الصفحات

2014/01/15

العصفور الذي حمى عبد الناصر!.. بقلم: د.أحمد الخميسي

 العصفور الذي حمى عبد الناصر!..
بقلم: د.أحمد الخميسي
رحل عبد الناصر عن عالمنا منذ أربع وأربعين سنة. لكن ذكراه لا تفارق قلب مصر، ولا يني صوته القوي الشجاع يتردد في أجوائها. ولقد شقت العلاقة بين مصر و روسيا طريقا عريضا غير مسبوق سنوات الثورة التي عادت الاستعمار وأشاعت قيم الاستقلال الاقتصادي والسياسي والتحرر الوطني. ومازالت  ذكرى تلك القيم تفوح في شارع وسط موسكو أطلق عليه الروس اسم جمال عبد الناصر.
ومع أن تحولات الأعوام العشرين الأخيرة في روسيا قد غيرت حتى أسماء الشوارع التي أطلق عليها فيما مضى أسماء قادة الثورة، إلا أن اليد التي عصفت لم تقترب – لسبب أو لآخر – من شارع عبد الناصر. و قد قدر الروس جمال عبد الناصر تقديرا خاصا، وقدموا لمصر خلال عشرة أعوام من علاقتهم بها أكثر مما أعطوه للصين على مدى ربع القرن. وكانت المرة الوحيدة في تاريخ الاتحاد السوفيتي التي اجتمع فيها المكتب السياسي خلال أربع وعشرين ساعة هي عندما قام عبد الناصر بزيارته السرية إلى موسكو في 22 يناير 1970، ليطلب نقل صواريخ سام – 3 مع خبراء لتدريب المصريين عليها. وكان معنى الموافقة على طلبه أن السوفيت سيتدخلون بشكل عسكري مباشر في الصراع في الشرق الأوسط بكل ما يترتب على ذلك من تبعات دولية.
كان لشخصية جمال عبد الناصر أثرها في اتخاذ تلك القرارات الاستثنائية ، علاوة على الشعور بأنه زعيم ذو شعبية جارفة، و بأن الثورة المصرية على حد قول المؤرخ الروسي كوفتونوفيتش: "ليست إحدى الهزات الاجتماعية الضخمة، بل إحدى أهم أحداث القرن العشرين، وإحدى أهم حلقات الثورة الوطنية المصرية". وقد انتزع عبد الناصر من الروس هذا الاحترام الكبير بالرغم من خلافاته الفكرية الواضحة معهم. وفي حينه – عندما أثار السادات الأتربة لتلطيخ سمعة عبد الناصر - أدلى رجال المخابرات السوفيتية بتصريح قاطع أكدوا فيه أن عبد الناصر ليس له أي حساب سري في أي من بنوك العالم وأن نزاهته فوق كل الشبهات. ومؤخرا سجل رجل المخابرات الروسي المعروف فاديم كيربتشنكو ذكرياته عن مصر وعن عبد الناصر والسادات في كتابه" المخابرات. وجوه وشخصيات" وفيه يقول الكاتب – وأنا هنا أنقل كلماته بالنص من الأصل الروسي: ـ
"لقد كتبوا الكثير عن عبد الناصر، وسوف يكتبون الكثير عنه. لقد برز عبد الناصر كزعيم سياسي وثوري بالضبط في الوقت الذي كانت فيه مصر والعالم العربي وإفريقيا بحاجة إلى مثل هذه الشخصية القادرة على قيادة النضال ضد الاستعمار والإقطاع والنظم الملكية المتعفنة. كان عبد الناصرالرجل المنشود في اللحظة المناسبة. بفضله تطورت العلاقات المصرية السوفيتية على صعيدي الصداقة والمنفعة المتبادلة، ثم تطورت بعد ذلك علاقات الاتحاد السوفيتي بالعالم العربي كله. وهنا لابد من الإشارة إلى أن العلاقات السوفيتية – العربيةكانت لسنوات طويلة عنصرا هاما في مجمل السياسة الدولية .
والحق أن شخصية عبد الناصر بحد ذاتها كانت تثير اهتمامي الكبير: وحاولت دائما أن أعرف عنه أقصى ماأستطيع. ولعل عبد الناصر كان أحد آخر الثوار الرومانسيين في السياسة، فقد كان يقدر دائما محدثيه الجديرين بالاحترام، ويلتزم بكلمته، ويؤمن بالمستقبل السعيد لشعبه. وخلال سنوات عملي الطويلة في مصر – عشرة أعوام على فترتين – كان عليَّ أن أوقع الكثير من البرقيات والتقارير المرسلة إلى موسكو، وكان جمال عبد الناصر موضوعها الرئيسي، وحتى عندما غادر عبد الناصر عالمنا وأصبح السادات رئيسا لمصر كنت وأنا أقيم سياسة السادات أعود إلى شخصية عبد الناصر وأقارن بشكل دائم بين هاتين الشخصيتين.
وقد لا يكون من المفيد هنا في مجال ذكرياتي الشخصية أن أتعمق في مسألة من نوع الأهمية السياسية لعبد الناصر، لأنني لن أقدم أية مفاجأة جديدة. كل ما في الأمر أنني أريد أن أكرس عدة صفحات لملاحظاتي الخاصة التي ظلت عالقة في ذاكرتي لكي يستطيع القارئ أن يتخيل عبد الناصر ليس فقط كقائد وزعيم، لكن كإنسان من لحم ودم.
كنا- لسنوات طويلة خلال عملنا الحزبي والرسمي – حين نريد التأكيدعلى الأهمية الخاصة لشخص ما نكتب: "إن المصالح الاجتماعية لديه تعلو على المصالح الذاتية".ولعل هذه العبارة البيروقراطية التي تشبه الأكليشيه هي أكثر العبارات التي تنطبق على عبد الناصر. فقد وعي مبكرا أهميته كقائد سياسي، وأخضع نفسه بالكامل لخدمة مصر وحركة التحرر الوطني، وتمتع باحترام هائل في العالم العربي بأكمله، وأحبه العرب من صميم قلوبهم وافتخروا به، لأنه كان يجسد بالنسبة لهم الأمل في مستقبل أفضل. كانت صورة ناصر معلقة في كل أقطار العالم العربي داخل البيوت وعلى جدران المقاهي والأكشاك في الشوارع، اللهم إلا إذا كانت صورة ناصر تهدد من يعلقها بالملاحقة والاعتقال. وقد أدهشني شخصيا ذلك الكم الهائل من صور عبد الناصر في المملكة الليبية حينذاك، وأيضا مشاعر التقدير والإعجاب به التي كان أصحابها يعربون عنها بقوة. كنت قد قضيت عدة أيام في ليبيا في نوفمبر عام 1963، ووجدت أن كل كشك في سوق طرابلس يضع صورة كبيرة ملونة لعبد الناصر، وعلى مقربة من صورة ناصر صورة صغيرة غير ملونة للملك إدريس السنوسي ولابد أن الملك كان على علم بذلك بطبيعة الحال.
لم يكن عبد الناصر يعبأ على الإطلاق براحته الشخصية أو باقتناء الأشياء. وعلى وجه الخصوص لم يكن يهتم باكتناز المدخرات، وعاش فقط على انشغال وحيد بالقضايا الفكرية والسياسية. هذه الصفات كانت واضحة في منزل عبد الناصر. فقد قضى حياته بالمنطقة العسكرية في العباسية في المنزل نفسه الذي عاش فيه حين كان مجرد بكباشي. فيما بعد لم يدخل سوى بعض الإصلاحات البسيطة على ذلك البيت.
لم ينساق عبد الناصر لإغراء ترقية نفسه كرجل عسكري وهو الأمر الذي فعله تقريبا كافة الحكام من القادة العسكريين. لنأخذ على سبيل المثال الرئيس أنور السادات – فقد اخترع لنفسه مختلف الشرائط التي تميزه عن العسكريين، واخترع لنفسه زيا خاصا به كقائد عام أعلى، بل ومنح نفسه لقب "الحاكم العسكري الأعلى". كان السادات يغطى - بمختلف الشارات الملونة - قبعته وكتفيه وصدره وعروات أزرار الجاكتات والأوشحة الممتدة من كتفيه حتى أن عيون الناظرين إليه كانت تتموج من الوميض الذي ترسله كل تلك الزينة. بالمناسبة، فإنهذا الزي الرسمي للسادات هو الذي أصبح فيما بعد هدفا مناسبا جدا للرصاص الذي انطلق وصرعه في 6 أكتوبر 1981أثناء الاستعراض العسكري في الذكرى الثامنة لحرب أكتوبر .
وقد شاعت في وسائل الإعلام الغربية قصص لم تحدث أبدا عن حياة عبدالناصر الشخصية. ظهرت مقالات دورية عن تحويل عبد الناصر أموال (يفترض طبعا أن ذلك تم بطرق غير شرعية) إلى حسابات سرية في بنوك سويسرية. في الواقع، فإن طريقة حياة عبد الناصرالمتواضعة كانت تنفي تلك الإدعاءات حتى أن مثل تلك الأنباء والشائعات كانت تتبخر واحدة بعد الأخرى من تلقاء نفسها بحيث لم يبق منها شيء في نهايةالمطاف. بعد وفاة عبد الناصر اتضح أن حسابه الشخصي لم يكن يحتوى إلا على ستمائة جنيه مصري فقط لا غير.
خلال زيارة عبد الناصر الأولى للاتحاد السوفيتي في أبريل – مايو عام 1958  وجه نيكيتا خروتشوف قائد الاتحاد السوفيتي حينذاك سؤالا إلى عبد الناصر: "كيف تقضي أوقات فراغك؟".أجابه عبد الناصر: "في ساعات الفراغ القليلة أمارس التصوير السينمائي". ثم دار نقاش حول هذا الموضوع وقال خروتشوف خلال ذلك إن أفلام التصوير السينمائية الملونة تبدو أجمل بكثير من أفلام "الأبيض والأسود". حينئذ قال عبد الناصر: "إن أفلام التصوير الملونة غالية الثمن"! المهم أن عبد الناصر نطق بتلك العبارة بشكل طبيعي تماما ومن دون أي افتعال أو تصنع. قالها ببساطة كمجرد إقرار بواقع نظام حياته اليومي.
جدير بالذكر - عند الحديث عن تواضع عبد الناصر الأصيل – ذلك الجانب الذي يخص علاقته بأمنه الشخصي. على سبيل المثال فقد كانت تحيط به حلقة كبيرة من الحراس عندما كان يقطع شوارع القاهرة بسيارته، ولم يكن الأمر يتجاوز تلك الحراسةالبسيطة. لم تكن هناك أية إجراءات أخرى لحماية عبد الناصر. الغريب في الأمر أن عبد الناصر نفسه لم يكن من النوع الذي يستشعر المخاوف والشكوك المبالغ فيها. ويمكنني شخصيا أن أشهد بذلك على أساس حقائق محددة. على سبيل المثال في عام 1956  طلب أحد المحيطين بعبد الناصر إرسال أخصائيين إلى القاهرة للتشاور معهم لتنظيم حماية أكثر أمنا للزعيم المصري. وافقنا على ذلك الطلب على الفور. وسرعان ما وصل إلى القاهرة مسئولان كبيران من المخابرات السوفيتية "ك. جي. بي". ودعانا عبدالناصر في بيته على الغداء. وفي جو منزلي دافئ للغاية أعرب عبد الناصر عن بعض أمنياته منها أن تستفيد الأجهزة المصرية من خبرتنا لتنظيم حراسة الرئيس.
كانت دعوة المسئولين الكبيرين من المخابرات السوفيتية إلى القاهرة مرتبطة بالمعلومات التي جمعتها الأجهزة المصرية – عشية العدوان الثلاثي - عن خطط متآمرين من الداخل والخارج لاغتيال عبد الناصر.
أجرينا مناقشات عديدة مع المختصين بحماية عبد الناصر خلال وجوده في المظاهرات والاجتماعات وخلال حركة سيارته في الشوارع، وخلال قيامه برحلات إلى خارج مصر، وأثناء تواجده في بيته، وتأكدنا بعد ذلك من أنه – خلافا لحلقة الحراس- لا توجد أية إجراءات أمنية من أي نوع لحماية الرئيس! واتضح
أن الطاهي الذي يعد الطعام لعبد الناصر كان يشترى له الخبز من محل مواجه لبيت الرئيس! أما اللحوم والخضروات فكان يتجه لشرائها من أقرب سوق! لم تكن هناك أيضا أية رقابة طبية على المواد الغذائية التي تدخل بيت عبد الناصر، كما أن ذلك الموضوع لم يثر أصلا قلق أو اهتمام أحد! لم يكن هناك أي نظام إنذار خاص بمقر الزعيم، أو خاص ببيته. ناقشنا احتمال قيام البعض بنقل مواد مشعة أوسامة إلى مقر أو بيت الرئيس أو قاعة الاجتماعات.
وأراد المسئولون المصريون أن نمدهم بأجهزة خاصة لاكتشاف الموادالمشعة أو السامة، ولكن الدهشة حطت عليهم حين نصحهم الجنرال الروسي بأن يضعوا عصفورا في قفص داخل الغرف والقاعات! وقال لهم: إذا مات العصفور – فإن ذلك يعني أن بقاء الإنسان داخل هذا المكان خطر. ولم يستطع المصريون أن يثقوا في فاعلية هذه الوسيلة، ومن ثم ظلوا يلحون علينا: أليس ثمة وسائل أكثر عصرية من العصفور؟ وظل خبراؤنا يكررون لهم أن هناك أبحاثا تجري في ذلك المجال ولكن ليس هناك ما هو أكثر فاعلية من عصفور في قفص!
فيما بعد ظلت حكاية العصفور تتردد طويلا في مناقشاتنا مع زملائنا المصريين .. فنقول لهم هذا جيد، وهذا أيضا حسن، لكن العصفور أفضل وسيلة حتى الآن! كان عبد الناصر خطيبا مفوها لا يشق له غبار، وقد ألقى خطابات كثيرة في قاعات وأماكن ممتلئة بالجماهير، فكان الناس ينصتون إليه باهتمام غير طبيعي مسحورين به.. ولابد من ملاحظة أن عبد الناصر كان يتوجه بخطبه إلى الفئات المتعلمة والفئات غير المتعلمة، وكان يأخذ تلك الحقيقة بعين الاعتبار. وكان يكرر خلال خطابه عدة مرات نفس الفكرة، أو حتى نفس العبارة، ولكن بأشكال مختلفة. وبهذه الطريقة تمكن من غرس أفكاره في وعي من يستمعون إليه من مختلف الفئات. وكانت ملابس عبد الناصر بسيطة دائما، ولم يكن من هواة الأشياء التي تستخدم كزينة أساسا مثل محابس أكمام القمصان، أو دبوس رباط العنق، ولكن البدل البسيطة التي كان يرتديها كانت تبدو رائعة على قامته المهيبة. وكان يحلق شعر رأسه قصيرا، وكان كل شئ فيه يشي بأنه رجل عسكري اعتاد إلى الأبد على عادات الجيش:الملابس المستقيمة، والجسم المفرود.
كان بوسع عبد الناصر نفسه أن يحدد بنظرة واحدة إلى شخص ما إن كان ذلك الشخص قد خدم في الجيش أم لا. كان ذلك بالنسبة لعبد الناصر أمرا مهما. وفي خلال زيارة ناصر الأولى لموسكو اقتربتُ منه مع أحد المسئولين من المخابرات السوفيتية لنأخذ موافقته على موضوع، لكنه بدلا من الترحيب بنا صاح فينا ضاحكا: يا جماعة.. خطوتكم واستقامة أجسامكم عسكرية مائة بالمائة! كان ناصر يمزح معنا بالطبع فقد كان يعلم تمام العلم طبيعة عملنا.
من ملامح عبد الناصر المهمة أيضا أنه لم يقلد ولم يكن ليقلدأحدا أبدا. بالنسبة له لم تكن هناك ضرورة لتقليد الآخرين. فقد كان شخصا متحدا مع نفسه بالكامل، جديرا بأن يقلده الآخرون. هنا مرة أخرى تقفز إلى الذهن مقارنة هذا الزعيم مع أنور السادات. كان السادات يؤدى طوال الوقت دورا ما، وعاش دائما في شخصيات أخرى، وصور نفسه إما فيلسوفا، وإما"أبو العائلة"، وإما سياسيا داهية، وإما عسكريا استراتيجيا لا يبارى. ويعرف الكثيرون في مصر أن السادات كان في شبابه يهوى تقليد هتلر! والسبب في ذلك أن الألمان حينذاك – سنوات الحرب العالمية الثانية – أحرزوا في البداية عدة انتصارات على الانجليز في إفريقيا، ولهذا انتظر عدد من السياسيين والعسكريين المصريين دخول رومل إلى مصر ليحررها من الاحتلال الانجليزي. وظل اهتمام السادات لسنوات طويلة مركزا على شخصيات مثل تشرشل وستالين. حاول السادات أيضا أن يتقمص تلك الشخصيات بل ودرس سيرة حياتها الذاتية وخاصة الطريقة التي كان يتصرف بها هذان القائدان.  كانت تلاحق السادات رغبة لا تهدأ في أن يلقي خطابا على الشعب على أن يكون بالحتم خطابا تاريخيا لا يتكرر، بحيث يدخل ذلك الخطاب إلى الأبد في ذاكرة الأمة، وتكون له أهمية حاسمة في حياة البلاد السياسية. ولذلك كان السادات يهتم بخطاب ستالين الذي وجهه إلى الشعب في 3 يوليه 1941. ووفقا لرأي عدد من المؤرخين فإن خطاب ستالين ذلك أدى بدرجة كبيرة لحشدالشعب السوفيتي للتصدي للغزاة الألمان. وكان السادات يتوق لأن يصبح صاحب خطاب تاريخي من هذا النوع، وهو الأمر الذي اعترف به السادات بلسانه للسيد فينوجرادوف سفيرنا في مصر حينذاك. ولكن من الأفضل أن نعود إلى جمال عبد الناصر..
بالرغم من هيئة عبد الناصر المهيبة والقوة والثقة اللتين تشعان من جسمه وقامته العالية كان من الممكن – إذا طال الحديث معه – أن لاحظ عليه حالة التوتر والعصبية والإرهاق المزمن المرتبط بقلة ساعات النوم على مدى سنوات طوال وبالعمل المتصل حتى الإنهاك التام. كانت يداه حين يقوم بمباحثات معقدة ترتجفان على نحو عصبي أما أظافره فكانت مقروضة حتى اللحم الحي!
حينما كنت ألتقي بعبد الناصر بعد فترة طويلة من الانقطاع عن رؤيته كنت أشهد بوضوح كيف يأخذه الكبروالعجز بسرعة، وكيف تتزايد الشعيرات البيضاء في رأسه وفوديه. الأهم كان ذلك التغيير الذي يطرأ على نظرة عينيه. كانت عيناه تغدوان شيئا فشيئا أكثر حزنا. أما في السنوات الأخيرة فإن هاتين العينين كانتا تنطقان فقط بنظرة مريرة من الكآبة والشجن. ربما أحبطه الإخفاق، أوانصراف الأصدقاء المقربين عنه، أو الآثار القاتلة لهزيمة 67 .
في فترة عملي الثانية بمصر التي بدأت في 8 سبتمبر 1970 لم تتح لي الفرصة لألتقي بعبد الناصر حيا، فقد توفي في 28 سبتمبر من نفس السنة. وفي الأول من أكتوبر مضت جنازته التي تجمعت فيها مصر كلها تقريبا. قد يكون من المناسب هنا استرجاع صورة جنازة السادات التي مضى فيها خلف نعشه مجموعةمن الحراس وعدد لا يتجاوز الخمسمائة فرد من المشيعين! وحتى هواة الفرجة من المصريين لم يمضوا خلف جنازة السادات!
حينما مضى موكب المشيعين لعبد الناصر من ميدان التحرير في اتجاه مصر الجديدة تدفق المصريون لتوديعه في طريقه الأخير، وسدوا كل متر من الشوارع بأجسادهم والشرفات وأسطح البيوت، بل وتسلق بعضهم أعمدة الكهرباء، وللقارئ أن يصدق أن البعض كان يجلس فوق سلوك الكهرباء مباشرة! ولايعرف أحد حتى الآن بالدقة عدد المشيعين الذين ماتوا من شدة الضغط والازدحام وتحت الأقدام، ولكن من المؤكد أن عددهم كان كبيرا! وقد بدأ التزاحم والضغط الشعبي من هناك حيث اجتمع قادة مصر وضيوفها الأجانب الكبار لتشييع ناصر.
وكان الجو حارا وخانقا وباعثا على القلق في ذلك اليوم. كانت جموع الناس تتدافع نحو المكان الذي أسجي فيه جثمان ناصر في نعش مغطى بعلم مصر، وبين حين وآخر كان البعض يغشى عليه، في البداية تهاوى على صبري أقرب أنصارالزعيم الراحل، ثم قرر أنور السادات بدوره أن يغشى عليه لكي لا يجرؤ أحد على اتهامه بأنه عديم الإحساس !
تدافع أيضا من شدة الزحام رجال الحكم من النخبة المصرية والدبلوماسيين وأعضاء الوفود الأجنبية، وحينما تحرك النعش على عربة تجرها ستة خيول، اندفعت الجموع نحو العربة في بلبلة ولغط. وحوصر قسم من حراسة الكسي كوسيجين في إحدى مناطق المدينة فلم تستطع الحراسةأن تصل إلى رئيس الوزراء السوفيتي. وكان علينا نحن العاملين بالسفارة وبعض الحراس التابعين لنا أن نحيط كوسيجين بأجسادنا حماية له من طوفان البشر. فيمابعد لاح خطر أن تهرس الجموع رئيسة وزراء سيلون فأدخلناها إلى حلقتنا، ثم طار فوق رؤوس المشيعين تقريبا جسم هيلاسلاسي آخر إمبراطور لأثيوبيا من دون أن يدري أحد كيف تم ذلك!
وقبل أن تبدأ عملية التدافع تلك كنا قد لحقنا بالاقتراب من نعشالزعيم الكبير لنودعه بعد أن أغلق إلى الأبد عينيه المرهقتين والحزينتين.
وسوف أورد قصة واحدة من بين قصص كثيرة راجت بعد موت ناصر لأنها ظلت عالقة في ذاكرتي حتى الآن: بعد شهر واحد من موت عبد الناصر، قال علي صبري خلال حوار مع السفير السوفيتي:" كان بوسع عبد الناصر بحكم هيبته المطلقة أن يوحد الناس من مختلف المشارب، وأن يجعلهم يعملون معا، ويتحركون في اتجاه واحد، وقد مات عبد الناصر،وانهار كل شئ." ومع ذلك فإن الاهتمام بذلك الزعيم الكبير مازال حيا، لاينطفئ، ولا يخمد".
عند هذا الحد تنتهي شهادة فاديم كيربتشنكو رجل المخابرات الروسية عن عبد الناصر الذي كان صورة من عصر تجولت فيه روح جيفارا تؤجج الثورة بين أحراش أمريكا اللاتينية، وفيه ألهب باتريس لومومبا مشاعر الحرية في نفوس شعبه، وكان عبد الناصرأحد ألمع فرسان ذلك الزمن.
رحل المغني، أما الأغنية فما زالت باقية.

( من كتاب " أوراق روسية " أحمد الخميسي - كتاب اليوم– أخبار اليوم)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق