الصفحات

2014/02/27

مقطع من رواية (اتفاقية الساعة)بقلم: د.سوسن أمين

مقطع من رواية (اتفاقية الساعة)
د.سوسن أمين
وكأن كل شيء بعد المأساة جائز (وأن أتنحى تماما ونهائيا عن أي دور سياسي..) كيف يعقل أن نقبل .. ألا يكفي عمي.
بصرختها التي أرعبتني وإسراعي إليها و أنا كلى يقين أنه لا يمكن أن  يخزلني لكنه لم ينتظر الصباح . كانت ليلته من  الصعوبة بحيث أتمها بالكاد ومع الأذان ودعته نسائم الحياة لتنضم خالتي  لجموع أرامل هذا المنزل ويخيم الحزن عليها بمخلابه الأبدي.
ارتميت عليه أحتضن البقية الباقية من الأب الذي لم أعرف غيره أبا .. برودة الموت ورهبته  تُحدث بالبدن قشعريرة غريبة كالواقف على بحر لجي تتخطفه الوحدة .. قدسية الرحيل برمتها أحاطت أجسادنا المكلومة فكستنا بالسواد من أول لحظة..لها تنحى لتتسلم القياد ولأول مرة .. كونه قعيداً لم تسلبه أبدا الهيمنة.
ــــــ صوت الرجل في البيت لا يوازيه شئ يا هدى حتى ولو كان همهمة.. يشعرك أن الدنيا  دنيا .

حتى بعد الحادث ورحيل ماجد والحزن الذي خيم بظلاله على الأسرة بأكملها وعدم مقدرته على المشاركة في الحياة أو الحركة إلا أنه ظل دعامة هذا البيت لنا ولكل الأسر من حولنا ..طنط آليجرا تستشيره في كل أمورها ..كيفية السيطرة على سامى وسمير بعد موت أبيهم في سن حرجة ..إيجاد مشترٍ للعزبة ..المعاملة  مع المستأجر الذي يحاول اغتصابها منها.. والموافقة على المهندس إسحاق بباوي كخطيب لسيسيل كان شيئاً أساسياً وإلا ما تمت الخطبة وخاصة أنه كان حديث التخرج وإمكانياته المادية ضعيفة.. لولا وساطتي عنده بدافع من سيسيل عجل بالموافقة .. وطنط بهية تأخذ رأيه في كل صغيرة وكبيرة وفى اختيار المستأجرين لشقتها المفروشة..الشلل انتصر على الأطراف لكن العقل ظل متقدا يعمل بكفاءته الأولى إلا أنه ظل لآخر أيامه يبحث عن ملابسات ما جرى  أكان عبد الفتاح مخمورا أم مخدراً أم أن ماجداً هو من كان يقود مستغلاً حب عبد الفتاح له بالرغم من تحذير عمى  بألا  يسمح لمن  لم يتجاوز السابعة عشر بالقيادة .

لن أنسى ما حييت منظره وهو ينصرف يوم الحادث ضاربا عنقه بكفه مؤكداً لعمى الولاء والطاعة .. عنتريته الزائفة أضاعت رقبته التي لم تفي بمسئوليتها ليستمر بعدها في البكاء ليومين كاملين دن أن ينبذ ببنت شفة..لتجده زوجته الثانية صباحا ميتا في سريرة..أكان انتحار أم موتاً طبيعيا ..ما عرفنا.. رحلا ليدفن معهما سرهما ومَن منهما كان المتسبب في تلك المصيبة؟ ظل السؤال المحير لنا جميعا ليومنا هذا .

ë    ë    ë

وكأن النكسة ما جاءت إلا لتخرجنا من بلدتنا الطيبة الهادئ طبعها.. العليل نسيمها..  وحينا  الوديع بجامعه الفسيح في نهاية المنعطف يؤم  فيه جدي المصلين ويعطى درسه  الأسبوعي عصر كل خميس..بصمته على ألا تغيب..حتى أَسمَّى ..أرادت أمي ..(مي)..  لكن هو كالسيف قاطع رغم أنف الجميع وإن جانبه التوفيق في بعض الأحايين.. كما في اختياره لاسمي.. وما اختاره لي من نداء أبدي..لأكابد العمر كله عناء شرحه وتفسيره. ولكنه هو بحق عالم السويس الجليل وبركة الأربعين وشيخ الإسلام كما يدعوه الجميع بل رفعه بعضهم لدرجة الأولياء..فهو إذا استسقى  هطلت الأمطار وإن دعى لأحد رزق البنين والمال وإن أذاه أحد أقتص منه في الحال فإن جاءه معتذرا ومقبلا يديه ما يكون من جدي إلا ترديد  (لا تسريب عليكم اليوم.. لا تسريب) .

ضاعت كل محاولاتنا لإثنائه عن البقاء فيها وحيداً تحت القذف هباء  وأصر على البقاء متمنيا الشهادة  مردداً (من يطول) . ندين له بالكثير.  فمنذ مولدي وأنا وأمي عالة عليه..بالرغم من ثراء أبي العريض ..أمي وأخوها التوأم جاءا نتاج هذا الصفاء والجمال والدعة ..جدتي أيضا كانت أسطورة في تقوى الله..أصولها التركية لم تكن تغيب عن من له عينان.. لمزيج الطيبة والحنان والجمال أسموها أم الإحسان فبالرغم من دخل جدي الضئيل كانت رمزاً للعطاء والسخاء وبذل المعروف للقاصي والداني.

ë    ë    ë

إحباطات استغرقتني طوال الرحلة.. الطريق البري من السودان لأسوان كان الفرصة لاستعادة الذكرى. عندما أعمل عقلي الآن فيما حدث أجد أن كل شيء أتى بما هو غير منطقي ..سنين من زحف العجز والموت واستنزاف عصارة الأمل ممن أرتضى تحمل المسؤولية كاملة وإن حاول الجميع رفع الحرج عنه والتخفيف عن كاهله.. حتى أمي صبرت ارتضت.. لكن هو لم  يتحمل عبء المسألة والمساءلة ..انفجار الشريان أسقطه جسداً بلا حراك في قيد لا يرجى منه  شفاء .. لمجرد أنه وافق على  ذهاب ماجد مع من .. لطالما تعجبنا من صداقته له وتلك الثقة وهو من هو.. خفيف العقل.. ضحل العلم..  دائم الهذر..بعيد كل البعد عن تحمل المسؤولية ومع ذلك لم  يكن يسمح لغيرة بالإطلاع على أخص خصوصياته ويفوضه تفويضاً كاملاً للتعامل  باسمه من دون استشارته أو الرجوع إليه.. بل الأكثر من  هذا.. أستخدمه ككاتب في الفترة المسائية كنوع من المساعدة لضآلة دخله الحكومي وفتحه أكثر من  بيت.. تزوج اثنتين و لم ينجب  من أي منهما فأقدم على الثالثة بالرغم من محاولات أبي إثناءه عن هذا.. وإمعاناً في التقريب أستخدمه كسائق له في أغلب الأحيان بالرغم من تحذيرات أمي الدائمة واتهامها إياه بتعاطي المخدرات وأنه ولابد سيقترف يوما ما مصيبة .
- حرام عليك.. لا تظلميه.. الرجل تاب.. فقط نفسه في الأولاد..
- كل صفاته كافية لطرده .
- ليس لهذه الدرجة.. ربنا يهدي .
- يحب السرعة والمغامرة..(سائق الهبل على الشيطنة ).. أخاف عليك وعلى الأولاد .
- غداً ألفت نظره وأنهره .
- ولماذا تتعب نفسك معه .. فقط أطرده  .
- كيف أطرده.. يحبه الأولاد.. ويحبهم كثيرا..العيش والملح له حق.. يكفى إخلاصه وولاؤه .

لتأتى النهاية مفجعة..إلا أن مصاب أبي في الاثنين كان أجل وأعظم فلم يتحمل .. انتشلني الوصول لأسوان من جب الذكريات لكن رؤية السد وبحيرته ومن قبلهما أعظم القرارات والانتصارات..القناة والجلاء..إنجازات أذهلت العالم. رؤوسنا التي طالت وقتها السماء كيف طارت من فوق أكتافنا منذ أيام.

اعتصرني قيظ يونيو في محطة أسوان وتسلسل شريط الأحزان.تظفرا على لإذابتي  قلبا وقالبا وتداعت على رأسي المنغصات .. أتون الماضي هيأني للسعير الآتي .. باختصار مرارة الواقع لا تناقض استحالة الأحلام ..كياني المهزوم يشتاق بارقة أمل أو بصيص من نور .. حررني من غفوتي حقيقية أن خداع النفس أمر ألف مرة من ألف انهزام والنداء الأخير على القطار..ما أصعب أن أتخلى عن طائرتي وأعود لوطني محبوساً بين جدران مقيداً إلى الأرض بقضبان مع أنى في رحلة شبيهة مع ميج كنت كمن يحلق في السماء .
برتابة خانقة تمضي  الساعات .

ë    ë    ë

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق