الصفحات

2014/04/03

نجاة الزباير: الشعر ماء الحياة


نجاة الزباير: الشعر ماء الحياة









محمد نجيم
نجاة الزباير، شاعرة مغربية متألقة تنسج نصها الشعري بنفَس صوفي مرهف تمتزج فيه أحاسيس الأنثى الشاعرة بمشاعر الرومنسية الهادئة. لها دواوين شعرية لاقت استحسان النقاد والقراء في المغرب كما في الوطن العربي، نذكر من أعمالها الصادرة: “أقبض قدم الريح”، “فاتن الليل”، “لجسده رائحة الموتى”، “قصائد في ألياف الماء”، “ناي الغريبة”.
شربت نجاة من نهر الشعر حد الثمالة وفي قصائدها نلمس آلام الذات وجُرح العالم. تقول إن الألم هو تلك القصيدة السرية اللصيقة بجدار الروح، وإن الشعر هو ماء الحياة الأبهى الذي يغسل الروح من الشوائب. “الاتحاد الثقافي” التقى الشاعرة وكان هذا الحوار
من هي الشاعرة نجاة الزباير؟

◆◆ سألتَني عني فحملتُني برقا بين دهاليز العمر كي أقبض على أجزاء مني... هل أقول بأني سيدة تخيط الأفق بخيوط الحلم، وتركض في بستان الأماني وهي تزرع أحداق الكون ورداً جورياً؟ أم شاعرة تلتحف سماء الاختلاف هنا وهناك وسط واقع ينزف جرحه؟ لكن دعني أختزل لك بَصمتي الذاتية وأقول لك: إني سيدة ترتدي عباءة التوهج، وأسكن بين دهاليز الحرف سابحة في بحر الشعر الذي يصطادني بسحره. يا للصقيع الذي يشلّ قدم الروح كُلّما ابتعدتُ عن رحاب الكتابة التي تتلو عليَّ وصاياها!.
أنت امرأة شاعرة، ماذا يُمثِّل الشّعر في حياتك؟
◆◆دعني أبعثر بعض أنفاسه التي تلازمني كي تراني كيف تمر أيامي لحنا وأنا أفتح أبوابه، وأقول له: سلاما أيها الشعر هو القدح الإلهي الذي أسكرني ورماني بين أمواج نبيذية لا أرغب في الفكاك منها، ولدت ولادة ثانية بين طقوسه، فكنت أتنقل تحت ظلاله حورية يعانقها همس الوجود.
فهو أوتار تعزف على ذاتي فأرى مُدناً تجعل من ضلوعي سريرا لها، لأن الشِّعر هو ماء الحياة الأبهى الذي يغسل الروح من الشوائب، فأغدو أميرة بحذاء زجاجي أغني أغنية الحب حيث أحيا فوق السحاب.
يصطادني الحب
النفَس الصوفي يطغى على نصّكِ الشعري، كيف تفسّرين الأمر؟
◆◆ عندما تفتح القصيدة عوالمها كي ألج فيها وأنا أتمايلُ في لغتها الشفافة، أراني أطيرُ بجناحين من مداد وحبر كي أعانق سماواتها، حيث أتلاشى في لغات الكون وكأني ذرة صغيرة ليس فوق كتفي روحي غير حب إلهي يمنحني تأشيرة الوقوف على باب أسراره. هكذا يصطادني الحبُّ في كينونته الكُبرى كلّما اقتربت من حقله كي أقطف وردة بهائه، وألمس بعضاً من فتوحاته السامقة.
للألم حضور طاغ في أشعارك، ما الذي يُؤلِم فيك المرأة أو المرأة الشاعرة؟ وهل تتفقين مع القول القائل الألم هو الذي يصنع الشاعر؟
◆◆ ما أكثر الأشياء التي تستوطن أعماقنا ونحن نتدثر بإزار شعري، حيث الحلم يرقص مذبوحا من الألم!. فالألم هو تلك القصيدة السرية اللّصيقة بجدار الروح، فكلما مشت بغنج في دمي أراني لا أعانق طيفها حتى يقدم لها كؤوس ترحابه.
تسألني عن وشمه، وأنا أتنقل دوما بين زلازله وأنام في هدير صمته، ألأني أتسكّعُ في حانته أبحث عن حمامة تحمل غُصن زيتون تضعه فوق سطح أمنياتي؟، أم لأني هشّة تكتُبني الحياة بألوان وأنغام تستمد من الذات قلقها وحضورها، وترميني في هذا العراء ليس معي غير لحاف شجي مطرز بحزن أضحى جزءاً مني؟ فعندما كنت أتسلق شجرة الشعر وأنا أسقط منها مثل فاكهة جافة لما كنت أتعلم أبجدياته، كان من بين الذين تأثرت بهم بعمق الشاعر أبو القاسم الشابي، الذي وجدت في ألمه ألم الإنسانية جمعاء، فكان ديوانه رفيقا لنفسي الشفيفة التي ما تزال تتزنر بالحلم في لثغته الأولى، فرغم تمزقه النفسي وسط عواصف الفقد والمرض غنى للحب والجمال والثورة، فكان بحق رمزا إنسانيا لا ينسى.
لقد كانت همومه حطبا أشعلت نار الفتنة في شعره الذي خلده التاريخ رغم رحيله باكراً.
فهل الألم هو تلك الكأس المرة التي إن شرب منها الشعراء غدوا عظماء؟ ينحني يراعي قائلا: نعم.. نعم إن الأمر كذلك. أو ليس الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب مزمارا وجوديا للألم، يكفي أن نقرأ قصيدته الخالدة “سفر أيوب” لنعرف ذلك.
هذا الألم الذي قد يراه بعض الشعراء رائعا كما عند الشاعر العربي الكبير أحمد بلحاج آية وارهام الذي يقول: يا لروعة الألم هو أحن علينا من البشر!.
لكنه في أحايين كثيرة نجده يصنع منه مرآة نرى فيها ذاته الموزعة شظايا، من خلال قصائد عملاقة شملتها دواوينه المتعددة، ليكون الألم نصلا يغرس أنيابه في أوطانه التي تتناغم فيها كل الأوجاع.
أقبض قدم الريح،فواكه الصرخة،لجسده رائحة الموتى،قصائد في ألياف الماء، ناي الغريبة”.
في عناوين أعمالك الشعرية ما يُحيل على الموت، الهروب، الصراخ، الماء. هل ثمة في أعماقك ما يؤلم الذات الشاعرة ويُشظّي الروح؟
◆◆ لن أنكر أن فوق صدر قصائدي حروفاً تنتحب كلما نصب قلبي خيمته على ضفاف الكلام، فأرى الحزن رحالة يحمل بين ذراعيه أشلاء نفسي المنذورة للحب. فهل هي صخرة سيزيفية تلك التي تحط فوق شجرة أناي؟ أم تراه دثار ليل يلفني بأوجاعه كلما رأيت كم تعرج الأحلام في هذا الوطن الكسير، حيث تحول الربيع لخريف سطرته دماء الأبرياء، ترى من خلاله موت الأحلام ظلا أحاول الهروب منه نحو آفاق جمالية لا يسعها غير صدر القصيدة؟ وكلما رماني هذا الحب الكبير بين براثنه، تحول صوتي لآهات تعانق مواويل كل العشاق كما في ديواني الأخير “ناي الغريبة”. واسمح لي رغم كل ما ذكرتُ بأن أصرخ في جوف هذا البياض... من أين تأتي أيها الألم؟!
إنها رهافة الشاعر الذي يصنع وطنا من كلمات على صفحات أرض تلف أكفانها! ففي شوارع الحياة أجد دروبا إنسانية هنا وهناك تفتح فم جرحها، وهذا الصراخ القادم من مرايا كونية هو الذي يلمسه القارئ في دواويني.
كيف كانت البداية المُؤسسة لنصّك؟
◆◆ كلما سئلتُ عن البدايات أراني أتربص بأول الخيوط التي ربطتني بعوالم الشعر، فأجدني تائهة أمام شباك من ضوء لا أعرف كيف تسللت إلي منه تلك الأشعة الأولى التي رمتني بين طقوسه منذ صباي، حيث كانت الريح تحمل ضفائري هنا وهناك. فوجدتني أطارد فراشاتها بأنامل رقيقة لا تعرف بعد كيف تمسك بروعتها.
هكذا أسرت بصوت القصيدة الذي تردد بين جنباتي ذات سفر نحو عوالم الكتابة المشبعة بقراءات كثيرة كانت الدافع وراء التنقيب في أسرارها، فأصبحت بالنسبة لي الأرض والسماء، الليل والشمس، الحاضر والأمس، وغربتي التي لا تنتهي إلا بلقائها في قارعة الحرف، حيث أرتمي في خلاياها نقطة ماء، وأمشي سيدة لحلم ما له انتهاء.
الكتابة وطني
هل تجدين ذاتك داخل القصيدة أم أنت تواقة لآفاق إبداعية أخرى؟
◆◆ الكتابة وطني الذي ألجأ إليه كلما تمزقت الذات في منفى من جمر، فأراني أهرول في شوارعها أبحث عن دوحة تتحول فيها هواجسي لعناقيد كلام تتدلى من معناي. فعندما تمطر سماء الكتابة، أجدني منتعلة خفاً مهترئاً، أمشي به بين شوارع النفس، أتلفت هنا وهناك لعلي أجدني في كهف يقيني من عواصفها، لكني في الأخير أعانق جسدها، وأرتمي في جزرها حورية لا تنام. هل رأيت قبل الآن جنونا يستوطن البياض، لا تعرف متى يقرع كيانك عنوة؟، هل في النهار أم في الليل؟، حيث يمد الحبر غطاءه فأرتمي فيه أجمع كل الأزمنة في وجداني، فأراني في لحظات ما شاعرة تبعثرني القصيدة فوق دفاتره، وفي لحظات أخرى أتساقط من سماء النثر نجيمات لا أعي غير ركضي المتواصل في صداها كما تركض خلفي. أنى ذهبت أرى ظلها يسابق ظلي، فأجدني مشردة أمام بابها، أتوسل بعضا من عطاياها كلما طافت بأقداحها في حانة الروح.
إنها ذات أقنعة شتى، ترقص بها رقصة الجمال في ساحاتي، تطل علي في كل صيحة، تمد لي خيط وفائها لأندثر في فتوحاتها.
فآه من لقائها وهي تسكر من ثورتي وعطشي اللانهائي للاختلاف! تفتح داخل أضلعي ثقبا تتسلل منه القصيدة متبرجة بدمي، فهل هي ذلك الصباح الذي يشرب من عين الذات أسرارها فلا يأسرني غيرها؟ أم هناك أغنيات أخرى ترقص على إيقاعاتها أصوات تعبر همسي كلما تسللت من رئة هذياني حرائقها؟ نعم، إنها تتشكل داخل دوائر أجدني سعيدة برقصاتها التي لا تنتهي، والتي تجلت في مقالات نقدية وكتب صدرت لي وأخرى موجودة قيد الطبع.
لماذا الأسطورة في قصائدك؟
◆◆ كانت حكايا الطفولة تستوطن وجداني، فكنت أضيع في تفاصيلها التي تطرق باب خيالي البكر، ولما ولجت بساتين القراءة الساحرة، شدتني الأسطورة بخيوطها التي ملأت ذبذباتها ذاتي الإبداعية بهذا الكم الزاخر من الإثارة. وبما أن الأسطورة أرضية خصبة لبنية الخطاب في الشعر العربي المعاصر، فقد كان بديهيا أن تخلق نوعا من التناص داخل شعري، كرمز أحاول من خلاله الإحالة على عوالم إنسانية فكرية وتاريخية أفرزتها حضارة ما، كنوع من ربط الزمن الحاضر بالتراث الإنساني.
كيف ترين المشهد الثقافي في الخليج العربي وفي دولة الإمارات العربية المتحدة خصوصاً؟
◆◆ لا يختلف المشهد الثقافي في الخليج عن الخريطة العربية، حيث عرف تطورا وانفتاحا أكثر على الآخر، من خلال مجلات رصينة تواكب الحراك الثقافي في هذه المنطقة وتنظيم ملتقيات ساعدت على تلاقح الثقافات، كما ساهمت المؤسسات التي تحتفي بالشعر خاصة في الإمارات على الدفع بركبه نحو الأفضل، فدائرة الإعلام والثقافة بالشارقة مثلاً احتفت بالشعراء الشباب في إطار مشروع استفاد منه 30 شاعراً/ شاعرة من المغرب في سنتين. ولم تكن مثل هذه المبادرة لتتحقق لولا أن الشعر هو أكسجين الحياة الثقافية والأكثر تداولاً، ففوق جسر ذهبي تمشي القصيدة بعنفوان وجمالية. وأحب أن أقف عند برنامج ضخ دماء جديدة في شريانه، وهو “شاعر المليون” الذي خلق الحدث في مسيرة الشعر العربي المعاصر، حيث تم تقريب الشعر أكثر من الجمهور، مما جعل الشاعر يحظى بالمكانة التي تليق به. اعتبرتُ هذا بمثابة رد اعتبار للقصيدة التي يشارك في إبداعها شعراء من مختلف الأوطان، إنها تجربة متفردة خلقت ارتباطا نوعيا بين المشاهد / القارئ / المتلقي مع الشاعر.
ـ مراكش مدينة ساحرة هل تلهمك تلك المدينة  ؟
مراكش؛ هذه المدينة النائمة حورية في فم التاريخ المغربي والعالمي، أشعر دوما ببسمتها تقود خطاي، ترميني بين أمواج عطرها فأتدفق شعرا من ثغر زمنها الآسر. حيث تسوق معناي نحو معانقة المدى الأزرق.
إنها الحلم القادم كما أسطورة تستقطب كل روح تعشق الجمال، فهي القصيدة العصية على القبض الممددة في أثير المستحيل، نخلها عنفوان، وملامحها الساكنة أغوار الروح لوح ضوئي ينير دربي. 
لصورتها في ذاكرتي الشعرية ألف لون باذخ  يتموج فوق رمال سحرها؟،
فدعني أصف لك حضورها في شعري بتأن كبير :
ـ حين تبعثرني في كل الاتجاهات أراها حمامة تطل من نافذة الروح كلما أخذت اليراع لأعزف مقطوعتي الشريدة.
ـ هي التي يجتمع في كفيها قوس قزح، وفي خاصرتها تتكلم القصيدة أفراحها وآلامها.
ـ هي الحب الذي به أتغنى وأنا أعلق لافتاته فوق أرصفة دواويني كلها
ـ هي ذلك الشعاع المسافر في مكاشفاتها، المستقر في أنفاسي شجرا وماء، حيث تستقبل  مئذنتها كل الغرباء بأريج ممزوج بهديل كل رموزها التاريخية.
ـ هي الخمرة المسكوبة في كأس سكوني، أو ليست الحبر السري الذي كتب اسمي بالمداد الذي يعرفه القارىء العربي؟.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق