الصفحات

2013/11/02

مدرسة الاستقلال النموذجية .. قصة بقلم: عليش حسن أحمد



مدرسة الاستقلال النموذجية
عليش حسن أحمد*

هل لفتت انتباهكم يوما،تلك الأشياء التي لا تتغير؟..تلك الأشياء التي وقفت بشجاعة في وجه الزمن وروّضته،كما وقف السد بشجاعة في وجه النهر وروضّه،وكما وقف الزاهد بشجاعة في وجه نفسه وروضّها..تلك الأشياء التي فرضت وجودها علي دورة حياتنا فصارت أمرا واقعا لايمكن طمسه أو التحايل عليه..تلك الأشياء التي تشبه حرّ مايو البطّاش،وروائح صناعة  الآبرى *قبيل رمضان،وتضلّع النيل في أغسطس...وطرائقنا الخرقاء في إدارة الإمور.
سأحدثكم اليوم عن شئ أصيل من تلك الأشياء..عن ذلك الرجل العجيب الذي يدعى البروف جلال..ذلك الخبير التربوى الشهير والذى سلخ ألاربعين عاما الأخيرة من عمره جائلا في دروب التعليم الأساسى ودهاليزه..في داخل وخارج القطر..حتى صارفي النهاية مستشارا وخبيرا،لثلاث حكومات مرت علي البلاد على التوالى..إنه أمرمحير ومربك،أن يستطيع شخص ما أن يجعل تلك الحكومات تتفق على رأى واحد،رغم أنها نالت شرعياتها الأساسية فقط من تسفيه بعضها لبعض..فماهو السر إذن،الذي جعلها تتفق على منح ثقتها لذلك البروف؟ إن البروف عندما يُسأل هذا السؤال يرد مبتسما: أنا لاأهتم بالسياسة.
آه..حُلّت الحيرة إذن..البروف يتمتع بالميزة الأندر في هذه البلاد،تلك الميزة التي تجعله يبدو كمالك لنظارة وحيدة في بلاد المعمّشين..لكن المقربين من البروف يعلمون أن السبب الحقيقى لتلك الثقة هو الكفاءة الرفيعة التي يتمتع بها..ورغبة الإصلاح المستمرة التي تسيطر عليه،لم يكن البروف على الإطلاق مهتما ب(حكم يحكم) وإنما كان شغفه موجه نحو(تعلم يتعلم)..لقد حصرنفسه وحياته كلها في مجال عمله ورسالته..وتمرّس على تجنب  كل الأخطار التي قد تبعده عن أداء تلك الرسالة، وفي مقدمة تلك الأخطار بطبيعة الحال رجال(ساس يسوس)..أولئك الرجال الذين ملأوا أجوافهم بكؤوس ضخمة ومتساوية من نبيذى الجبن والشراسة معا..حتى صاروا مثل الدودة ذات الرأسين،كرها وفرها سواء.           
في صباح ذلك اليوم كان البروف يجلس بالقرب من السيد وزيرالتربية والتعليم في سيارته.. كانت السيارة الفارهة والمظللة تنهب الطريق في اتجاه مدرسة الاستقلال الأساسية للبنين،فقد كانت هناك زيارة معلنة للسيد الوزير ووفده الميمون لتلك المدرسة النموزجية التي احتكرت المركز الأول في امتحانات الولاية لخمس سنوات متتالية..ورغم أن البروف خصصت له الوزارة  سيارة فارهة أيضا،إلا أن الوزير كان يحب أن يصطحبه معه دائما في سيارته في مثل تلك الزيارات الخارجية.
بدت المدرسة جميلة ومرتبة وأنيقة..وشكل المعلمون والتلاميذ لوحة متجانسة من الألق والتميز..وفي لفتة بارعة جدا،قُدم برنامج احتفالى صغير بهذه المناسبة..تولى هذه المهمة التلاميذ فقط..تقديم الفقرات وأدائها،وتقديم الضيافة،وكل شئ آخر..قام التلاميذ بكل شئ بأنفسهم،عدا كلمتى السيد المدير والسيد الوزير.
في ذلك الصباح أيقن البروف أن مجهوداته المتعاقبة طوال ثلاث حكومات متتالية لم تذهب سدى..فى ذلك الصباح سمع البروف من أولئك التلاميذ اليافعين شعرا عربيا جاهليا فخيما،ومقطوعات من الأدب الإنجليزى المعتق،وقصائد وطنية من تأليف التلاميذ أنفسهم..وشاهدهم يؤدون مسرحية صغيرة باللغة الفرنسية،ويرقصون لعدد من القبائل الوطنية،ويتشقلبون بحركات شيقة من الجمباز.
لقد تأثر البروف حتى أوشكت الدموع على أن تسقط من عينيه..وكان الوزير أيضا مبتهجا للغاية..وبدا لساعات أن هذه الزيارة ناجحة جدا وتبعث على الفخر..لكن أحيانا تراودنا إيحاءآت ملثّمة..لانعلم من أين أتت..ولانفهم لها باعثا..وتجعلنا نتسآءل لفترات طويلة لاحقة،هل أتت هى من همس الملك،أم من همزالشيطان،أم من صراخ العقل الباطن..وفي ذلك اليوم يبدو أن البروف تعرض لنفحة من تلك الإيحاءآت..نفحة قد تجعل تمتعه بتلك الثقة الطويلة يتأرجح،كما تتأرجح الدراجة على جسرالحبال.
كان هناك تلميذ يقف على مبعدة،مطأطئا رأسه،وشابكا يديه..لم يكن فيه ما يلفت الأنظار خلاف أنه كان يبدو مثل الغراب في قفص الحمام،أو قد يكون مثل سطوة الشئ الذي تعلم بوجوده لكنك تتعمد تجاهله وعدم النظر إليه..لكن عينك مهما قاومت،لابد أن تسوق نظراتها في النهاية  نحو ذلك الشذوذ..لأن مثلما للجمال سلطان فللقبح أيضا سلطانه..وفور ما لمحه البروف نادى عليه..هكذا مباشرة دونما تفكير أوتدبير..تردد الغلام لحظة ثم أتى.   
ــ أهلا ياشاطر،مااسمك؟
رد الغلام بصوت يشبه هسيس الصرصور الذي استنشق جرعات عالية من المبيد:اسمى عادل
ــ ولماذا تقف بعيدا عن بقية زملائك ياعادل؟
: ............
ــ في أى صف تدرس؟
: في الصف الخامس
ــ كم حاصل ضرب ستة في سبعة ؟
1
: ستة فيييي سبعة،ستة فيييي سبعة..ثمانية وأربعون
ــ وتسعة في ثمانية؟
: تسعة فيييي ثمانية،تسعة فيييي ثمانية..ثلاثة وستون
ــ تهجّى لى كلمة  المسئولية.
: المسئولية؟.. ا،ل،م،س،ل،ه.
ــ تهجى لى كلمة الالتزام
: الالتزام؟..ا،ل،ت،ا،م.
ــ حسنا يابنى، يمكنك الانصراف الآن.   
وبعدما انصرف الغلام،أبدى البروف بعض الملاحظات للمدير..كانت ملاحظات عادية قد تصدر في أى وقت،وأى مكان،فهى تندرج تحت الواجبات الأساسية الملقاة على عاتق البروف..لكن قد تكون الأجواء الآنية في مدرسة الاستقلال النموذجية غيرملائمة لمثل هذه الملاحظات..أو قد يكون السيد الوزير فهم الأمر كله بطريقة خاطئة تماما ومخالفة للنوايا الحقيقية للبروف،فالبروف لم يكن يقصد على الإطلاق التلميح بأى شئ آخر من وراء استدعائه لذلك الغلام،أومن تلك الأسئلة النوعية التي وجهها إليه،أو من كلامه مع المدير..لقد حدث الأمركله بعفوية صرفة.        
 لكن السيد الوزير على أى حال عقّب على ملاحظات البروف قائلا:إنى أخشى يابروف أن تكون كل مجاهداتنا في الوزارة لاتعجبك.
ومثلما يغوص المسمار مستعجلا في الخشب الهش من أول لكمة من المطرقة الثقيلة..غاص البروف في مقعده ولم ينطق بكلمة بتاتا..وأخذ عقله يفكر لاهثا،كما تلهث الماسحة الضوئية على سطح الورقة في ماكينة تصوير المستندات..
أوو..هذه لهجة جديدة..لم يسبق أن تحدث معى هذا الوزير ولاوزير قبله بمثلها..ترى كيف اعتبرنى أخطأت..وماذا أفعل الآن هل أسأله عن السبب أم أتقدم له باعتذار ما مباشرة؟.
وبعد نهاية الاحتفال بدأ الوزير والوفد الميمون في الاستعداد للمغادرة،وقبل أن يتوجه البروف للعربة الفارهة والمظللة،تلك العربة التي بها حضر،تقدم نحوه السكرتير وأخبره بأن الوزيريعتذر عن اصطحابه معه في سيارته.
وبعد يومين من تلك الحادثة تلقى البروف في مكتبه خطابا رسميا،أعرب فيه السيد الوزير عن أصدق شكره للخدمة المتفانية التي قضاها البروف بالوزارة طيلة ثلاث حكومات متعاقبة..كما أوضح في خطابه أن الوقت قد حان لأن يأخذ البروف راحته من ذلك العناء الطويل.
وبعد أن قرأ البروف الخطاب وضعه أمامه على الطاولة وأخذ يحدق في النجوم التي تتقاطع أمامه.
وتحديدا منذ تلك اللحظات،بدأ شئ أصيل من زمرة الأشياء التي لاتتغير،يترنح في طريقه للتغير..شئ كان قد وقف بشجاعة في وجه الزمن وروضّه..شئ كان يشبه حر مايو البطاش،وروائح صناعة الآبرى قبيل رمضان،وتضلع النيل في أغسطس... وطرائقنا الخرقاء في إدارة الأمور.   




*مشروب شعبى يُصنع من الذرة ويُستخدم في رمضان فقط عادة  

* كاتب من السودان



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق