذكرة قدمتها بعثة من الضباط قضت شهورا للتدريب في أمريكا . استغرق بناؤه عامين. يتكون من أربعة عنابر تأخذ شكل حرفh . كل عنبر يضم نحو خمسة وسبعين زنزانة مجموعها 300 زنزانة للسجناء وعشرين زنزانة مخصصة للتأديب . كل عنبر معزول تماما عن باقي العنابر ويغلق ببوابات مصفحة من الداخل والخارج أي كأن السجن يتكون من أربعة سجون كل منها منفصلة تماما عن الأخرى ، وهناك ستة مكاتب للتحقيقات مكيفة الهواء وملحق بكل منها غرفة تحتوي على أدوات الصعق الكهربائي . وسجن العقرب مبني على الطراز الأمريكي الذي لا يسمح بمرور الهواء، ويستحيل الهرب منه ولو باستخدام الدبابات . أين أنتم يا شباب 6 إبريل؟ وأين أنت يا ريم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق