الصفحات

2014/02/12

"حانة النبيذ الأحمر أو جيريمي الإيطالي" فصل من رواية "أنشودة توباك" لشكري الميدي



حانة النبيذ الأحمر
أو
جيريمي الإيطالي.
شكري الميدي اجي

حـــكى أدم أنري، قال:
الحانة لعجوز ايطالي استطاع بعد جهد أن يتحدث عربية متـكسرة الحـروف. العـجوز يدعـى جيريمي في البدء لم يكن اسمه جيريمي. كان يدعـى باوليتو ايطاليو. خدم في الجيش الأمريكي إبان الحرب العالمية الثانية، لأن الجنود كرهوا اسمـه، غيروه إلى جـيريـمـي.
اسـمه الحالي.
كان صامتاً على الدوام بعينين صافيتين وبندبة طولية في وجهه يقول بأنها ضربة مطواة من جندي ايطالي كادت أن ترديه قتيلا في ضواحي جنوب الصقلي أثناء استطلاع أمريكي شارك فيه. عندئذ تركه رفاقه في الضواحي مصاباً لوحده ولم تنقذه إلا ممرضة صقلية قامت بعلاجه، واقتيد إلى روما ليعش هناك أياماً رائعة علامة على كرامة المقاتل الايطالي، كان رفيق موسوليني إلى كثير من الحفلات، صامتاً يراقب الدوتشي يقبل أيدي الحسناوات بهناء بال غريب وبلباقة ساحرة فيما تنحر جيوشه على طول السواحل المغتصبة. كان بطلاً في أعين المستقبلين، شخص واحد عكر عليه صفو الاحتفال حينما سأله:
" في أية فرقة أنت، مع من كنت تقاتل؟ ".
نظر إليه بصمته المعتاد، صمت المندهش حين قال أحد محبي الدوتشي:
" جميعنا نقاتل لأجل الفاشية ".
بدا جواباً معقولا لليلة لا معقولة مفعمة بأجساد الفتيات والأنبذة الراقية المجلوبة من أرقى مزارع العنب على حوض الموزل وفرنسا. عاش جيريمي نعيماً رائعاً حتى أعلن عن سقوط روما موسوليني. الذي قتل مع عشيقته في تقليد أوروبي قديم حديث توجها الفوهرر بنفسه. كشف جيريمي عن الحقيقة:
" أنا مقاتل أمريكي ". وقد تعرف عليه رفاقه من الفرقة العاشرة. كانوا ثملين حد الخرف. ولكنهم عرفوه –
" جيريمي، أهذا أنت أيها الايطالي القذر؟ كيف تركت صقلية ؟ ".
بدا فرحاً متناسياً ما اقترفوه في حقه من سيئات. طلب من قائده أن يأخذه إلى نيويورك، قائلا بأن لديه أقارب هناك، لكن القائد رفض طلبه بعد مشاورة سريعة مع قائد أخر:
" اسمع يا جيريمي، أنت كنت مع موسوليني، صورك والأكاليل التي غمروك بها صارت معروفة، اسمع أنت كنت لتكون أمريكياً عظيماً ولكننا لا نستقبل الشيوعيين والفاشيين وحتى النازيين، نحن لن نأخذك معنا أنت لم تقدم ما يساعدك على ذلك يا بني ".
كان جيريمي قد أحس بما يقوله القائد، شعر بأنه مات منذ زمن، ترك روما، ضاع في أرجاء أوروبا فكريا وجسدياً. في فرنسا عثر على فرقة غريبة بدت له قمة النجاحات المنتظرة، رجال ونساء يأسوا من الحروب، ثم رأوا في أنفسهم بأن الفن هو الحل الأخير. يجتمعون دوماً لأحياء المشاعر العالمية بعيداً عن رعب الحروب، يختارون التلال المحيطة بالمدن والسهول المطلة على المباني المحترقة ليبدؤوا الغناء والرقص. موسيقى من كل البلدان الأوروبية، الأفريقية والأسيوية، فثمة حوالي سبعة عشر جنسية مختلفة في تلك المجموعات التي انتسب إليها جيريمي. طليان، أسبان، فرنسيس، ألمان ومن دول الاسكندينافية: فتيات صغيرات في العشرينات، أخريات أصغر سناً ينتقلن مع عشرات الفتيان والرجال بكل الوسائل عبر البلدان. تحركهم فكرة غريبة عن التمازج الجماعي عقب الحروب للإزالة الألم الإنساني الفظيع. كانوا يستندون على مؤلفات ألفوها بأنفسهم، عشرات المثقفين أعجبتهم الفكرة بعدما رأوا أي تأثير له على عقول المنتسبين الذي يتجردون من كل أنانية ليقدموا أنفسهم للفن الخالص. صار جيريمي ذا صوت عظيم التأثير بينهم. عند كل غروب يقفون فوق التلال ليستمعوا مبهورين لموسيقى الجاز، مفعمين بالحزن وبالإيمان الغريب. أرواح المسحوقين عبر التاريخ، ألم عظيم أبدع هذا الحزن وهذه الكآبة البالغة، لحظات مميتة من متابعة روح وثابة أبدعها الزنوج، تنطلق فوق العواصم الأوروبية الميتة، فوق باريس المحترقة الدامعة بدم متلألئ، مثل كل المدن الأوروبية الكبرى، تحت وطأة أنغام الموت عنفاً وصخباً.
" إني أشتعل من الداخل كلما استمعت إليها ".
يقول جيريمي لي ذلك كلما تذكر ذلك الزمن البعيد، وقتها كان في الخامسة والثلاثين مع عصبة من صعاليك تم تعقبهم عبر أرجاء أوروبا بوصفهم فرق مخربة تسببوا بالأذى والألم لأوروبا المجروحة. نهبوا وسلبوا كل العواصم المنكوبة جراء الحرب. تمت مطاردتهم، فتشتتوا عبر البلدان الغير الأوروبية بلا عودة تاركين خلفهم ذكرى مرعبة وسيئة، تلاشت مع الأيام المشرقة اللاحقة.
نحن رأينا جيريمي عجوزاً يدير حانة في بنغازي لا يرتادها سوى الشبان، الآتين من الجنوب بحثاً عن العمل في المدن عبر مكاتب الشركات الأجنبية الوافدة إلى ليبيا، لينتهي المطاف ببعضهم إلى الضياع في المدن أو الالتحاق بالجيش لتقاضي رواتب بخسة، تنفق على الشراب الرديء، الذي يبيعه جيريمي في حانته لينسوا بأن ثمة من ينتظر ثمن غربتهم.
أنا من تزرو، جنوبي حقيقي.
خرجت عام 61 لكي أعمل في إحدى الشركات حاملاً معي ورقة من الحاج يونس الذي عمل منذ الأربعينيات مع الشركات الأجنبية حتى صار انكليزياً أسمر البشرة، يعامل الجميع كما يفعل الانكليز، يقال بأنه كان في السودان وأنتقل إلى تشاد لسنوات وعمل لدى الفرنسيس قبل أن يبعث إلى سبها والجنوب عموماً للعمل مع شـركته القـديمة. يتحدث بطلاقة مدهشة خمس لغات، لقد خبر التعامل مع الأجانب. ورقته كتبها بلغة انكليزية لم أستطع قرأتها وقتها حملتها معي إلى شخص أخذني إلى شخص أخر أوصلني إلى رجل طرابلسي سلمني عملاً خفيفاً، عملته مجاناً وتركني أعمل لديه لمدة أسبوع كامل قبل أن يقول:
" تبدو مجداً ولا تخجلنا أمام الأجانب ".
لم أكن اهتم لكني قلت له:
" لن أفعل ".
كنت أملك طموحاً مشروعاً وقتها. كنت أريد إبهار فتاتي التي أحببتها منذ كنت في العاشرة. تدعى منتزى. في الشركة التي عملت بها كان العمل شاقاً سحب الطرق لمسافات طويلة. كانوا يطلبون منا جرف الرمال وكسر الصخور ورفع الأثقال التي تبدو غير ضرورية على الإطلاق، كان رفاقي يتندرون:
" لكي تعمل لدى الأجانب عليك أن تدفع عرقاً عشرة دنانير لتحصد ديناراً ورقياً واحداً ". 
عملت لمدة سنتين في الطرق، البناء وفي شركات التنقيب، عملت كل شيء قبل أن اسمع بأن منتزى تزوجت برجل من نيجير أخذها بعيداً. سافرتُ إلى بنغازي تحت طائلة فشلي الذريع، هناك تعرفت على جيريمي. كنت ألجأ إليه كل ليلة وأحياناً أقضي عنده نهارات كاملة، نثمل حتى نشعر بالفشل يزحف عبر عروقنا ألماً. ننسى إهانات رؤساءنا القذرين. خلال ترددي على جيريمي عرفني جيداً وعرفته بشكل دقيق، صار يناديني باسمي " أدم " وأدعوه بجيريمي وجه النواة، لأن وجهه كان مشطوراً بسبب ندبة قديمة جعلت جزءا من وجهه كنواة تمر. عندما يبتسم يتكشف كل قبحه، وجه يصلح للجحيم. هو في الخمسين وأنا في السابعة والعشرين. كان يبدو لي غامضاً على الدوام مهما كشف لي عن حياته القديمة، فوالده قتل على أيدي الأمريكان وكذلك أخيه وأمه قتلا على أيدي الفرنسيس.
سألته مستغرباً: 
" تم قتل أهلك بأيدي من تقاتل إلى جانبهم، لما تقـاتل في صفوف قتلة أهلك؟ ". فـكر للحظات ثم أخبرني بمرارة:
" لأنهم يملكون ما لا نستطيع أن نملكه: المشاعر ".
هكذا أجابني. كان عندما يراني في الحانة يترك كل شيء زاحفاً ناحيتي ببطء وثقل الأعوام ليقـعـد بجواري مفتتحاً أحاديثه عن الحروب والأدب، كان محباً عظيماً لكتابات همنغواي، الذي قرأت له بمساعدة أمريكي كان مشرفاً علينا. يقول جيريمي بأنه قرأ همنغواي منذ كان شاباً تربى في عائلته على حب الكتابات الأمريكية والفن الفرنسي والانجليزي، قال بأنهم كانوا أقرب إلى أحياء نيويورك من أي مكان في ايطاليا وإن عائلته تشكل بعض الفرق الأقوى في المافيا النيويوركية هاجروا إلى أمريكيا بداية القرن العشرين. وقتها كان همنغواي ضائعاً ما بين ايطاليا وفرنسا. رغب عميقاً في أن يكون مثل أي بطل من أبطال روايات همنغواي حتى اليهودي كوهن لأنهم جميعاً حققوا ما يريدونه،  قال لي بأنه استطاع أن يتعرف على فتيات من طراز بريت.
كنت على الدوام فرحاً بقصصه النزقة أحياناً والتي يرويها بلغة ركيكة خالية من الحس، أعيد على مهل تركيبها لتغدو قصصاً حية مرة أخرى. فتيات، سفريات، حروب ومواقف صعبة عبر أروقة باريس ومتاحفها والأدخنة المتصاعدة من بقايا الخراب. الرشيقات المريضات اللائي أكملن ما عندهن من زينة لإعادة تشكيل الشغف، يتساقطن مغشيات قبل الشروع حتى في تبادل العناق.
يقول:
"  نضطر لإطعامهن قبل أن نفعل أي شيء ".
كان يضحك مزهواً، لم أكن لأتخيل كل ذلك، نساء بهذا الرخص الرهيب، كنت أشعر بأنه يحدثني عن الوهم ماسي. كان عالماً بعيداً عني تماماً أسعى إلى نبذه من ذهني في أخريات الليل، لأحاول أن أتشبث بصور منتزى الغالية، أشعر بأني أفقد حتى صورها في عقلي. قصص جيريمي جعلتني قذراً من الداخل، أحلامي صارت تدور حول نساء الأوروبيات، لقد أراني ألبومات صور كاملة عن العالم هناك. كان يقول لي:
" انظر هذه باريس، هذه دريسدن، الآن هي خراب محزن. هذه أولغا موسكوفية هـادئة ".
نظرت إليها كانت ترتدي كنزة مخططة وضيقة بشعرها المنسدل على كتفيها في غمرة مدهشة. كانت رائعة. بتفاصيلها الدقيقة.
" لا تظن أبداً بأنها مسالمة، أولغا وحش صغير ".
عالمه غريب بشكل مبهر. في الليل أقضي ساعات طويلة محاولاً إبعاد قصصه وحكاياته مع صوره الفاضحة والتي أكون هائماً بها في النهار. أفرغ ذهني منها لأجد صوري القديمة شاعراً بالذنب. منتزى الضائعة، ذات مرة رأيتها في الطريق، كانت تعبر صامتة لم أكن أعرف بأني سأفقدها، ظللت لسنوات وأنأ أراقبها دون أن أبعث لها بكلمة، كان الجميع يطلبون ودها، الجميع يسعون إليها بطريقة أو بأخرى، في ذلك اليوم على الطريق بارتباكي كله سمعتها تنادي اسمي وتلقي السلام، لاحظت جيداً بأنها مرتبكة أيضاً. العجوز جيريمي دفع كل هذه الذكريات بعيداً بأحلامه الممزوجة بالروايات، كان يعيد تشكيل كل شيء في حياته بحسب الأدب الذي دأب على قرأته.
 قــال لي مرة:
" كنا عصابة حقيقية. نقول لأنفسنا: لنسرق متحفاً، فنسرق متحفاُ. كنا مجانين بقوتنا. نقول: لنعد المسروقات، فنعيدها، كما نشاء. أوروبا ظلت ملكنا لسنوات. كنا نفعل أموراً مجنونة. أشياء كثيرة كنا قادرين على فعلها، لكننا لم نفعلها قط. الإنسان لديه منطقة حلم في ذهنه، تشتعل في حالاته القصوى. عرفنا منطقتنا في تلك السنين، أحلامنا كانت ملتهبة ".
سـألته:
" لم كنتم تقومون بكل هذا؟ ".
فقـال مجيباً:
" كان علينا أن نفعل كل هذا، لم يكن ثمة من مهرب، نفوسنا هي التي اضطربت ".
" لكنكم الآن مجرمين ".
" لم نكن مجرمين عندما قتلنا بعضنا في الحروب الكثيرة، لم نكن مجرمين إلا عندما أرادوا هم أن نكون كذلك ".
" من هم؟ ".
" الذين أشعلوا الحروب ".
كالليبي من الجنوب أخذت أفهمه واستمع إليه كرجل جرب أروع ما في الأدب: الحرب، الحب، الخيانة، الضياع البطولي المثير للشفقة. 
تعلمت القراءة بالإنجليزية مبكراً في شركتي الأولى. مع جيريمي بدأت بالتعرف على أسماء أخرى كانت تمثل عالماً مختلفاً وغريباً. لم أكن وحيداً كما في السابق، حتى وإن كنت وحدي في الصحراء أثناء مهماتي الكثيرة كنت أحمل كتاباً أو كتابين، أخذهما معي، جيريمي  لم يعد مجرد ساقي بالنسبة لي بل كوناً جديداً. والأدب دعمني لأنسى عالماً أخر رزحت تحت وطأته طويلاً. بهذه المعرفة عرفت كيف أدير حياتي، بدأت الحكمة تنساب شيئاً فشيئاً في تصرفاتي، لأني كنت متعوداً على وحدتي فلم تجعلني منقسماً على ذاتي بل أعطتني القدرة على رؤية الأمور خارج نطاقها الزمني. الرغبة في معرفة سير الأمور. بتلك الرغبة سألت جيريمي:
" ألا تشعر بأنك في غير مكانك؟ ".
" لا، إن كنت تعني حياتي الحالية.  في السابق كنت أرغب في التنقل والركض وراء الفن عبر أوروبا. كنت ابحث عن قوتي. عندما كنت في الفرقة العاشرة كنت أحلم بقوة أبناء عمومتي في المافيا الأمريكية، كنت أسمع عن مدى سيطرتهم على عالم المال والأسواق، كانوا مثلا حقيقاً لأبناء منطقتنا. لا أدري الآن ما الذي يجمع حبي للفن بالمافيا. ربما كان الأدب، همنغواي ذو العقلية الساعية إلى المال. همنغواي مفعماً بالدم، بالمال وبالصيت كرجال المافيا العظام. ربما هناك أمر أخر يجعلني كما أنا في توقف. لكن هل توقفي مزعج؟ هل أنا منزعج؟  أنا في رحلة، نعم، لكن ليست ثمة رحلة متوقفة في مكان واحد. هل أنا في رحلة حقاً؟ أنا لا أفهم الكثير، لأني لم أعد أفهم زمني، ربما لأني فقدت رغباتي، الفهم أمر مهم لم أعد أملكه ".
لم أكن سريع الاستسلام لحياته المغلقة. يوماً كنا نشرب أقداح من نبيذه، بينما كانت الحانة تفقد روادها والمصباح الوحيد في نهاية الجهة اليمنى للسقف يسقط ضوؤه حزيناً، بالكاد يصل إلى كل أركان الحانة شبه المظلمة والبادرة، بحيث يلوح لنا السقف رطباً. تحت تأثير حنينه المفاجئ لعالمه سألته:
" أليست رحلة خاطئة يا جيريمي؟ ".
كبح حزناً رأيته بعيني ثم قال:
" لست من يقرر هذا. لا أنا ولا أنت؟ ". بدا عصبيا رغم الحزن. ثم أضاف: " كلنا خاطئون ". صمت للحظات ثم كان صوته يرتعش عندما واجهني بسؤاله الصغير:
" أنت، أنت ماذا يا أدم؟ ".
***
في أغلب الأحيان أبدأ بإلقاء الأسئلة عليه دون أن أعرف السبب فأحدس بأنه يشعر بالحنين إلى شيء غامض، بالخيبة العميقة. لم أكن لأكف عن سؤاله، لحاجتي المبهمة. فيبدأ باجترار الصمت العاقل محدقاً إلى السقف المظلم البارد .
قال لي مرة :
" كل شيء كان يحكيه الجاز، كل الخيبة والضياع، أتفهمني؟ ".
كنت لا أفهمه في أحيان كثيرة. لعدة أسباب: لأني اعتقدت لفترة طويلة بأنه لا يمتلك سوى الخيبة. ولأني ظننت بأنه خائن. أوروبي ايطالي خائن. بالرغم من أنني كنت أشرب عنده أقداحاً مجانية رديئة، ففي ذهني كان الأمر يبدو كافياً للبصق عليه.
" أتظن بأن أي شيء، أي شيء يمكن أن يُشرح بالموسيقى؟ ".
" الجاز ليس مجرد موسيقى، الجاز حياتي إن كانت لا تنفع فإنه هراء ".
كانت حياته هراء بالنسبة للجميع، لي أيضاً، كانت تلك الحياة الخالية من المعنى والشخصية تسبب لي حزناً بالغاً. فعندما آتي إلى الحانة أقضي أغلب الوقت في متابعته فيما يكون بعيداً يعمل. ينتقل من مكان لأخر ومن زبون لزبون. تحت الإضاءة الخافتة وبتلك الندبة وبالخمر الرديء في رأسي كنت أقول لنفسي :
" يجب ألا أكون عجوزاً كجيريمي ".
كنت مرتاحاً بعض الشيء لأني لا أحيى حياة كحياته. لم أخض أي حرب، ثم لدى ما يشغلني ويجعلني مفتوناً. فقدان شيء وكسب شيء أخر. ما لم أفهمه هو كيف أن شخصاً ولد في عائلة أدبية يعاني مشاكل في العزلة دون أن يفهمها. لا، لن أكون ضائعاً مثل جيريمي. بالرغم من أنه يجعلني أحياناً أحس بالحب فائض تجاهه، عندما يحكي عن تلك الأمجاد المثيرة في حياته حتى تدمع عيناه، مازجاً أحلامه القديمة بحياته التي عاشها بتقاطيع من الروايات التي تعلم منها البطولة، كل هذا تحت تأثير الشراب الرديء. تماماً كما حدث لدى حديثه عن أوريسيا القوقازية التي نمت بهدوء في إحدى أهم أحياء الموسكوفية العريقة ضمن عائلة ثرية وأثناء الحرب تركت البلاد هاربة مع جوقة ألمانية صدف أن كان جيريمي من ضمنهم.
قـــال:
" كانت تخاف من الماضي بشكل مرضي، وجدتها تحت احدى الجسور الصغيرة ترتجف من البرد، عرضت عليها أن تبحث لي عن مكان أقضي فيه ليلتي فنظرت إلى مندهشة ثم قالت بصوت مرتجف من البرد:
" أنا لا أملك أن أساعدك يا سيدي ".
لم أكن أحلم منها بشيء، كانت صغيرة ولطيفة لأبعد حد، لم أظن يوماً بأن أية قوقازية تكون بهذا الضعف الغريب. عيناها زرقاوان ووجهها نحيل متقلص ومزرق من البرد. قلت لها لنبحث سوية عن مكان ما يبدو إنك أيضاً بحاجة إلى مكان لسكن. صمتت ولم ترد على فسحبتها برقة من يدها ولم تتردد. أقسمت في ذهني أن أفهمها مثل أي فارس قديم.
كانت ماستي النادرة.
" من ؟ ".
قلت وأنا أود أن أسمع الاسم منه مجدداً ففي المرة الأولى نطقها بشكل ساحر وثري إلا إنه لم يرد على. جيريمي استرسل في حديثه:
" بسبب خوفها ظللت في الأيام اللاحقة أحادثها عن الزمن القادم. ذات مرة كنا نعبر بالقطار حقولا شاسعة اسودت من الحرائق التي اجتاحت أوروبا في تلك الآونة، بدأت أخبرها بما ستكون عليه لاحقاً، ستبقى سوداء لعدة أشهر ثم عندما تبدأ الأمطار في الهطول، ستُغمر بالمياه حتى يشتد الشتاء، الماء الكثير يتحول إلى جليد صلب أو ثلوج ناعمة وهشة، الأرض ستصلح نفسها أسفل الجليد، الزمن والماء كفيلان بإصلاح الأمور، لن تلبثي طويلاً حتى تري كل شيء على حاله. أذكر جيداً بأنها نظرت إلى بشيء من عدم التصديق.
قالت:
" أهلي ليسوا حقولا محترقة ".
" لكنني معك، أنا أهلك ". هكذا قلت لها.
بعد أيام بدأت أخبرها عن مجموعاتنا في البلدان والعواصم. بدت لي مثيرة وهي تحرق المعسكرات والآليات وتسرق معنا المتاحف. كانت تعمل بانتظام وحقد غريبين، كان على أن أكف عن معاملتها كسارقة مثلنا، كنا، كلنا نعاني من تلك البلدان القذرة. هي لم تكن مثلنا ولكنها كانت أكثرنا عملا وتدميراً للمنشآت، نحن كنا بحاجة إلى الفلسفة والغضب لكي نجد حافزاً للتدمير، كنا أخلاقيين حتى ونحن نسرق، هي لم تكن مثلنا أبداً كانت تسرق برغبة جامحة في السرقة، تحرق بانتقام منظم، عقلها مهيأ لفعل ما نفعله، لم تكن بحاجة إلى شيء يسكن أعصابها عقب هجماتنا. نحن نلجأ للصمت،  للحشيش، الماريغوانا، القراءة والسير لمسافات هائلة رغبة في النسيان، أما هي فدوما لديها مكان أخر لضربه بعد نهاية أية ضربة. كانت آلة دمار مذهلة. لم أكن اصدق بأنها ذاتها الفتاة التي وجدتها ترتجف تحت جسور روسيا.
يغمض عينيه ليتذكر تفاصيل كثيرة لا يخبرني بها فيما أظل أنظر إلى صورة أوريسيا متأملا وجهها الخالي من التعابير. قابضاً على الكأس والضوء الخافت يتساقط كدموع ثمينة على كل شيء لامع يردد جيريمي:
"أوريسيا ..أوريسيا ".
أتذكر ما يؤلمني للحظات، لكن روح الجد يغلب على كل شيء إن القسوة جزء مني. صمت فيما لم يستطع جيريمي اللين أن يصمت ظل يردد الاسم مع كل ارتشافة يرتشفها من كأسه حزينا وغير مطمئن. بصوت أشبه بصلاة من عصر وسيط، بصلاة أوغسطية.
" هل تعلم من اسماها أوريسيا؟ ".
هززت رأسي بالنفي. فقال بابتسامة حالمة:
" أنا. كانت تدعى أولغا كابونوفا. أردت خلقها من جديد، بنفسي. كانت أروع ما حدث معي لمدة طويلة. إلا إني فقدتها إلى الأبد ".
صمت جيريمي وكنت أحب فيه ذلك الاستغراق في الماضي، الاستغراق المؤثر والعميق. كانت عيناه دامعتان، وجهه يلوح وكأنه منتفخ منذ ألف عام، ظننت بأنه سيبدأ البكاء بين يدي، غير إنني لم أكن لأسمح له بذلك، كنت سأخرج ببساطة لأتركه يبكي وحيداً بين دنان خمره السيئة. إن حبي لجزء من حياة جيريمي ليس فقط بما يتعلق بالنساء. ثمة قصص فريدة في حياته اللعينة. كقصة إيقاعهم بفرقة موسيقية أخرى حاولت أن تقلد ما يفعلونه. قصة تفجيره للمعسكرات كبيرة شبه مهجورة من الطرفين النازي المنهزم والحلفاء عبر سلسلة من المدن الكبيرة في أوقات متقاربة دفعتهم للجنون. أيضاً، قصة نيله من جاك الأمريكي حينما كان فردا ضمن الفرقة الاستطلاعية.
" أتعتقد نفسك أمريكياً ؟ ".
هكذا سأله جاك في المعسكر الذي أقاموه في إحدى تلال صقلية. لم يجب جيريمي في حين زعق جاك بين الآخرين قائلاً:
" أمريكي ايطالي يا سادة". كان يشير إليه بيديه وكأنه يقدم عرضا في السيرك
" هل أنت من نيويورك؟ أوه لقد نسيت. قلت بأنك لديك أقارب هناك؟ ها أنت حشرة فاشية صغيرة. حشرة فاشية صغيرة ولها أقارب في نيويورك. اسمع أيها القذر. أنت قد تكون سيسلي قذر ولكنك لست من اليانكي، أتفهم؟ أنا اليانكي يا ايتاليو، ايتاليو رومانو ".
" أتعقد نفسك أمريكياً؟ ".
سأل جيريمي فانتصب شعر جاك مبهوتاً فيما ضج الجميع بالضحك. لم يترك له جيريمي فرصة الكلام مقترحاً عليه أمراً بدا كالمزاح المر.
"  لنرى أينا قادر على ذكر أكبر عدداً من المدن والولايات الأمريكية ".
كان أمراً يبعث على الضحك وعلى الفور اجتمع الجنود حولهما، دائرة مكتظة بالجميع يربتون على ظهر جاك.
" حسنا ". قال جاك " لنرى ".
بدأ جاك مقرر إدهاش خصمه عدد مدناً كثيرة مقاطعات صغيرة وأحيانا يسهب في شرح بعض الشوارع ولكنه صمت في النهاية لم يكن لدية أية مدينة أخرى، لم يكن يملك شارعاً أضافياً ليقوله. فبدأ جيريمي، بعد عدة دقائق عرف الجميع بأن هذا الايطالي القذر يعرف أميركا أكثر من أي منهم الواقفين هناك لكي يدافعوا عن شرف المجهول. عبر نيويورك وعاد إليها دوراناً بدقة مذهلة صرامة بالغة في التعداد على خط تتبعه القائد الفرقة وبعض الضباط الأعلى رتبة على الخريطة. أمريكا كلها محفورة بدقة كاملة في ذهن واشي ايطالي.
" إن الرب يفعل ما يُعجز كل شخص ".
هذا ما قاله الضابط. ضحك جيريمي ونظر إلى جاك قائلاً:
" هناك في نيويورك شيء يخصني ". 
لم يفهم الجميع القصد فقال موضحاً بشكل يثير المشاعر:
" هناك مستقبلي الحقيقي ".
كان نحيلا وشبه معاق. مفعماً بالغرابة. أمسكه جاك من ياقته:
" أنت، أنت لديك شيء في نيويورك! ". 
" أجل، أنا بكل ما تراه مني ".
كان يبدو صارماً.
" اسمع لا شك إنك حالم كبير، لكن نيويورك موطن الأقوياء، وغد ضعيف مثلك لن يكون غير فتاة ليل أخرى ".
قالها ثم ابتسم بشكل متعجرف.
جيريمي قال بحزم:
" لست ضعيفاً ". 
تقدم منه جاك بهدوء غريب أمام أنظار الجميع، الكل حدسوا بما سيقع فبدؤوا بجمع أعقاب السجائر في رهان سريع ومضمون النتائج، ولأنه ثمة دوماً سيئي الحظ يربح منهم الآخرون كان الحدث رهاناً داخل رهان. قال جاك –
" في نيويورك لدينا لعبة صغيرة، لطيفة، أسمعت عنها؟ سأخبرك عن مضمونها القليل. صراع وتدافع أتقدر على الصراع؟ "
بدا جيريمي واثقاً وفرح الجميع لذلك، لأنه لم يتراجع.
" نعم، لكن لنضع بعض الشروط ".
" ها شروط؟ هاها، لنفعل ضع أنت أي شروط تشاء؟ ".
هذا ما قاله جاك. تقدم من جيريمي فرأى الجميع أي بائس أمام ذلك العملاق. قال بثقة لا يملكها إلا مجنون –
" شرط واحد صغير: الخاسر يخدم الفائز طالما بقى حيا كل مدة الحرب ".
كان الجميع ينظرون إلى جيريمي تارة وإلى القائد تارة أخرى، بهذا الشرط خشوا أن يمنع القتال. لكن لدهشتهم وافق القائد متحمساً للأمر. نزع كل منهما الثقيل من ملابسه شكلا دائرة لا ضرورة لها نظر كل منهما إلى خصمه، كان كل منهما ينتظر أن يبدأ الأخر. كانت لحظات حرجة ربما ولكن جيريمي بدأ يفكر سريعاً، عرف ما يمكن أن يحدث إن خسر كان مصراً على الإطاحة بخصمه، في تلك اللحظات هاجمه جاك تصدى له في البدء بشجاعة ولكنه كان أقل حجماً فتأثر في ظهره لثقل جاك الرهيب، كان كفيل يتداعى. انحنى فوقه لكي يرفعه بعنف ولكن جيريمي تشبث برجلي جاك ثم فتح رجليه كالفرجار بزاوية منفرجة، بسرعة خاطفة، سرعة أدهشت الجميع، كان جاك النيويوركي مرفوعاً بأكمله في الهواء ثم سمعوا ارتطامه العنيف بالأرض وعلى رأسه. في لحظة التالية كان جيريمي واقفاً يعاني ألماً رهيباً في ساقه بدا متأثراً بالفعل. احتاروا فيما حدث، صغير منهك واقف ويتألم وضخم واقع على الأرض فاقد للوعي. لم ينتبهوا إلا عندما ضحك جيريمي بأعلى صوته. تفرقوا محبطين، شخصين فقط يصرخان:
" سجائر، سجائر هيا، سجائر ".
فبدأت السجائر وأعقاب السجائر تتدفق إلى حجريهما، كانا زنجيين. الوحيدين الذين راهنا على جيريمي. الأمر لم يكن مدهشا حتى الآن، فالرهان كان أن الخاسر سيكون عبداً للفائز. في الأيام اللاحقة جعل جيريمي من جاك عبداً كاملا، جعله يخدمه ثلاثة أيام بلياليها، حقد غريب لم يعجب الجنود. شعروا بأن الايطالي القذر يهزأ بأمريكا كلها, فذهبوا إلى القائد ليضع حداً للمسألة ولكن القائد أجابهم –
" لقد خسر ذلك الفتي وعليه أن يفي بوعده،هذا ما تعلمنه، الرابح يضع القوانين ".
في اليوم الأول ظن الجميع بأن جيريمي يريد أن يضحك فقط ولكنهم في اليوم الثالث عندما لم يجدوا استجابة من القائد قرروا أن يتصرفوا من تلقاء أنفسهم. في تلك الآونة قام جيريمي بإهانة جاك لأبعد حدود حتى تحول إلى شبح لشخص مرح ومغرور قديم، جاك المتعجرف النيويوركي اليانكي تحول إلى حشرة صغيرة بلا حول ولا قوة. أشبه بعود قصب نخر. ما فعله جيريمي غريب بالفعل فهو لم يكن يوماً مدمراً لهذه الدرجة. ظل طوال حياته مسالماً ولم يؤذي أحداً. حتى قتلة أهله قاتل معهم بدل أن ينتقم منهم. هو نفسه لم يفهم ما الذي فعله لجاك، كان مصراً على قتله عبداً في المعسكر الصقلي. أحياناً كان يقول لنفسه تحت تأثير الخمر بأن تلك الليلة كشفت له حقيقة ذاته، إنه ليس سوى سفاح أوروبي عظيم، سفاح ظل طريقه. شعر بمدى سطوة أهله، أجداده وأعمامه الذين يمتلكون العالم.
" أنا جزء من أهلي، جزء من القوة ".
هكذا فكر في تلك الليلة.
فرحة غامرة، شعور عميق بالتفوق، صار المعسكر ملكه في تلك الأيام، رغم أنه لم يلقى الترحيب حتى من الزنجيين اللذين ربحا السجائر بفضله، إلا أنه ظن بان الأمر لا يتعدى كون الجميع لا يريدون العبث معه. كانت خسارته الحقيقية هي ألم قاسي في ساقه اليمنى ظن حتى أخر لحظة بأن رجله كسرت. أثناء السير كان يشعر بألم عظيم لذا فضل المكوث دون حركة كثيرة حتى في الليلة التي قرر أصدقائه أن يمنحوه ليلة فريدة من الشرب قبل أن يتحركوا في الغد إلى القاعدة. سقوه النبيذ الثمين والرفيع حتى الثمالة، في أخريات الليل بين اليقظة والحلم شعر بهم يرفعونه خلسة ليلقوا به في كيس وينقطع عن العالم.
عندما أفاق جيريمي كان ثمة جندي ايطالي يقوم بتفتيشه. شعر بالصداع يكسر رأسه، حاول أن يقول شيئاً إلا إنه لم يستطع. حرك يده فتوقف الجندي عن تفتيشه وقرب وجهه منه.
بـدا قـبيحاً:
"هي أنت، أنت أتسمعني ".
كان يسمعه بوضوح حرك يده ببطء وتحسس جنبه، لم يكن مسلحاً، تراجع الجندي إلى الوراء قليلاً، الألم في ساقه بدأ يعلن عن نفسه بخفوت، بتردد. رأى الجندي واقفاً بتأهب، شعر بخنجره عند كاحله. رجع بجسده إلى الوراء متأوهاً، فتح عينيه باتساعهما أخيراً، رأي المسافة الشاسعة من الأحراش والأعشاب الندية، تنسم رائحة الشمس بعمق، رائحة الصبح. ثمة دوار في رأسه، دوار وصداع. نظر إلى الايطالي وقال بيأس:
"  أنا ايطالي، لست سوى ايطالي ".
ابتسم الجندي وجلس قرفصاء:
" أنت ايطالي! حسنا دعني أخمن، أنت مهاجر ايطالي إلى أمريكا، هل أصبت؟  ضحك قليلاً ثم أضاف بحزم –  أنت أيضاً خائن. كم قتلت من أهلك؟ ها ".
كان الجندي يهزأ به. 
" لم أقتل أحداً، أنا ايطالي هارب من الأمريكان، قتلت أمريكيا، الفرنسيس قتلوا عائلتي ".
لم يمنحه الجندي مزيداً من فرصة للحديث شد من وسطه حبلاً واقترب منه أراد أن يربطه ، يربط يديه إلى الخلف، شد اليد الأولى ولكن جيريمي كان قد استل خنجراً من خاصرة الصقيلي وألتف بجسده بسرعة أفقدت الجندي توازنه، قبل أن يسقط على الأرض كان جيريمي قد طعنه خطأ في فخذه طعنة قوية، كان يريد طعنه في خاصرته، غرس الخنجر بعمق واستقر هناك، عند سقوط الجندي تعمق الخنجر أكثر. المسافة الشاسعة امتلأت بصراخ الجندي الذي جعل يزحف مبتعداً والدم يتفجر على الحشائش الندية. استغل جيريمي الفرصة، قام متأكداً بأن الأمر لم ينتهي بعد، فالجندي مسلح وهو الآن اعزل تماماً، شد الحبل من يده ولفه سريعاً حول كفه في عقدة ثقيلة، تقدم نحو الجندي الذي قام مترنحاً. كان الدم ينزف أسفل سرواله الذي تبلل، وقد كان يطلق السباب ويبصق عبر الخلاء. سحب مسدساً وبدأ يصوبه نحو جيريمي،  لكنه أخطأ هدفه، كان جيريمي قد صفعه على وجهه بعقدة الحبل. ركله بين فخذيه ودوت طلقة أخرى بلا هدف، قامت معركة صغيرة، كلاهما يهدف لأخذ السلاح الناري الذي سقط من يد الجندي، كلاهما مصاب في رجله. كان جيريمي يعاني دواراً، أحيانا كثيرة يلوح كأنه فقد الوعي فعلاً، يصارع الرجل غريزيا، خارج وعيه. الجندي كان أسوء حالا, فقد كان ينزف بشكل غزير. ضغط جيريمي بيده جرح الجندي الذي زحف على ظهره واتجهت أنظار جيريمي إلى المسدس, كان ملقى بعيداً عنهما. وحاول أن ينهض بسرعة نحو المسدس, لكنه حينما التفت ناحية الجندي شعر بمزق حاد في وجهه وكأنه فقد عينه. ألم حارق سببه أن الجندي أخذ الخنجر الملقى وكاد أن ينحر به جيريمي الذي تراجع إلى الوراء لاهثا، ربما كان قد صرخ هو الأخر، تشبث بجدع شجرة وأحس لدهشته بأنه واعي تماما وأن الدوار قد اختفى. حدق في الشمس، وجهه توهج باللمعان – عاش زمناً يذكر وهجه في عمق ندبته حينها – التفت فرأى المسدس قريباً منه، بهدوء التقطه، كانت أنفاسه تتلاحق، نشاطه يزداد. قام معتدلاً في وقفته، الشمس تغمره من الخلف، الظل يكتنفه من الأمامك، مشهد مهيب، نظر إلى الجندي الذي دهش لما يراه، جيريمي لم يكن يرى شخصاً كاملا أمامه، بدا جزءا من شيء أكبر واقدم.
قـال بأنه عندما وجد المسدس شعر بقوته الكاملة. شعر بالشفقة على الأخر، كره من أعماق قلبه، ذلك الإحساس البغيض بالشفقة.
" أرجوك، لا تقتلني ".
قال الجندي بصوت يشبه النواح، أبتسم جيريمي.
 " من أنت؟ ".
سأله.
 " بيرلو، أرجوك يا سيدي لا تقتلني ".
كانت نظراته ضارعة بالإيمان الغريب، الإيمان المجرد، كان جاثياً على ركبتيه.
" بيرلو، بيرلو ".
" دعني أذهب ".
عندها أطلق جيريمي طلقته الأولى على كتف الجندي الذي عرف أسمه للتو، نطقه بتلذذ، كأنه يملكه، كأنه شيء يخصه. بكاء الجندي لم يوقفه عن إطلاق الثانية على الكتف الآخر وأخرى في البطن، أنكفئ الجندي مستلقياً، متألماً في الفراغ المريع، كانت الشمس تغمره، تضيئه ودمائه تنساب من بين الأعشاب، يردد بخفوت:
" لا تقتلني، أرجوك، لا تقتلني ".
أطلق أخر طلقة على الرأس. فسكن بيرلو. كف عن الأمل، كف عن الألم، مات بلا رجعة. تقدم جيريمي من بيرلو، قرفص بالقرب منه. كان ساكناً لم يكن يسمع جيداً. كان ولا يزال في فراغ كامل. رفع يده أمامه ناظراً إلى المسدس، إنه في يده، بداً لامعاً وساكناً. جلس مستنداً على بيرلو الميت. كان انتصاره مقترناً بحزن لم يفهمه قط، شعر بالخواء ثم شرع يحدق في المسافة الطويلة عبر الأفق، لم يرى سوى الوحدة، لطالما شعر بالوحدة، لم يرد فقط إلا أن يغادر إلى أمريكا، ربما كان طلبه في وقت غير مناسب ربما كانت أفعاله هي الغير المناسبة، أفكاره، طريقة عمله لتحقيق ما يريد.
" ماذا إذا ؟ " .
لا شيء.
" كيف سأفهم نفسي ؟ ".
أنت لن تفعل، لا أحد سيفعل.
" لطالما حلمت أن أكون سعيداً، أن أحب فتاة من نيويورك، فقط! ".
ها ها لا تبدو الأحلام البسيطة صعبة أبداً، لا شيء يبدو صعباً، كلما كانت أحلامك بسيطة أكثر كلما جابهت الصعوبات أكثر. لم تظل تفكر في الحب؟.
" أنا لم أرد أن أتحمل عاقبة الانتقام لأهلي، لم أرد أن أجعل من نفسي عرضة لمرض الخراب ".
ألا تظن أبداً بأنك ضعيف، لم تستطع إلا أن تخضع لعدوك، حسناً من هو عدوك، ألك أعداء؟.
" أنا لست ضعيفاً، ولا أعداء لي ".
أنت ضعيف وفي هذه اللحظة أنت محاط بالأعداء، أنت مجرد حقير في نظر الآخرين، كلهم، كلهم، أنت محض حقير.
" لا، لم أكن يوماً حقيراً، هم الحقراء، حقراء، كلهم أوغاد حقراء ".
يقول جيريمي بأنه لم يشعر بنفسه إلا وهو يبكي مسنداً رأسه على جسد ميت، كانت الشمس تسقط حمراء عبر الأفق. وقف. قام بحفر الأرض بأصابعه، دفن كل ماضيه، أهله وأحلامه القديمة مع بيرلو بعد أن جرده من ملابسه. قريباً من القبر تقيأ خمر الليلة الفائتة، وقف، نزع ملابسه في الخلاء الخالي، ظل لفترة عارياً، غسل نفسه بالرياح الراكضة، شعر بلمسات الكون الخفية، ارتدى ملابس الجندي الايطالي ثم انطلق مترنحاً. سار عبر الليل بلا إعياء، قال بأنه لم يعد قابلا للإعياء، سار عبر الأحراش ورأي أوروبا المظلمة، الموحشة، الموتى تعمر أرواحهم البلدان، فكر بأن لا شيء كفيل ببناء الإنسان أكثر من الخراب نفسه. الحياة نفسها نبعت من اللا حياة، من الموت والعدم. تخيل طيوراً تحلق عبر الظلمة. اشتم رائحة الدماء والأشجار اليانعة الصامتة.
أمام قرية صقلية سقط من التعب. عولج كبطل وسافر مع فرقة خاصة إلى روما، قضى أياماً كملك. قال لي جيريمي:
" حتى دخل الحلفاء العاصمة الأبدية. أعلنت عن هويتي لجنود فرقتي، كنت أحتفظ بفتاة منحها لي الفاشيون، عاهرة في منتهى الروعة، عندما علمت ما فعلته بصقت في وجهي وتركتني. ثار الشعب، أحرقوا الخونة وأعوان موسوليني معاً، أحرقوهم أحياء. كنت  قررت خوض معركتي الخاصة بعدما أنكرتني فرقتي. كانت مشكلتي قد وضحت بالنسبة لي، قالتها الفتاة: أنت خائن، لا فرق بيني وبينك. قررت أن أحدد حلاً لم أعانيه. في فرنسا وجدت حلا لمعضلتي. بمعونة أفضل سلاح أحببته طوال حياتي: الفن ".
كان جيريمي يتحدث وعلى وجهه علامات غريبة من بقايا حلم مسلوب، بدا ممثلا أكثر منه شخصاً حقيقياً. تعابير وجهه تنم عن متمرس عميق في المسرح، ضليع في لغة التمثيل. قال وهو وراء المشرب، كانت الحانة خالية، الساعة قرابة العاشرة ليلاً وزقاق كله كان في حالة سبات عميق، الضوء الخافت أنار روحاً أخرى في جيريمي.
قال بقلق لحظي:
" لقد خنت بلادي، رغم كل ما قد أفكر فيه، لأجل ماذا ولمن؟  نـيويـورك، فرنـسا وانجلترا. بالفن سعيت لإنشاء فرقة خاصة من المجموعات الفنية، الأدبية، النوادي الليلية ومتضررين من الحرب. فرقة قوية لا تعرف التردد، بها انتقمت لكل أحلامي القديمة التي ماتت مع بيرلو، عن طريق الأدب والفن استطعت أن أقنع الكثيرين بان ما يحلمون به حقيقة، بأنفسهم جربوا روعة تكوين أفكار جديدة، جربوا بأنفسهم عالماً جلسنا لليالي طويلة نخطط له.
" عزيزتي، عليك أن تعرفي بأننا أفضل من الجميع، نحن من لا بد أن يرث جسدك كاملاً، نحن عشاقك الأبديين، تألمي لأجلنا، أنزفي معنا، تأوهي على فرشنا فقط، لست ملكاً لهم أنت لنا بكل ثراءك الجسدي، يا ألهي، كيف يمكن أبداً تركك؟! ".
أقنعتهم كلهم: الفرنسي خان فرنسا، الروسي ضرب بيديه أعدائه الروس، الإنجليزي ثار على تقاليده السخيفة والتي لم يضعها بيديه.
بالفن نجحت في الانتقام ".
**
كنت أنظر إليه بذهول تام، الليل مسح ذاته، مسح عنه كل خوف. إنه في آمان تام. حتى أنا وقعت تحت تأثير عالمه، فهمت نفسي ولكن ما هي الحياة دون حكايات، هل ما أنا فيه جزء من أهدافه؟ أليست القصص جزء من الفن الذي تحدث عنه؟ 
" الفن، قال جيريمي، الفن، أفيون هو الأخر، أنا أسف لأني عرفت هذا، وأسف مرتين لأني جعلتك تعرف ذلك. لا شيء جميل في عالمنا ".
وضع جبهته على الطاولة وكنت بدأت أحس بألمه لوهلة, أنا الجنوبي المترع بالضياع. ولكني لم أفهمه بشكل كامل حتى عندما رأيت دموعه تنساب لامعة على خديه. قال وهو ينظر في عيني:
" عمري ستون سنة كاملة لكنني لا شيء ".
ثم رفع ذاته معتدلاً دون أن تتوقف دموعه عن الانسياب: 
" لقد خُدعت ".
شعرت بأنه فريد وإني مشتت تماماً. جيريمي محزن جداً، شيء غير مفهوم من عالم الموت والعطش للفن والجمال. شخص وحيد لم يقدم على شيء بنفسه. كل فكرة في ذهنه مغموسة بالدم خياناته، وحدته، فقدانه، انتقامه المدمر. بدا لي فريداً.
رفع الكأس التي في يده ورفع لي وجهها مملوءا بالضياع وعينين صافيتين تنساب منهما الدموع اللامعة، ثم سألني كأنه يهز وتراً مشدوداً في أعماقي:
" أنت، أنت ماذا يا أدم؟ ".
ضغطت على كأسي بقوة والليل الهادئ يتوحش في داخلي، بصدى كلماته القليلة، فكرت في نفسي:
" أنا متزن، متزن تماماً ".
قلت لجيريمي :
" أنا إنسان متزن تماماً ".
رأيت حزناً في عيني جيريمي، قبل أن تشتعل ابتسامة غريبة على وجهه. نظر إلى بصـمت وشرع يتـلـو بالإنجليزية فيما يشبه الضياع، مغمض العينين:
" خمرتي الحمراء،
إني أشربها الآن،
أشربها لأعبر الليل،
مستمعاً للأصوات الخافتة،
للأعشاب الندية.
اشرب وحيداً،
فينزف حلمي دماً.
بعيداً قبلي،
وبعدي،
تشرق شمس أبدية،
كعهد جدي،
شمس وحيدة،
لموت أبدي.
إني أحلم بالكلاب الشرسة وبالأحزان،
بالرمال الصفراء، بالعائلات القديمة بلغة مرتبكة،
في بلادي يسألونني عن هويتي،
أقول لهم فأرى الدهشة في وجوههم.
ضوء المساء ينزلق حزيناً على الكؤوس،
كزيت متوسطي.
زيت يتفجر في الليل.
دما يتدفق.
إني أعيش ناسياً عبر الأفق الوردي،
هناك في المدى:
صمت رهيب،
هناك في المدى:
وطن مفقود لغريب ".
كانت كلماته تشبه الضياع. ضياعي أنا المواطن الجنوبي، أحمل معي ذكرياتي الكثيرة. إحداها جيريمي. يوماً ما سأحكيها كلها دفعة واحدة، بكل تفاصيلها. جيريمي عجوز يستحق أن يعيش كما يريد. أخبرني عن أمله الأخير أن يُعرف، بضحكة صغيرة خالية من كل مشاعر المعروفة، ربما هو خليط مثير من الحيرة والخوف العميق من المستقبل على عكس أوريسيا. أوريسيا التي ضاعت في براغ، غدت الماضي الذي يخشاه جيريمي قد أمسى هو خوف مستقبلي أنا الجنوبي الذي لم يُكتب ماضي أهلي.
انتهت

2007
بنغازي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق