الصفحات

2013/06/04

محبورة ... قصة بقلم: عبد العزيز مشرف

محبورة ...
 عبد العزيز مشرف 
كنت متعلقة بذراع سلمى إحدى أكثر صديقاتى خجلاً فى طريق العودة بعد يوم دراسى سخيف كالعادة , نسير على الرصيف بمحاذاة البحر الذى هو فى الواقع ترعة ليست بالضيقة ولا بالواسعة , لكنّ أهل مدينتنا الريفيين جعلوها بحراً تيمناً – ربما - أو حنيناً إلى جذور بعيدة , بينما نحن فى ثرثرتنا المعتادة إذ بعينى تقع عليها هناك على شاطئ البحر فى المنعطف الذى يمنح الشاطئ اتساعاً مستلقية ممدّدة فى استسلام تام للخفوت إلا من ارتعاشات تحرّك ساقيها وإحدى أذنيها . لست أدرى لم تركت ذراع سلمى واتجهت نحوها متجاوزة السور الحجرى المنخفض الذى يفصل المساحة المتسعة من طرح النهر عن الطريق حتى وصلت إليها بينما سلمى تنادينى وكلما تكرّرت نداءاتها ازداد معها حنقها ونعتتنى بالجنون والخبل , وأنى سأجعلنا للناس فرجة , كادت تسب كل آبائى وتنطلق هى إلا أن ما بيننا حال بينها وبين ما تشتهى . الحمارة الممدّدة هناك تبدو مسكينة , والذباب الضخم يعبث بجراحها الكثيرة , وعنقها الممتدّ على الأرض وقوائمها المتشنجة , وأسنانها البارزة من مشفريها ترشح ألماً وعذاباً , تأملتها قليلاً ثم مسّدتُ عنقها فشعرت بارتعاشات جسدها , قرّرت أن أفعل شيئا , وأنا التى لا أجيد شيئاً . كان بعض المارّة يقف خلف سلمى وإلى جوارها يرقبوننى باعتبارى غريبة الأطوار بينما سلمى تكاد تقول : " يا أرض انشقى وابلعينى " , وأحدهم – وهو رجل كبير – ينادينى : ارجعى يا بنتى لا تجلبين الأذى لنفسك , دعى الحمارة تموت , أأنت من تنقذين العالم , وأخرى فى سخرية – زادتنى عناداً : " والنبى أنت فاضية " . كثر الناس , وصارت سلمى كأحدهم متفرجة فلم تعد تشعر بالضيق الكبير الذى كانت فيه , صارت ترتقب إلام ستصير الأمور ؟ ويبدو أن منظرى أنا والحمارة قد استرقّ بعضهم , أو ربما هو حب الاستطلاع دفعهم للاقتراب أكثر حتى وصلوا إلىّ : كنت أحتفظ برقم هاتف مستشفى كلية الطب البيطرى فطلبت من أحدهم الاتصال بهم وإبلاغهم بالحالة لإسعافها , أجابوه أن علينا أن نحضرها إلى المستشفى بأنفسنا , فبات لزاماً أن ندبّر سيارة نقل , وبعد لأى ومساومة مع السائق المندهش المغالى جداً فى أجره جاء, ودفع كلٌ شيئاً من أجرة السيارة , حاولنا رفعها لم نستطع حتى زحزحتها إنها ثقيلة جداً وعاجزة جداً . كان الناس قد بدءوا فى التفاعل معنا والتعاطف بعد فترة , سارع أحدهم باستدعاء مجموعة قريبة من عمال النظافة لترفعها على السيارة وما لبثوا أن جاءوا وبعزمة واحدة رفعوها باحترافية نادرة , هم – حقاً – كادوا ينزعون ذيلها , و يفصمون أذنيها إلا أنها فى النهاية أصبحت فى السيارة . سلمى ... سلمى ... أين سلمى ؟ ها هى ! أركبتها – وقد أفاقت من ذهولها - إلى جوار السائق بينما بقيت بالخلف مع الحمارة حتى بلغنا المستشفى , وكان استقبالهم ودوداً لا يخلو من دهشة – أيضاً - أخبرونى بعد قليل أنها تعانى من إجهاد شديد وضعف عام وجروح كثيرة ؛ لأنها لم تأكل منذ فترة طويلة , وأنّها كادت تموت , لكنّها – إن شاء الله – ستتحسّن . دعوت على من ألقاها هكذا , ولم يطعمها أن ينتقم الله منه , وغادرت , وبعد أيام ثلاثة ذهبت وسلمى للاطمئنان عليها فوجدناها واقفة فى الحظيرة تتناول طعامها , وتبدو عليها علامات التعافى , فقرّرنا أن نختار لها اسماً فكان " محبورة " .

هناك تعليق واحد: