الصفحات

2013/11/26

هنا يرقد العجوز الغامض.. بقلم: أميرة الوصيف

هنا يرقد العجوز الغامض
 أميرة الوصيف 

وقف الفتى الأسمر صاحب الشعر المُجعد مذهولاً أمام أحد القبور؛ مُحملقاً فيها بلا وعي واضعاً يده النحيفة على رأسه غير مُصدقاً غرابة ما رآه مُدَوناً على هذا القبر؛ الذي إستوقفه أثناء زيارته لقبر والده ووالدته اللذان لاقيا حَتفِهما إثر حريق مروع إلتهم بيتهم الصغير ذات ليلة داكنة السواد
ولعله من حسن حظ الفتى الأسمر وشقيقته الكبرى خروجهما للتنزه تلك الليلة وإلا كانا دُفِنا بجانب والديهما
إرتفع حاجبي الفتى الأسمر صاحب الجسم النحيل متراً الى أعلى !
ليخرج وجهه بتعبيرات عفوية تصرخ بالدهشة من كل ناحية , فالفتى الأسمر إعتاد على رؤية عبارة واحدة وحيدة دائمة التكرار على كل مقبرة وهي " هنا يرقد فلان بن فلان "
وعلى حين غفلة , إستوقفت نظرات الفتى مقبرة فارهة البناء , مزركشة الألوان , فخمة التعمير , مكتوب فوقها " هنا يرقد العجوز الغامض "
لم يُحَرِك الفتى ساكناً , ووقف يحملق في إسم صاحب المقبرة , لعله مخطيء في قراءة ما رآه !!
وأخذت أنفاسه تتزايد بغير إنتظام , ودقاته القلبية تعزف أوتاراً من الغناء الحائر ؛ الذي لا يعرف هل هو داخل حلم أم هو بقلب الواقع ؟ !
وبعد أن دقت أجراس اليقين أعين الفتى الأسمر , وأكدت له أن مايراه حقيقي , أخذ لسان حاله يتساءل في إصرار وإلحاح :
- ماذا ؟ العجوز الغامض !! ماهذا الإسم المُبهَم ؟
ورويداً رويداً بدأت الستائر الليلية في السدول , وحينها شعر الفتى الأسمر بقشعريرة مفاجئة جعلته يرتعد خوفاً من هول مساء تلك الليلة الغريبة , وذلك الحدث الأكثر غرابة!
غادر الفتى الهزيل القبور متوجهاً الى بيته مُسرعا للإطمئنان على شقيقته الكبرى والوحيدة
طرق الفتى الباب , وأنفاسه تكاد تُزهق من شدة الإضطراب , والخوف وكأن شخص ما يلاحقه
وهنا علم الفتى الأسمر أن شقيقته الكبرى "نورا" لم تعود بعد من عملها بأحد الفنادق , فوضع يده في أحد جيوب معطفه , وإذ به يُخرج مفتاح البيت وإذ به يفتحه، سرعان مادخل الفتى بيته مُغلقاً الباب خلفه بكل حزم قائلاً وهو مُغمَض العينين , مُستَكين القلب:
- الحمد لله , تخلصت من كابوس لامحل له من الإعراب !
راح الفتى يجلس بالقرب من مكتب شقيقته الكبرى "نورا" , وأخذ دون تركيز يُقَلب فيما هو متواجد أمامه على منضدة المكتب الغير مُرَتبة كالعادة
فنورا فتاة شاهقة الطول , منكوشة الشعر,غير حسنة الهندام , عاشقة لشيئين لا ثالث لهما قراءة الحوادث وقصها من صفحات الجرائد القديمة
وإجادة طبخ البيتزا على الطريقة الإيطالية !!
وفجأة , وقعت أعين الفتى الأسمر على واحدة من مُلصقات الحوادث التى تضعها "نورا" على منضدتها المُشبعه بالمذكرات , والأقلام , والصور , وأوراق الحلوى ؛ التي إلتهمتها "نورا" وقت تفقدها للحوادث قديمة الأجل
مَدَ الفتى صاحب الشعر المُجَعَد يداه النحيفتان للإمساك بأحد هذة المُلصقات , فإذ بها تحمل عنوان مُثير , كتبته الصحيفة بالبنط الأسود العريض الداكن ؛ رغبةً منها في جذب حواس القاريء بكل ما أوتت من قوة كتابية مؤثرة !!
أخذ الفتى الأسمر ينظر بشغف زائد للسطور التي تقابل عيناه خلال رحلته الإستكشافية لأحداث القصة التي داعب عنوانها المُثير حاسته البصرية بلا تردد
فإذا به يقرأ تلك السطور :
- على خلفية موسيقية كان يحيا يوسف موسى الغجري , كانت الموسيقى بالنسبة له كل شيء ولا شيء سواها
ينام على ألحان موسيقية , ويستيقظ على أوتار غنائية , ربما لم يكن يوسف يفعل شيء سوى سماع الموسيقى
لم يكن الرجل من محبي الموسيقى الهادئة ,رقيقة الأوتار , فهو من أكثر مدمنى الموسيقى الصاخبة , ولاسيما تلك الموسيقى التي ترطم بلغات أوروبية غير واضحة المفهوم للمعظم من أبناء مجتمعه البسيط التقليدي
عجب العُجاب في الأمر أن يوسف الغجري لم يكن مُتَعَلِماً من الأساس , فهو أمي تعليماً وثقافة !!
إلا أنه كان عاشقاً للموسيقى الصاخبة التي لايفهم رسالتها , ولا يتدبر معناها
وذات يوم عاد موسى من أحد رحلاته في عالم الصيد الأكثر مُتعه بالنسبة له من العمل والإنتاج , فالرجل لم يكن عاملاً يوماً في حياته ؛ فهو يعيش على تسول زوجته الطعام , والخبز من الجيران الذين يعطونها الوجبات شفقة ًعلى حالها البائس , فهي في نظر الجميع زوجة بغير زوج بالمعنى المعترف به
فهو زوج عديم الفائدة .. سكير..لايعمل .. يعيش لمتعته الذاتية وحسب
وذات ليلة سمع موسى أبنائه الثلاثة يقرأون دروسهم الدينية بصوت مرتفع
فإنتفض متوجهاً لغرفتهم ليأمرهم بإخفاض صوتهم اللعين , فالموسيقى الصاخبة لا تحلو مادام هناك أصوات بجانبها , وإن كانت أصوات أبنائه الصغار
وأثناء إقترابه من غرفة أبنائه الثلاثة , سمعهم يتلون آيات من القرآن الكريم , فزاد غضبه , وإستشاط غيظاً , وفتح باب غرفتهم مسرعاً وصرخ في وجه الصغار بصوته الجهوري قائلاً :
- توقفوا عما ترتلونه أيها الملاعين الصغار .. ألا تروني أستمع لأرقى فنون الكلام ؟؟
توقف الأطفال عن ترتيل, وجلسوا يرتعدون خوفاً من وجه أبيهم العبوس , وصوته الجهوري
تكرر هذا الموقف عدة مرات داخل كيان هذة الأسرة المكونة من خمسة أفراد , أربعة منهم يعشقون الكلام الروحانى, وشخص واحد لايعترف بوجود الأديان كلها , وينظر الى الأديان على أنها بدعة وأن الموت خرافة  ولا يستحق كل هذا التخوف من لقائه
عاشت تلك الأسرة في إضطراب وتفكك لا تُحسد عليه , فالأب وحده بغرفته يشرب أكواباً من الخمر ويعربد ليلاً ونهاراً على خلفية موسيقته الأوروبية الصاخبة التي لايعي ماذا تقول ؟ !
وبعد أن كَبُر الأبناء الثلاثة , وصل أبيهم لسن الهرم ولاتزال إعتقاداته كماهي ولايزال كلما حدثه شخص عن وجود الله والإعتراف بالموت , زاد في عناده الأبدي
دائماً كان موسى يكرر لأبنائه أنهم ليسوا أوفياء له وأنه لو كان لديه ثروة كبيرة لكتبها بإسم كلبه " ريكس " المرافق له في أى مكان
قائلاً لهم بصوت تملائه موجات غاضبة  :
- ريكس أكثر وفاءاً لي من زوجتي , وأبنائي , وهو يشاركني كل شيء حتى شُرب الخمر .. فمن منكم يشاركني أي شيء ؟؟
وذات ليلة ممطرة خرج موسى وأخذ برفقته كلبه المخلص ريكس , وحينها حاولت الزوجة والأبناء منعه من الخروج ؛ ناظرين لعمره فهوكهل مُسن , والى مرضه فهو مُصاب بمرض القلب الدامي
لم يُنصت اليهم موسى مُتجاهلاً توسلاتهم وبكاءهم
خرج موسى متحدياً أبنائه وزوجته .. ضارباً بالإعتراف بالموت عرض الحائط .. كارهاً لكل الأشخاص والكائنات فيما عدا ريكس الذي ظن أن لديه حنان يغمره عند الحاجه اليه أكثر من أقرب الناس له !
توجه موسى بجواره ريكس الى العيش وسط القبور ؛ مُعلناً رغبته في رؤية ذلك الشخص الوهمي المعروف في دنيا أبنائه وزوجته بالموت
إحتلت الدهشة ملامح وجوه زوار القبور متسائلين عن ماهية هذا الشخص وسبب تواجده للعيش هناك وهو على قيد الحياة قائلين :
- انه لشخص مجنون لامحالة !
ذات يوم أفاق ريكس جائعاً , ووسط معيشة القبور والتربة والأجواء المُربكة لم يجد أمامه سوى مالكه ورفيقه "موسى الغجري "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق