الصفحات

2013/11/11

لعنة باخوس.. بقلم: أحمد بلقاسم



لعنة باخوس
"وراء كل رجل عظيم امرأة" بونابرت
أحمد بلقاسم
       الرجل ذو القامة المديدة، النحيل الجسم، الشاحب اللون، ذو الرأس المغشى بالبياض، والعينين الضيقتين، والشاربين الأصهبين، يبدو أنه قد خطا خطوات حثيثة في عقده الخامس، خرج كالسهم من الدار البئيسة وترك الباب مواربا عن قصد، أو عن غير قصد، كان يرتدي بذلة رمادية، اقتطعها من سحابة كئيبة، وينتعل حذاء أسود، حرص على تلميعه، يحدث طقطقة مع كل خطوة كان يخطوها في الزقاق الضيق الطويل، كان يرضع سيجارة شقراء، ينفث دخانها من فمه الأترم في كل اتجاه، ويرفع رأسه هنيهة، ثم يطرقه وقتا طويلا، ناظرا إلى الأرض، كعالم كبير يبحث عن حل لمشكلة عويصة، مثل البحث عن رقعة لرتق ثقب الأوزون.
      قبل أن يبتلعه الزقاق الضيق الطويل، أدركته سيارة وانتشلته من فم الزقاق، ما إن ربط حزام السلامة وأسند ظهره إلى المقعد، بادره السائق:
       - لاتبدو شاحبا ومتوترا؟
       - الولد تشاجر مع أخته.
        - ................!؟
        - كأني به يغار منها.
        - ................!
       - الولد كما تعلم بلا شغل، وأمه بدل أن تفض الشجار، راحت تصب جام غضبها علي، وتلومني، كوني لم أساعده على الهجرة إلى الخارج.
       - تقصد "لحريك"؟
       - إنها تنكأ الجراح وتدميها.
       - هون على نفسك يا صاحبي، لدي البلسم الشافي لجراحك، وفي أرقى مشفى.
       - آ آ آ آ آ آ آه
       - لن نذهب إلى الزاوية المعتادة.
       - لماذا؟
       - سنغير العتبة.
       - ولكن، أنا جيوبي مجروحة هي الأخرى.
       - ما ولكن والو، واحد الهمزة جابها الله ،ساهلة، ماهلة.
       - ربما الخيول التي علفتها من زمان  سمنت و لم تخيبك .
       - لا خيول ولا هم يحزنون، إنما توسطت للحاج فلان، ودور معي تدويرة صحيحة، الله يخلف عليه.
       - بصحتك، تستاهل.
تندلق من الفم الأترم ابتسامة لا لون لها، ثم يعقبها سؤال مباغت.
      - قل لي، هل تشاجرت مع أحد ما فأفقدك جل أسنانك؟
      - نعم تشاجرت... مقهقها ها ها ها.
      - مع من؟ وقيل مع شي بوكسور قوي!
      - لا. مع بوكسورة...
       - مع من الله يخليك؟
       - مع زجاجات الجعة، كلما حاولت نزع سدادتها بأسناني، نزعت لي هي سنا حتى صار فمي كما ترى.
       - أصبح مثل البزطام.
       - قل أترم.
      - لغة الكتب ها ها ها ... ما عطاتك والو أصاحبي.
      - صدقت، أنا أعرف فقط كيف تكتب الهمزة، أما أنت فتعرف كيف تكسب الهمزة، ها ها ها .
 قهقهة كأنها حشرجة الموت.
         في الزاوية المصنفة، اتخذا لهما مكانا مرموقا، هرع إليهما النادل، فنقده ذو الهمزة الساهلة الماهلة، وطلب منه الكثير من الزجاجات، وذو الفم الأترم ازدادت عيناه ضيقا، بينما انبسطت أسارير وجهه المكدود، وكلما ناولهما النادل البلسم الشافي، كلما انحلت عقدة الفم الأترم.
         من الباب الذي ترك مواربا، خرجت فتاة هيفاء، ممشوقة الجيد، رشيقة القوام، في ذروة الطراوة، مرفوعة الرأس. التفاتاتها ونظراتها إلى المارة، تنم عن كبرياء مفضوح. كانت ترتدي قميصا حريريا نصف كم، مطرزا بالأبيض والأسود، كأنما قدمن جلد نمر، وسروالا لاصقا، بلون أبيض. يتراءى من خلف هذه الثياب الشفيفة، قدها المصقول. ما إن خطت خطوات محسوبة، في الزقاق الضيق الطويل، حتى تلقفتها سيارة عصرية، مكشوفة الغطاء.
     - ما بك يا جوهرتي؟
     - أعصابي متوترة أف ف ف ...
     - لم هذا التوتر والتأفف يا لؤلؤتي النفيسة؟
     - أخي يحرجني أمام الوالد والوالدة، دائما يعيد أمامهما أسطوانته المشروخة.
     - أفصحي؟
     - يسألني من أين لك هذا؟ وهي تشير إلى هاتفها الخلوي، ومن أين لك هذه؟ وهي تمسك بالسلسلة الذهبية المتدلية على الصدر بلا مبالاة، ومن أين لك هذا، وهي تحرك  الخاتم في الأصبع الوسطى في اليد اليسرى تمنيت لو أنه"حرك" بحال قرانو.
      - "صبري شويه، داب يتهرسو لو القرون" وهو يركن السيارة بمحاذاة الزاوية .
      - أوكي، باي.
ودعته بقبلة على الخد الحليق، ابتسمت ثم حملقت في عينيه، بادلها الابتسامات والنظرات، حتى وصلت باب الزاوية، غمزها غمزة برتقالية بعين السيارة.
قبل أن تباشر عملها المعتاد، حرصت على تعكير الشفتين بلون البن، وتكحيل العينين بلون الليل، ورسمت على الخدين ظلين محتشمين، وصففت شعرها الأثيل، ذا اللون الحجري، ثم أسدلته على الكتفين، وتعطرت بعطر الإغراء والإثارة، وشدت أزرها، بحزام يخاله الناظر هالة تطوق كوكبا. تذكرت لهنيهة تلاسنها مع أخيها، رغم أن كلماته كانت تخرج من فمه موؤودة مثل شهادته الجامعية. تنهدت وزمت شفتيها كأنها تتذوق طعم بنّهما.
باشرت عملها في الزاوية المصنفة ذات الخمسة نجوم، حيث ذو الهمزة ما انفك ينقد النادل نقدا على بلسمه الشافي، وذو الفم الأترم ينقده ابتسامات لا لون لها، وكلاهما يطلب المزيد من الدواء، والنقد والابتسامات حتى إذا ما رأى ذو الفم الأترم، الهيفاء تتلوى كأفعى في- جامع الفنا- قام يريد مراقصتها، لم تسعفه قدماه ، وإن أسعفته الكأس، كانتا تنثنيان واهنتين، كأنهما مصنوعتان من الشمع.
        مثل ديك مذبوح، نشرجناحيه على ذراعي الأريكة، وبسط إلى الأمام الساقين الرخوتين، مثل خشبتين متوازنتين. لفظ أنفاسه دفعة واحدة، وترك رأسه الثقيلة تتدلى نحو الصدر، لقد انتقل إلى عفو باخوس في ملكوته الأعلى، حيث رآه رأي العين، يطير ويرف بجناحي ورق الدالية، ورأى عينيه ترشح منهما بنت الكروم النواسية المعتقة. دنا منه فضمه بين جناحيه، وأعطاه مفتاح المفاتيح، فشكر باخوس على جوده وكرمه، فالمفتاح الذي طالما تمناه ملكا له، ها هو الآن بين يديه، سيخلصه من ذل الكراء، وسيضع حدا لشجار الأخوين، كما سيضع خمسة ممتلئة في فم الزوجة الشامتة، وسيريحها من اللجوء إلى قاموس الاعتذار للكاري. نفض جناحيه، وصاح ملء منقاره الزجاجي أين أنت يا صاحبي؟ يا ذا الهمزة؟ بحث عنه ليريه مفتاح الأزمات، بحث عنه بين العيون الحمر، والرؤوس المترنحة في تثاقل، والبطون المنتفخة، وبين الزجاجات الملأى، والفارغة. رمقه وسط سحابة دخان كثيف من الألوان القزحية، كان يراقص أفعى، ويده تدس أوراقا بنكية تحت ورقة التوت الشبقية. تقدم نحوهما متمايلا، ثملا، يريد مجاراتهما في التواءاتهما. حدجته الأفعى، فزعت لرؤيته، فتوارت عن الأنظار، سأل صاحبه  عن سبب نكوصها، لم يلق منه جوابا، بل رد عليه مازحا:
     - ربما خافت من فمك الخرب، وجسمك النحيل كعود ثقاب.
     - وحق باخوس ما أردت إلا مراقصتها.
        ما كاد ينهي كلامه، حتى امتدت إليه يد "الفيدور" السليطة الطليقة، فكمشته كمشة واحدة، وألقت به خارج الزاوية المصنفة. وأدخلته في غيبوبة  برهة من الزمن لما استفاق، قام كما يقوم كلب تجرع السم، وهو يرتعش زائغ النظر، تائه الخطو، شعر بدوار شديد يعصف برأسه. وبينما هو يبحث عن بوصلته لترشده إلى سواء السبيل، إذ بدورية أمن تنتشله من دوامته، وتقتاده إلى مخفر الشرطة. هناك لم تطاوعه رجلاه صعودا ونزولا، وانعطافا، لما طلعت عليه شمس الصباح، وجد نفسه يقاوم أسئلة محرر المحضر.
      - ما اسمك؟
      - حماد الراوي.
      - ظاهر عليك راوي، راوي مزيان.
      - اسم أبيك ؟
      - قويدر الراوي.
      - اسم أمك ؟
      - حدهوم بوشارب.
      - ما فيه شك شربت حتى رويت.
      - ماذا تشتغل؟
      - لماذا أنا هنا؟
      - أريد جوابا لا سؤالا مفهوم؟
      - أستاذ.
      - أين تسكن؟
      - حي الكرم، زنقة التيسير رقم1. ولماذا جئتم بي هنا؟
      - بل قل لماذا ذهبت لتعثو فسادا في الزاوية؟
      - لم أفعل شيئا، إنما أردت أن أرقص.
      - بتصرفك هذا، تضع العصي في عجلة تنمية البلاد.
      - أردت فقط مراقصة إحدى الحيات.
      - أنت لست-عيساويا-؟ كي تفعل ذلك.
      - راه اتقينا فيك الله، ما بغيناش نخرجولك على خبيزتك ، مفهوم؟
      - نعم فهمت، شكرا.
      - احذر لعنة باخوس، هيا انصرف.
      - باخوس، باخوس!
          خرج لا يلوى على شيء من المخفر في اتجاه البيت، لما ولج الباب الذي تركه مواربا، رأى الأفعى الراقصة، التي كانت تتلوى على خشبة الزاوية، في شجار عنيف مع ولده، دنا منها وهو يقول: إن الحيات تشابهن علي، حتى إذا ما صار قاب قوسين أو أدنى من القميص الحريري، المطرز بالأبيض والأسود، المقدود من جلد نمر، والسروال الأبيض اللاصق الشفيف، والقرطين الدائريي الشكل، المعلقين بشحمة الأذنين، والمتراقصين بلا توقف، كلها شهود إثبات على إدانة الأفعى، لكن لسانه تصلب، وارتعش جسمه، وشحب لون وجهه. تخشبت الألسنة كلها؛لسان الأب،لسان الأم،لسان البنت ولسان الولد، فنابت عنها لغة العيون... عيون تستنكر، عيون تبرئ وعيون تدس العار في الصدر على وهن.
أخرج سيجارة شقراء، وألقى بنفسه في الزقاق الضيق الطويل، تاركا الباب مواربا خلفه، أدركته سيارة ذي الهمزة.
      - قل أين اختفيت البارحة ؟
      - شفطتني الفاركونيت.
      - تكرفسو عليك؟
      - لا، إنما حذروني من وضع العصي في عجلة تنمية البلاد، كما حذروني من لعنة باخوس.
      - آش يكون هذا باخوس؟ شي ولي صالح؟
      - سأكلف كَوكَل بالبحث عنه.
      - شنو هذا كَوكَل عاودتاني؟
      - غول، غول كبير، فمه أترم مثلي.
      - أترم. لغة الكتب اللي ما عطاتك والو...!
      - أترم وحيد القرن ها ها ها.
     - ها ها ها كركدان تعني؟
     - لا، أترم وحيد السن مثلي تماما.. ماشي كركدان.
بركان  2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق