الصفحات

2013/12/23

اكتشاف وثائق جديدة عن العلاّمة ابن باديس في كتاب للباحث الدكتور عبد العزيز فيلالـي بقلم: محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــة



اكتشاف وثائق جديدة عن العلاّمة ابن باديس
في كتاب للباحث الدكتور عبد العزيز فيلالـي
بقلم: محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــة
  على الرغم من العدد الكبير من الدراسات والأبحاث التي أنجزت عن العلاّمة عبد الحميد بن باديس؛باعث النهضة العربية الإسلامية في الجزائر،ورائد الإصلاح الفكري والتربوي في العصر الحديث، إلا أن هناك بعض الجوانب من مسيرته ما تزال خفية،ولم تحظ بالعناية الكافية،ففي سيرته الكثير من القضايا والمسائل التي تحتاج إلى تدقيق،وهي ما تزال تشغل الباحثين والدارسين لفكره وأعماله وسيرته،فهو مفكر عملاق،  ومناضل فذ ورجل صحافة وأدب، وشعلة أضاءت سماء الجزائر،وما زالت تنير حاضرها،وستظل تسطع بأنوارها على مستقبلها.
     وكما يجمع الدارسون فالشيخ ابن باديس أحدث جملة من التحولات في كفاحه في سبيل الحفاظ على الشخصية الجزائرية ومقوماتها،وقد كان صاحب مشروع حضاري ،وكما وصفه رفيق دربه العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي فهو«عظيم بأكمل ما تعطيه هذه الكلمة من معنى؛فهو عظيم في علمه،عظيم في أعماله،عظيم  في بيانه وقوة حجته،عظيم في تربيته وتثقيفه لجيل كامل،عظيم في مواقفه من المألوف الذي صيره السكوت ديناً،ومن المخوف الذي صيره الخضوع إلهاً،عظيم في بنائه وهدمه،عظيم في حربه وفي سلمه،عظيم في اعتزازه بإخوانه،ووفائه لهم،وعرفانه لأقدارهم،وإذا كان من خوارق العادات في العظماء-أنهم يبنون من الضعف قوة،ويخرجون من العدم وجوداً،وينشئون من الموت حياة-فكل ذلك فعل عبد الحميد بن باديس من الأمة الجزائرية ».
        وفي موضع آخر يقول الشيخ البشير الإبراهيمي عن ابن باديس «باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر،وواضع أسسها على صخرة الحق،وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا،وإمام الحركة السلفية،منشئ مجلة(الشهاب)مرآة الإصلاح وسيف المصلحين،ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدى المحمدي وعلى التفكير الصحيح،ومحيى دوارس العلم بدروسه الحية،ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن،وغارس بذور الوطنية الصحيحة،وملقن مبادئها،علم البيان،وفارس المنابر،الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس،أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين،وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم،رحمه الله ورضي عنه.
       وحسب ابن باديس من المجد التاريخي هذه الأعمال التي أجملناها في ترجمته،وإن كل واحد منها لأصل لفروع،وفصل من كتاب، وإذا كان الرجال أعمالاً فإن رجولة أخينا عبد الحميد تقوَّم بهذه الأعمال.
      وحسبه من المجد التاريخي أنه أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير،وديناً لابسته المحدثات والبدع،ولساناً أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخاً غطى عليه النسيان،ومجداً أضاعه ورثة السوء،وفضائل قتلتها رذائل الغرب.
        وحسبه من المجد التاريخي أن تلامذته اليوم هم جنود النهضة العلمية،وهم ألسنتها الخاطبة،وأقلامها الكاتبة،وهم حاملو ألويتها،وأن آراءه في الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي هي الدستور القائم بين العلماء والمفكرين السياسيين،وهي المنارة التي يهتدي بها العاملون،وأن بناءه في الوطنية الإسلامية هو البناء  الذي لا يتداعى ولا ينهار...».
      وعن ذكرى ابن باديس التي مرت علينا هذه الأيام،يقول الشيخ البشير الإبراهيمي«وذكرى عبد الحميد بن باديس،هي ذكرى أعماله وآثاره في الأمة،فهذه اليقظة المتفشية فيها،وهذه الحركات السارية كالنار في الضرام،وهذه النظرات الجديدة في الحياة،وهذه الاتجاهات المسددة فيها،وهذا التجدد في الأذهان والعقول،وهذا التصلب في المقاومة وهذه الأقلام الجارية بالبيان العربي،وهذه الألسنة المحلولة العقد في الخطابة-كلها مذكرات بعبد الحميد،وفي كل منها أثر من يده،و أثارة من عقله،ونفخة من روحه دعا إليها،وجهر بها،وعمل لها،وغرسها في نفوس تلامذته بالدرس،وفي عقول جلسائه بالمذكرات،وفي عامة الأمة بالمحاضرات.
      إن هذه النهضة التي لم تزل في تباشيرها، ستمد مدها حتى تصبح تاريخاً حافلاً،وستنشئ بنفسها مؤرخها المنصف،ويومئذ يضطر ذلك المؤرخ إلى إرجاع العناصر إلى أصولها،فيجد عبد الحميد بن باديس واضع الأس والحجر...». 
      واقتراباً من منظور الباحث الدكتور رابح تركي عمامرة الذي كان من أوائل الباحثين الجزائريين الذين قدموا دراسة هامة عن فكر العلاّمة ابن باديس جاءت في كتاب و سمه ب«الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الإسلامي والتربية في الجزائر»،وهو الكتاب الذي وصفه شيخ المؤرخين الجزائريين العلاّمة أبو القاسم سعد الله بأنه  ولد ومعه شهادة البقاء،لأنه يحمل عينات خاصة تتمثل في الموضوع الذي يتناوله،وهو يساعد على رؤية الأشياء ولكن لا يسميها.
    فالعلاّمة ابن باديس كان من أوائل الذين ناضلوا عن عروبة الجزائر ودعوا إلى أن تطورها وتقدمها يجب أن يكونا في نطاق حضارتها الإسلامية العربية فقط،وعلى هذا الأساس قاوم دعاة الفرنسة والتجنيس مقاومة صلبة كما عمل بكل جهوده على المحافظة على الشخصية القومية المهددة بالذوبان في الكيان الفرنسي بوساطة حركة التربية والتعليم النشيطة التي قام بها خلال الفترة من عام:1913حتى عام:1940م.
     والفضل الكبير يرجع إلى الشيخ ابن باديس في بعث النهضة الثقافية العربية في الجزائر المعاصرة،لأنه كان من الرواد الأوائل الذين وجهوا كل طاقاتهم وجهودهم في هذا الميدان بشكل منظم ومستمر بعد أن كادت اللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية أن تندثرا في الجزائر،حيث قضى الاستعمار الفرنسي على معظم مراكز الثقافة العربية التي كانت قائمة فيها منذ السنوات الأولى للاحتلال عندما استولى على الأوقاف الإسلامية التي كانت تمول تلك المراكز.كما عمل على منع تعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية إلا في نطاق ضيق جداً في المدارس التي أنشأها لتعليم أبناء الجزائريين-حتى جاء العلاّمة ابن باديس قبل الحرب العالمية الأولى فعمل على بعث هذه الثقافة ونشرها على نطاق واسع في الجزائر بوساطة حركة التربية والتعليم التي نهض بها في الجامع الأخضر بقسنطينة ومدارس(جمعية التربية والتعليم الإسلامية)،ومدارس(جمعية العلماء المسلمين الجزائريين)لمدة تزيد على ربع قرن من الزمان ثم واصلتها جمعية العلماء بعد وفاته في عام:1940م حتى قيام ثورة التحرير المظفرة   عام:1954م.
        ولولا الجهود التي بدلها في سبيل المحافظة على الكيان القومي للجزائر-سواء في ميدان التربية والتعليم،أو في ميدان الإصلاح الديني والاجتماعي أو في ميدان الصحافة والتوجيه القومي العام لربما كان تاريخ الجزائر الحديث سيكتب على نحو آخر-فابن باديس هو في الواقع من أهم المدافعين عن القومية الجزائرية العربية في العصر الحديث فقد وقف بالمرصاد لدعاة الفرنسة وحاربهم حرباً شعواء كما قاوم دعاة الادماج والتجنيس،وحارب دعاة التغريب وإنكار الشخصية الجزائرية في التاريخ،وعمل على توجيه الجزائر وجهة عربية إسلامية تتفق مع تاريخها،وجنسها وحضارتها العربية الإسلامية(ينظر:د.رابح تركي،الشيخ عبد الحميد بن باديس،رائد الإصلاح والتربية في الجزائر،ص:06 وما بعدها).   
          وقد صدر مؤخراً كتاب هام للباحث الدكتور عبد العزيز فيلالي؛رئيس مؤسسة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس،ورئيس جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية سابقاً،كشف من خلاله مجموعة من الوثائق لم يسبق الإطلاع عليها من قبل،فأهمية هذا الكتاب تتجلى في إضاءته الكثير من الجوانب الخفية من مسيرة العلاّمة ابن باديس الدراسية،إذ تتضمن الوثائق التي يحويها الكتاب بين دفتيه معطيات جديدة تسلط الأضواء على المسار الصحيح للعلاّمة ابن باديس حينما درس في الزيتونة وفي مصر وفي المدينة المنورة.
      ولا شك في أن البحث في تاريخ رواد النهضة الفكرية في وطننا العربي يعتبر من الموضوعات الملحة في المباحث التاريخية والتأصيلية، لكن الجانب البارز الذي يكتسي أهمية بالغة هو تسليط الضوء على الوثائق التي تكشف الحقائق،وتقدم رؤى واضحة عن مسيرة أولئك الأعلام الأفذاذ،وهذا ما نلمسه من خلال كتاب الدكتور عبد العزيز فيلالي،الذي يصحح جملة من المعلومات المغلوطة التي نشرت مسبقاً عن سيرة العلاّمة ابن باديس،كما يفند الكثير من التوصيفات التي جاءت في بعض الدراسات التي تعرضت لسيرة رائد النهضة الإصلاحية في الجزائر،ويغير الكتاب كذلك بعض التأويلات والاستنتاجات التي تم التوصل إليها في مباحث قديمة.
       يحمل الكتاب عنوان «وثائق جديدة عن جوانب خفية في حياة ابن باديس الدراسية»،ويضم بين طياته الكثير من المعلومات الثمينة والوثائق النادرة،والحقائق التاريخية التي ظلت غامضة لفترة طويلة تزيد عن سبعين عاماً.
      لقد جاء كتاب الدكتور عبد العزيز فيلالي ليميط اللثام عنها،وينفض غبار النسيان عن صفحاتها،ويتضح لقارئ الكتاب أن أغلب هذه الوثائق   تتصل بحياة ابن باديس التعليمية،وهذا ما أشار إليه المؤلف في مقدمة الكتاب بقوله:«يحمل الكتاب في طياته معلومات جديدة وحقائق تاريخية نادرة،ظلت مخفية ومجهولة وغامضة ما يزيد عن سبعين سنة،وخاصة منها تلك التي تتعلق بحياته الدراسية والبيداغوجية، وتتمثل هذه المعطيات الجديدة في دفتر امتحانه الذي يشتمل على المواد والكتب التي درسها في مرحلة التطويع وما بعد التطويع،وتتضمن أيضاً أسماء الأساتذة الذين درّسوه في المرحلتين وأجازوه إجازات علمية عامة وخاصة،والملاحظات التي دوّنوها في دفتره حول استعداداته وتحصيله العلمي وشخصه وسلوكه ومواظبته على الدروس،وتواريخ الامتحانات التي اجتازها،وتواريخ الإجازات التي تحصل عليها،والمدة الزمنية التي قضاها في تحصيل العلم في الزيتونة ومصر والحجاز،وهي حقائق تاريخية تصحح المعلومات القديمة وتفند ما جاء في بعض الدراسات في هذا المجال،وتغيّر بعض الاستنتاجات والتأويلات،وتضيف جديداً للأبحاث السابقة»(ص:09).
         وقد أوضح الدكتور عبد العزيز فيلالي منهجه في دراسة الوثائق المكتشفة،وهو منهج يتمثل في دراستها دراسة علمية تحقيقية في الفترة التي عاش فيها العلاّمة ابن باديس،والتي أرخت لها الوثيقة،حيث يقول المؤلف في هذا الصدد:«وقد قمنا بدراسة هذه الوثائق دراسة علمية تحقيقية تحليلية لهذه الفترة من حياته،وحققنا في بعض الكتب التي درسها وفي بعض الأساتذة الذين درّسوه وعلقنا على بعض القضايا وصححنا بعض التواريخ التي جاءت بها الدراسات القديمة.كما فضلنا أن ننشر الدفتر كاملاً كما وصل إلينا عسى أن يجد فيه الباحثون والمهتمون بحياة الإمام وتراثه ضالتهم المنشودة»(ص:10).
        وبالنسبة إلى كيفية اكتشاف هذه الوثائق   يذكر الدكتور عبد العزيز فيلالي أن الفضل الكبير في حصوله عليها يعود  إلى شقيق العلاّمة ابن باديس الأستاذ عبد الحق الذي زوده بالدفتر الدراسي لأخيه،والذي عثر عليه في محفظة العلاّمة التي أهداها له وفد تلمسان الذي جاء إلى قسنطينة لحضور مراسيم ختمه للقرآن الكريم سنة:1938م،وقد ظل الأستاذ عبد الحق بن باديس محتفظاً بهذه الوثائق منذ ما يربو عن سبعين سنة.
         قدم الدكتور عبد العزيز فيلالي في مستهل الكتاب وصفاً دقيقاً لمسيرة العلاّمة عبد الحميد بن باديس،وذكر أنه كان من حسن طالع الجزائر ومن تدابير الأقدار،ومن مخبآت الكون والغيوب أن يأتي العلاّمة عبد الحميد بن باديس في ظرف زمني كانت فيه الأمة الجزائرية في أمس الحاجة إليه وإلى أمثاله،ممن يقومون ببعث اليقظة ويأخذون بيدها،وقد شاءت الأقدار أن تدخره لمثل هذا الظرف البائس الذي تمر به الأمة وهي ترزح تحت ويلات الاستعمار الفرنسي،ليحمل المسؤولية بكل شجاعة،وتضحية في بناء مجتمع أنهكه الاستعمار،وكبله بجملة من الإجراءات والقيود القانونية اللا إنسانية جعلته يغرق في ظلام الجهل والأمية .
        وأشار المؤلف إلى أن العلاّمة ابن باديس ترعرع في بيئة استعمارية وشاهد سياسة الإدارة الفرنسية مع الأهالي وعايش أهوالها،وعلى الرغم من أنه نشأ في بيت ميسور الحال،فإنه كان يحس بجوارحه وأحاسيسه معاناة أمته ومجتمعه،وكان همه الكبير هو الوضعية السيئة التي وصلت إليها الأمة الجزائرية،وقد كانت هذه الظروف هي القاعدة الرئيسة التي بنى عليها مشروعه الطويل المدى لتغيير المجتمع الجزائري والنهوض به نحو مستقبل أفضل،وهذا ما جعله يختار طريق التربية والتعليم والإرشاد والوعظ والتوعية وهو في سن الشباب.
       اعتمد المؤلف على وثائق هامة في قراءة مسار العلاّمة ابن باديس،ومن بين ما لفت الانتباه إليه في مقاربته لمراحله التعليمية، هو أن جل من أرخوا لمسيرته التعليمية يذكرون بأنه شد  رحاله إلى تونس أول مرة سنة:1908م،وانتسب لجامع الزيتونة ومعهدها لطلب العلم والاستزادة من العلوم الإسلامية،عندما كان سنه لا يزيد عن تسعة عشر عاماً لتحضير شهادة التطويع التي تمنح لطلاب نهاية المرحلة الثانوية،وقد أجمع الكثير من الباحثين على أن المدة الزمنية التي قضاها ابن باديس طالباً في الزيتونة تتراوح مابين ثلاث وخمس سنوات تحصل خلالها على شهادتي(التطويع والعالمية).
    في حين ذهب بعضهم إلى أن فترة حصول ابن باديس على شهادة التطويع لم تزد عن سنتين فقط،وسنة أخرى باشر فيها التعليم في الزيتونة،وبعد اطلاع الدكتور عبد العزيز فيلالي على الوثائق التي زوده بها شقيق العلاّمة ابن باديس تبين له أن الإمام ابن باديس قد سافر إلى جامع الزيتونة بتونس وعمره 21سنة،وليس 19سنة كما ذهب إليه الكثير من الدارسين. «وكان ذلك-حسب دفتره-في أواسط محرم من سنة:1328هـ الموافق ل27من شهر جانفي سنة:1910م،وليس سنة:1908م،كما ذكر أغلب من كتبوا عن حياته،وهي السنة   التي هاجر فيها أستاذه محمد حمدان لونيسي إلى المدينة المنورة.
      وقد أجرى له اختباراً لإثبات مستواه العلمي من قبل لجنة علمية مكونة من خيرة أساتذة الزيتونة ونظارتها ».
         وقد ذكر المؤلف أن ابن باديس زاول دراسته بجدية واجتهاد،ودخل الامتحانات بزاد وفير من العلم،وتحصل على شهادة التطويع يوم الثلاثاء:29 رجب1329هـ الموافق ليوم: 25جويلية سنة:1911م،وقد أنجز مقرره الدراسي في مدة لا تزيد عن سنة ونصف،فقد دخل إلى الزيتونة في شهر جانفي:1910م. وبذلك يكون قد اكتسب نحو خمس سنوات على اعتبار أن النظام الجديد للزيتونة حدد مدة الحصول على التطويع بسبع سنوات.
       وقد سكن العلاّمة ابن باديس أثناء إقامته في تونس في المدرسة اليوسفية ثم المدرسة الحسينية المعروفة بمدرسة النخلة في حي تربة الباي،القريبة من إدارة نظارة الجامع الأعظم بالزيتونة، والتي تجاور جامع القبة الذي تعلم فيه العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون،وقد حول الشيخ ابن باديس بيته إلى منتدى فكري وعلمي يؤمه رفاقه في الدراسة،وتعقد فيه الندوات العلمية والجلسات الفكرية والمطارحات الأدبية تناقش خلالها الكثير من القضايا التربوية والإصلاحية والسياسية،وقد كان يترأس ذلك المنتدى في غالب الأحيان ويدير جلساته،وهذا ما أكسبه سمعة طيبة واحتراماً كبيراً بين زملائه وأساتذته.
        وقد دعم الدكتور عبد العزيز فيلالي مقاربته لمسيرة العلاّمة ابن باديس بجدول مطول ذكر فيه الأساتذة والشيوخ الذين درّسوا العلاّمة ابن باديس،وأشار إلى الكتب المقررة في مرحلة الحصول على شهادة التطويع،ومن أبرز هؤلاء الأساتذة: محمد الطاهر بن عاشور وصالح العصيبي وصالح الحلقي وبلحسن النجار ومحمد بن يوسف وصالح الهواري ومحمد الصادق النيفر ومحمد الخوجة.
       و في مرحلة ما بعد التطويع بقي الشيخ ابن باديس في تونس لاستكمال(الكمالات العلمية)،فدرّس بالزيتونة إلى جانب أساتذتها وشيوخها،فقد كان النظام الداخلي يسمح لحامل شهادة التطويع المتميز أن يدرّس بها متطوعاً،ولم يكتف الشيخ ابن باديس بالتدريس فقد انتظم للدراسة في مرحلة ما بعد التطويع يطلب العلم   ويقرأ أمهات الكتب،وقد وصف الدكتور عبد العزيز فيلالي هذه المرحلة الهامة من مراحل حياته الدراسية وصفاً دقيقا في قوله«انتظم للدراسة في مرحلة ما بعد التطويع يطلب العلم  ويتعمق فيه،ويقرأ أمهات الكتب،التي تتضمن الفكر الإسلامي وعلومه وعقيدته وحضارته واللغة العربية وفنونها،ينهل منها بشغف في أوقات الدراسة وخارجها،حتى حصل على زاد علمي وفير من العلوم العقلية والعلوم النقلية، وكان يحضر الندوات الفكرية في الزيتونة وخارجها،ويلقي الدروس في منازل بعض الشيوخ.كما كان يحضر دروس التفسير في بيت الشيخ لخضر بن حسين على طريقة البيضاوي،ويتردد على المحاضرات والندوات التي تنظمها جمعية الصادقية والخلدونية،ويطالع الصحف والجرائد والمجلات،ويتتبع ما يدور في الساحة السياسية والإعلامية في المنطقة وفي العالم،وقد تأثر بالجو السياسي والإصلاحي الذي يدور في تونس.وكان يترقب ويشاهد أحداثها،فانفتح ذهنه على النضال وخوض غمار الإصلاح،وتمرس فيه وتأثر بالبيئة الوطنية التونسية،فكانت له منعرجات جديدة في فكره ومواقفه فصقلت موهبته المدعمة بآفاق علمية واسعة،وفكرية وسياسية ونهضوية وإصلاحية، فبنى لنفسه مجداً علمياً بين طلابه وأساتذته الذين أعجبوا به وبذكائه وبمواهبه المتعددة،لدرجة أنه وصفوه جميعاً بأوصاف حميدة وأجمعوا على أخلاقه الحسنة،ولقبوه بالفقيه النبيه والحاذق النجيب والأديب الألمعي الفطن،وشهدوا له بالمواظبة التامة على الدروس والاجتهاد وحسن السيرة،ودونوا هذه الشهادات والملاحظات في دفتره الدراسي،فانتقل بذلك الإمام إلى مصاف المشيخة العلمية الزيتونية،بفضل اجتهاده وتحصيله العلمي الغزير فتبوأ المرتبة الأولى بين أقرانه في شهادة التطويع في دفعته التي كانت تتكون من ستين طالباً،وكان الوحيد من الجزائريين في هذه الدفعة...،وقد تمكن من التوفيق بين التدريس متطوعاً لاكتساب الخبرة البيداغوجية، ومزاولة الدراسة لتحضير إجازات علمية أخرى على يد كبار شيوخ الزيتونة بانتظامه في حلقات الدروس العامة والخاصة  »(ص:30-31).
      و  في رصده لمرحلة انتقاله إلى وطنه الجزائر يذكر الدكتور عبد العزيز فيلالي أن العلاّمة ابن باديس عاد إلى الجزائر،وقد عرفت أفكاره تحولاً جذرياً بعد هذه المرحلة،حيث عاد بأفكار إصلاحية وذهنية متفتحة متحلياً بالواقعية ويتمتع بكفاءة علمية عالية وصلابة في الطبع لا يخاف لومة لائم،وقد أسهمت مجموعة من العوامل في  تكوين شخصيته النفسية والتربوية والعلمية،من بينها البيئة التي نشأ فيها وأسرته،وعقله الواسع والمتفتح على العلوم والبيئة السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشها تحت نير الاستعمار الفرنسي وهو شاب في عقده الثالث.
       و قد انتصب للتدريس بالجامع الأعظم بمدينة قسنطينة، ودرّس الطلبة كتاب(الشفا بأحوال المصطفى)للقاضي عياض السبتي(ت:544هـ/1145م)،كما كان يلقي دروس الوعظ والإرشاد على عامة الناس،وهذا ما جعل سلطات الاستعمار الفرنسي تمنعه من مزاولة نشاطه،حيث منع من التدريس بالجامع بحجة ظاهرية هي عدم حصوله على رخصة التدريس،والحقيقة أنه منع لأن سلطات الاستعمار الفرنسي كان هدفها الأول هو نشر الجهل والأمية في أوساط الشعب الجزائري ،فكيف تسمح لشخص مثل العلاّمة ابن باديس أن يبث العلم والوعي.
      وقد عرض المؤلف مقتطفات من الإجازات التي تحصل عليها الشيخ ابن باديس،وخلص في الأخير إلى أن جميع من أجازوه وصفوه بالعلاّمة الفاضل والفهامة الكامل والفتى اللبيب الأريب وبالفقيه النبيه وبالأستاذ الفاضل،وجميع هذه الأوصاف تدل على المستوى العلمي الرفيع لابن باديس،وتدل على نضجه ومعرفته العميقة في المجال الفقهي والعلمي والفكري.
       وهذه الإجازات صدرت عن جهابذة وأساتذة مشهود لهم في الديار المصرية والحجازية والتونسية،وقد حملت توقيع أسماء لامعة لعلماء كبار من مصر وتونس والهند،ومن بين الإجازات الواردة في قسم الملاحق :اجازة الشيخ العلاّمة محمد بخيت المطيعي،وإجازة العلاّمة محمد حمدان لونيسي،واجازة الشيخ أحمد الفيضي أبادي الهندي،وإجازة محمد العزيز الوزيري التونسي،وإجازة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي،وإجازة الشيخ محمد بن يوسف.
      إن كتاب الباحث الدكتور  عبد العزيز فيلالي يزخر بعدد من الوثائق والصور والإجازات النادرة التي تتعلق بمسيرة  نابغة الجزائر العلاّمة الفذ عبد الحميد بن باديس،فهو يعتبر مادة توثيقية أساسية تبرز الكثير من الجوانب المتصلة بمسيرة العلاّمة ابن باديس،ويمكن تشبيه الوثائق المدرجة فيه بالكنز المدفون الذي بفضل اكتشافه اتضحت الكثير من الحقائق للدارسين،وتغيرت جملة من المعلومات المغلوطة التي راجت في السنوات السابقة عن مسيرة العلاّمة ابن باديس،فالوثائق المكتشفة تجعل الدارسين يعيدون النظر في جملة من الحقائق والمسلمات التي انتشرت،فهي تمثل الجانب المجهول لدى الجمهور الواسع من الدارسين وعامة القراء،وتبرز حقائق دقيقة عن مراحل دراسته وتكوينه العلمي،و تكتسي قيمة أدبية وتاريخية ،وهي جديرة بالبحث والدرس،و إضافة إلى ما تكشفه من معلومات ثمينة وحقائق دقيقة،فهي تبرز وتوضح طرائق التدريس التي تعلم بها العلاّمة ابن باديس،وتقدم صورة وافية عن الحركة العلمية والفكرية في المرحلة التي عاش فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق