الصفحات

2014/04/08

ناجي نعمان يُضيفُ إلى الجنون جنونًا

خمسٌ وثلاثون على داره، وثلاثٌ على مؤسَّسته، وهَمُّه عَولمةُ الثَّقافة بالمجَّان




ناجي نعمان يُضيفُ إلى الجنون جنونًا
الإبداعُ، كما العطاءُ، من الأمور الطَّبْعيَّة لا المُكتَسَبَة
لا مثقَّفَ في المُطلَق، ومُدَّعو المعرفة الشََّامِلَة نرجسيُّون، وحَكَواتيُّون، ومُهرِّجون فاشلون
أنشِطَةٌ ثقافيَّةٌ مجَّانيَّةٌ فريدةٌ في النِّطاق العالميّ، أو سبَّاقة، غيرُ مدعومةٍ، تَقومُ على جهدٍ شخصيٍّ
 
 
بلغت دار نعمان للثَّقافة عامَها الخامس والثَّلاثين (تأسَّست في العام 1979)، وكَذا أتمَّت مؤسَّسة ناجي نعمان للثَّقافة بالمجَّان عامها الثَّالث (أُنشِئَت في العام 2011)، فكان لا بدَّ من لقاء ناجي نعمان، الشَّهير بـ "مجنون الثَّقافة بالمجَّان" على ما لقَّبَه منذ أكثر من عقدَين الصِّحافيُّ المُخَضرَم اسكندر داغر، وذلك لطرح بعض أسئلةٍ عليه ونَيل الأجوبة الشَّافية عليها، من مَخزون أقواله وتصريحاته، قديمها وجديدها.
 
كيف نشأت دار نعمان للثَّقافة؟ وما كانَ مَسارُها؟
        لم أَدْرِكْ - عندَما نَشَرْتُ، في الرَّابعةَ عَشْرَةَ من العُمر، أوَّلَ كتابَين لي، ضارِبًا إيَّاهما على الآلة الكاتِبَة - أنَّ مُستَقبلي قد رُسِم. وعندَما تَباحَثْتُ مع شقيقي عبدِ الله، أواخِرَ السَّبعينيَّات من القَرن العِشرين، في أمر إنشاء دارٍ للنَّشر، قَرَّ الرَّأيُ على دارٍ تُعنى فقط، وعلى سَبيل الهِواية لا الاتِّجار، بطَبع مؤلَّفات آل نَعمانَ من دون سواهم. وهكذا، يومَ جرى تأسيسُ الدَّار باسم الوالِد، متري، الأديب والشَّاعر، في العام 1979، أَصَرَّ، طابَ ذكرُه، على تسميتها "دارَ نَعمانَ للثَّقافة"، وليسَ للنَّشر، لِما كانَ بينَه وبينَ صَنعَة النِّجارة ومِهنة التِّجارة من بُعاد.
        بيدَ أنَّ كُتُبَ الدَّار النَّاشِئَة ما لَبِثَتْ أنْ لَفَتَتْ كثيرين؛ وبعدَ نِصف دَسْتَةٍ ويَزيدُ من الكُتب العربيَّة والفرنسيَّة الموقَّعة حَصرًا من قِبَل أفراد العَيلة، خُرِقَ الحِصارُ الَّذي فَرَضْتُه، على إلحاحٍ من شقيقي عبدِ الله، فأَصْدَرَتِ الدَّارُ كُتُبًا لآخَرين. وأَصْبَحَ لا بدَّ، هنا، من إعطاء الدَّار هَيكليَّةً، فاسْتَقْلَلْتُ بها بعدما أفلسَت عمليًّا، في العام 1983، واتَّخذتُ لها مكتبًا في وسط مدينة جونية. ورُحْتُ - بعدَ الكُتُب الأدبيَّة الَّتي أَصْدَرَتْها الدَّارُ وأَوْصَلَتْها، سَريعًا، إلى الهلاك - أُشَدِّدُ على إصدار سِلسِلَتَين من الدِّراسات الخاصَّة والمُتَخَصِّصَة، بالعربيَّة والإنكليزيَّة؛ كما عَمِلْتُ على وَضع المُجَلَّدات المَوسوعيَّة حول العالم العربيّ، وإصدارها. وهكذا، أَمْكَنَ الدَّارَ الاستِمرارُ، وغَدَوْتُ ناشِرًا ومؤلِّفًا مُتَفَرِّغًا.
        وظَلَّ هاجِسُ نَشر الكُتُب الأدبيَّة في البال. وإذ قَرَّرْتُ، في العام 1991، الانطلاقَ بسلسلةٍ مَجَّانيَّة من هذه الكُتُب، حالَتْ دونَ ذلك كارثَةٌ مَصرفيَّةٌ حلَّت بـ "ثروتي البسيطة". ولمَّا لم يُسْفِرِ الوَقتُ عن تَحَسُّن أوضاعي المادِّيَّة، وَجَدْتُ أنْ أَنْطَلِق بالسِّلسِلَة، في العام 1995، وأيًّا يَكُنِ الثَّمَن، فوُلِدَت فعليًّا سلسلةُ "الثَّقافةُ بالمَجَّان من دَار نَعمان للثَّقافة". وفي مناسبَة العيد التأسيسيِّ العِشرين للدَّار، مَقرونًا بالذِّكرى الخامِسَة لغِياب عَميدها، وإعلانِ بيروتَ عاصِمَةً ثَقافيَّةً عربيَّةً في العام 1999، أطلقتُ تظاهَرَةً لتوزيع جَميع كُتُب الدَّار، من دون استِثناء، بالمَجَّان، وعلى كلِّ راغِب. وتكرَّرَتِ التَّظاهراتُ من مِثل تلك في مناسباتٍ أخرى تالِيَة في العامَين 2009 و2012.
 
 
ما النَّشرُ بحَسَبك؟ وأين الإبداعُ فيه؟ وإلى أين يُوصِل؟ 
        إنَّما النَّشرُ رُؤيةٌ وصِناعةٌ وفَنّ. ولَئِن تَمَكَّنَ النَّاشِرُ من مُواجهة موضوع الرُّؤية بإعطاء بعض إبداعٍ عَبرَ مُجلَّداتٍ وكتبٍ جُلُّها مؤلَّفٌ، لا مَنحولٌ أو مُكَرَّرٌ أو مُستعادٌ من الأسلاف، وقليلُها، عند الضَّرورة، مَنقولٌ إلى العربيَّة بحَسَب أصول اللُّغة والحُقوق الأدبيَّة؛ ولَئِن تَخَطَّى موضوعَ الفَنِّ في إتقان المَطبوعات بمَحضِها أفضلَ الموادّ وأرفعَ التِّقنيَّات الطِّباعيَّة؛ قُلتُ، لَئِن واجهَ النَّاشِرُ الرُّؤيةَ، وتَخَطَّى الفَنّ، فلا بدَّ له أنْ يَصْطَدِمَ بالصِّناعة، وما أدرانا ما الصِّناعة، ونَفقاتُها، وتَبِعاتُها التِّجاريَّة؟
        وإذا كان الهَدفُ الأوَّلُ من الدَّار النَّاشِرة أنْ تَنْشُرَ الثَّقافة، وحيث أنَّ الثَّقافةَ تَتَأَتَّى من الإبداع، والإبداعُ، كما العَطاءُ، من الأمور الطَّبْعِيَّة لا المُكتَسَبَة، فقَد وَجَبَ على النَّاشِر اللُّبنانيّ أن يُجَنِّدَ الفِكرَ لا الزَّنْد، ويُلَقِّمَ الأقلامَ لا الأسلِحة، ويُنطِقَ الكلماتِ لا الرَّصاص، فتَكونَ على يده ولاداتٌ بَدَلَ الاغتِيالات، وحياةٌ بَدَلَ المَوْت.
        غَيرَ أنَّ الواقعَ المادِّيَّ - بفِعل الأزمات الاقتصاديَّة المَحليَّة، وتلك البَيْعَرَبيَّة المُتراكِمة - لا بدَّ له أنْ يُرخِيَ بظِلِّه، فيتَبَيَّن أنَّه لإبداعٌ مُكلِفٌ ذاكَ الَّذي يُتَّبَع، بحَسَب الأصول، تأليفًا وترجمةً وطِباعةً ونَشرًا، في زَمنٍ سُدَّت فيه أبوابُ التَّوزيع، وضَعُفَتْ شَهيَّةُ القِراءة لدى المُواطنين على وَقع الأزمة المَعيشيَّة. والإبداعُ ما كانَ لِيُطعِمَ يَومًا، فكيفَ به في ظُروفٍ مُماثلة؟
        وإذ عَمِلَ بعض النَّاشِرين، لضَرورات الاستِمرار، على التَّخفيف من الإصدارات الأدبيَّة والفِكريَّة، واتَّجَهَ شَطرَ الأعمال التُّراثيَّة و/أو الشَّعبيَّة، وجُلُّها مُستَعاد، فإنَّه غَدا يَبيعُ، فِعلاً، وَرقًا مُلَوَّنًا حِبرًا ومُغَلَّفًا جِلدًا، إنْ نَطَقَ فبِفَضل الأقدَمين وأعمالهم، وغالِبًا، في الأعمال الشَّعبيَّة، ما لا يَنْطُقُ قَطّ، بَل ويَكونُ مُبتَذَلاً.
        وإذا كانَ لا بدَّ للنَّاشِر من العَودة إلى الإبداع - والإبداعُ الفِعليّ، في عُرفي، لا يَكونُ إلاَّ بالأدب، فِكرًا وشِعرًا وقِصَّةً ورِواية - لا بدَّ له أنْ يَعودَ إلى نَشر السَّلاسل الأدبيَّة، ولو اضْطَرَّ إلى مَبيعها بالزَّهيد الزَّهيد، أو، حتَّى، إلى تَقديمِها بالمَجَّان، فالكتابُ الأدبيُّ العربيُّ يَكادُ يَنْدَثِر، ولا بُدَّ من القِيام بخُطُواتٍ إنقاذيَّةٍ جَريئة، ولو على الحِساب الفَرديّ؛ والإبداعُ ما ارْتَبَطَ يَومًا بالمَنفَعة المادِّيَّة الشَّخصيَّة.
        النَّشرُ المُبدِع، فِكرًا وشِعرًا، في لبنانَ كما في أرقى دول العالَم، خَسارةٌ مادِّيَّةٌ أكيدة، فيما هو، قِصَّةً ورِوايةً، مَعقولُ المَردود في العالم الثَّالث، ويَدُرُّ المَلايين في الدُّول المُتطوِّرة. وعلى النَّاشِر النَّاشِر ألاَّ يَخْتارَ الطَّريقَ الأسهَل، بَلِ الطَّريقَ الأصعَبَ ما أَمْكَنَه، عامِلاً على نَشر كلِّ جديدٍ في مجال البَدع.
        إنَّ تَغييرَ النَّظرة إلى النَّاشِر، بحيثُ يَغْدو صاحبَ رؤى ومسؤوليَّاتٍ وَطنيَّةٍ وإنسانيَّة، هو ما يَجِبُ السَّعيُ له. فالعَهدُ الَّذي كانَ فيه النَّاشِر مُجَرَّدَ تاجرٍ، يَحْمِلُ حقيبتَه، ويَجولُ على المؤلِّفين مُشتَرِيًا الحَرفَ بحَسَب تَزَلُّفه للخارج، وبأبخَس الأسعار، طابِعًا كتبَه بأفقَر المَوادّ وأضعَف الوَسائل، مُتنَقِّلاً كالسِّمسار بينَ الدُّول، ساعِيًا لمنفَعته الشَّخصيَّة من غَير أيِّ رادعٍ أخلاقيٍّ وهَمٍّ إبداعيّ، مُحوِّلاً النَّشرَ سوقَ نِخاسَة، مانِعًا الأجيالَ الطَّالِعةَ من أيِّ ثقافةٍ فعليَّةٍ فاعِلَة؛ قُلتُ، على مِثل هذا العَهد أنْ يَزولَ إلى غَير رَجعَة.   
        وبعدُ، كيفَ للنَّاشِر أنْ يُبدِعَ، أدبًا، في ظِلِّ سوقٍ ضَعيفة، وقُدُراتٍ شِرائيَّةٍ شِبه مَعدومة؟ تلك تَبقى المَسألة. وأمَّا الجَوابُ فوَعيٌ في اتِّجاهَين: وَعيُ القارِئ ضَرورةَ تَشجيع الأعمال الإبداعيَّة الأدبيَّة، ولاسيَّما تلك الفِكريَّة والشِّعريَّة، والإقبالُ على طَلبها واقْتِنائها وقراءتها، وتَقديرِها عندَ الاستِحقاق؛ ووَعيُ المُنظَّمات والمؤسَّسات الحُكوميَّة والأهليَّة ضَرورةَ مُساعدة دُور النَّشر على إصدار الأعمال الإبداعيَّة من غَير أيِّ إلزامٍ لها، من أيِّ نوعٍ كان.
        بمِثل هذا الإبداع تُبنى الأممُ المُعاصِرةُ وتَنْهَض. فهلاَّ نَقْتَفي أثَرَ النَّهضَويِّين في البَدع، أم تُرانا سنظلُّ نكتفي باستعادة آثار الأقدمين، ويَظَلُّ إبداعُنا المُعاصِرُ، متى وُجِد، طَريقًا حَتميًّا للمَجَّانيَّة، فالإفلاس، ويَكونُ الجَهلُ هو الَّذي غَلَب؟
 
هل من أزمة في توزيع الكتاب العربي، وهل ستقضي الفضائيَّاتُ، والكتابُ الإلكترونيُّ، على الكتاب الورقيّ؟
        أزمةُ توزيع الكتاب العربيِّ قديمةٌ جديدةٌ لن تَحُلَّها إلاَّ شركاتُ توزيعٍ على مستوى العالم العربيِّ تُحَوِّلُ المكتبات - الَّتي لا تَحْمِلُ من الصِّفة سوى الاسم، فتبيعُ كلَّ شيءٍ في ما عَدا الكُتُب – قلتُ تحوِّلُها مخازنَ كبرى لمَبيع الكُتُب أوَّلاً، فما إليها ثانيًا، لا العكس. ومن النَّافل القَولُ إنَّه، لقِيام مثل شركات التَّوزيع تلك، على الأنظمة المُتَعَلِّقة بتَخطِّي الكُتُب حدودَها المحلِّيَّة أن تُسَهَّلَ إلى أقصى الحدود، وكَذا على الحرِّيَّات أن تُطلَق.
        وأمَّا الفَضائيَّاتُ، والمُبَرمَجات (الكمبيوتر)، فوسائلُ اتِّصالٍ ونقلِ معلوماتٍ مُستَحدَثَةٌ ودائمةُ التَّطوُّر، ويُخْشى منها كثيرًا على الكتاب. بَيدَ أنَّها لن تَقْضي عليه أو على لذَّة قلب صفحاته وشَمِّ عِطر حِبره، تمامًا كما لم يَقْضِ التِّلفازُ على الإذاعة، والإذاعةُ على الصِّحافة المَقروءة، والصِّحافةُ المَقروءةُ على ما يتناقلُه النَّاسُ، وبه يتَنَدَّرون.
        على أنَّ هذا لا يَعْني أنَّ على الكتاب أنْ يَنامَ على أمجاده. العكسُ هو الصَّحيح: على الكتاب أن يُماشي العصرَ والتَّطوُّرَ ويَسْتَمِرَّ في اعتماد كلِّ جديدٍ في فنِّ الطِّباعة وصناعتها، ولِمَ لا، عليه أنْ يُوَفِّقَ بين ما يُطبَعُ على ورق وما يُقرَأُ من على شاشات المُبرمجات.
 
كيف تُقارنُ بين النَّشر شرقًا وغربًا؟
        النَّاشرُ العربيُّ المُبدِعُ السَّاعي لزيادة مِدماكٍ في صَرْح الحضارة العربيَّة والعالميَّة مسكينٌ مسكين، تَقِفُ في وجهه صعوباتٌ جمَّة، أوَّلُها مادِّي، وآخرُها جغرافيّ، إلى نسبةٍ مرتفعةٍ من الأمِّيِّة، وأخرى، مرتفعةٍ أيضًا، من الفَقر، على مستوى العالم العربيِّ ككلّ، بالإضافة إلى تَقييد الحرِّيَّات. فالعربُ، وهم نحو ثلاثمئة وخمسين مليون بشريٍّ حاليًّا، وسيَصلون إلى نصف المليار خلال عقودٍ قليلة، إمَّا أمِّيُّون وفقراء، ولا مَلامَةَ عليهم إن هم لم يَقْرَأوا، وإمَّا أغنياء، مَشغولون عن القراءة بأمورٍ عديدة.
        وأمَّا في أورُبَّا، ولاسيَّما غربيَّها، وأمريكا الشَّماليَّة وأوقيانيا واليابان وأممٍ أخرى، فالقراءةٌ عادةٌ مُتَمَكِّنَةٌ في النَّاس، لا يُعَوِّضُ عنها شيء، فيما الحرِّيَّاتُ واسعة، كتابةً وطباعة، فتوزيعًا وقراءةً، والقدرةُ الشِّرائيَّةُ هامَّةٌ تمكِّنُ المواطنَ من التَّبَضُّع بالكتب بين حينٍ وآخر دون الالتفات إلى أولويَّاتٍ معيشيَّةٍ ضروريَّةٍ أخرى، كون هذه الأولويَّات سهلةَ التَّأمين.
        لا مجالَ، إذًا، للمقارنة بين النَّشر في شَرقًا وغربًا، فما هو بَلِيَّةُ الإبداع والمُبدِعين في الأوَّل، نِعمةٌ في الثَّاني.
 
ما الثَّقافةُ، ومَن المُثقَّف؟ ثمَّ، أتُراه في أزمة؟
        الثَّقافةُ يَمٌّ من المعارف المتنَوِّعة تُكَلِّلُها، لا بل وتَتَقَدَّمُها، رجاحةٌ في العقل ورَزانة، ويُرافِقُها حُسنٌ في انتِقاء ما يُخَزَّن من تلك المعارف، وما يُهْمَل، ويَليها سَعيٌ دؤوبٌ للتَّجديد والتَّطوير.
        لا يَكْفي الإنسانَ، إذًا، كَمٌّ من المعلومات ليكونَ مُثَقَّفًا؛ كما أنَّه، في رأيي المُتَواضِع، لا مُثَقَّفَ في المُطلَق، عربيًّا كان أم أعجميًّا، بل أناسٌ يتميَّزون في نواحٍ معيَّنةٍ من المعرفة.
        وأمَّا أزمةُ مَن يُدْعَون بمُثَقَّفي العرب، أو مَن يَدَّعون لأنفسهم تلك الصِّفة، فهي في أنَّهم لا يَلزَمون حدودَ معلوماتهم، ويتجاوزونها كما لَو أنَّهم أَدْرَكوا المعرفةَ الكُلِّيَّة! إلى هذا، فإنَّ معظم أصحاب تلك الصِّفة إمَّا يُرَدِّدون ما هو، في الأصل، مُرَدَّد، وإمَّا يُجَمِّلون ما يُطلَبُ منهم تَبريرُه سعيًا لمالٍ أو لمنصب، وإمَّا يُعارضون سَعيًا لشُهرة، وغالبيَّتهم تهتمُّ، أكثرَ ما تهتَمّ، بالتَّنافُس المَحموم الذي تَحكمُه أساليبُ الإلغاء وعدم الاعتراف بالآخر. قلَّةُ فقط ممَّا اتُّفِقَ على تسميتهم بـ "المُثَقَّفين" فاعِلَة، ولاسيَّما في مضمار الكتابة، ولكن، أين مَن يَقْرَأ، وأين مَن يَتَّعَظ؟ ولمِثل هذه القِلَّة كَتَبْتُ منذ عام 1979:
        "لولا أنتِ، يا قِلَّةً من بَشَرٍ تَنْضَحُ جِباهُهم عَرَقًا يَسْقي الأرضَ فتُنْبِتُ خَيرًا للجَميع، وفي أعيُنهم عَزمٌ يُحَقِّقُ المُستَحيل، وعلى شِفاهِهم يَنمو الطُّهرُ والبَراءَة؛ لولا أنتِ، لأَجْدَبَتِ الأرضُ، وانْهَزَمَ الإيمانُ، وغاضَتِ الإنسانيَّة".
 
ما رأيُك، في المناسبة، بالمُثقَّفين الشّموليِّين؟
رحمَ اللهُ آباءَ الحكمة الإغريق، وزملاءَهم في بقيَّة العالم القديم، حيث كانَ مجموعُ العلوم والآداب والفلسفة يُمكنُ حصرُه، على نحوٍ أو على آخر، في شخصٍ ما ذي ذكاءٍ حادٍّ ومعرفةٍ واسعة. وأمَّا اليومَ فالزَّمنُ للتََّخصُّص، وللتََّخصُّص وحدَه. وفي عُرفي أنَّ أيَّ طالبٍ ثانويٍّ قد يبزُّ سقراطَ في عِلمٍ ما على الأقلّ، وقد يبزُّه مُتَفَوِّقٌ في جميع العلوم، بما في ذلك الفلسفة!
وأمَّا مُدَّعو المعرفة الشََّاملة، اليومَ، وسطَ وسائل إعلامنا، ولاسيَّما المَرئيَّة منها، وبعضُها لا يخضعُ لأيِّ رقابةٍ لجهة نوعيَّة ما يُقَدِّم من برامج؛ قُلتُ، وأمَّا مُدَّعو المعرفة الشََّامِلَة، اليومَ، فمن بينهم نرجسيُّون، وحَكواتيُّون، ومهرِّجون فاشلون.
إنَّهم نرجسيُّون، إذ يُسَوِّقون لأنفسهم ألقابًا، جلَُّها مُختَرَع، لا وجودَ لها سوى في نفسيَّاتهم المريضة، ويزعمون مواقفَ لا وجودَ لها و/أو انتقلَ مَن سيُكذِّبُهم في شأنها إلى دُنيا الحقّ.
وهم حكواتيُّون، ففي أيِّ موضوعٍ يُسألون، يأتي جوابُهم من ضمن اختصاصٍ لم يُتقِنوه أصلاً.
وهم مُهَرِّجون، إذ يَحسبون جميع المُستَمِعين جَهَلَة، وأنَّ كلامَهم يمرُّ على الجميع، كيفما اتَّفَق؛ لا بل يستخفُُّون بهؤلاء، فلا يُهَيِِّئون للموضوع الذي يجري نقاشُه، وتأتي إجاباتُهم على الأسئلة تمجيدًا لذاتهم، من دون أنْ يغفلوا تكرارَ عبارةَ "بكلِّ تواضع" حينًا بعدَ حين!
 
ماذا عن مؤسَّستك للثَّقافة بالمجَّان؟
تدرَّجتُ في المجَّانيَّة، فبعدما دَرَجْتُ، منذ العام 1979، على تحقيق حُلم طُفولتي بتوزيع كُتُبي الخاصَّة بالمَجَّان، سعيْتُ لِعَولَمَة الثَّقافة المجَّانيَّة، فأنشأتُ، في العام 1991، سلسلةَ "الثَّقافة بالمَجَّان"، وأصدرتُ من ضمنها، إلى اليوم، مئات الكُتُب المَجَّانيَّة بعشرات اللُّغات واللَّهجات لمؤلِّفين ومؤلِّفاتٍ من أربعة أصقاع العالَم.
وأخذتِ السِّلسلةُ المذكورة، بالإضافة إلى الأنشِطَة الثَّقافيَّة المجَّانيَّة الأخرى الَّتي أطلقتُها، مِن مِثل جوائزي الأدبيَّة في النِّطاق العالميّ، وتلك الهادِفَةِ المُخصَّصَةِ لأهل الضَّاد، وأكشاكِ الكُتُب المجَّانيَّة للعُموم، وصالوني الأدبيِّ الثَّقافيّ، والمكتبةِ المتخصِّصَةِ بالمَجموعات والأعمال الكاملة، ومُتحَف الأدباء - بَصَمات...؛ قُلتُ، أخذَ ما سبَقَ  كلَّ وقتي، وأضاعَ مالي، وأوصلَني مرارًا إلى الإفلاس، فالاستِدانة.
ولمَّا انتشَرَت تلك الأنشِطَة، وتوسَّعَت، وفاقَت إمكاناتي الشَّخصيَّة، أدرجتُها في جمعيَّةٍ لا تَبغي الرِّبح ومنظَّمةٍ لا حكوميَّة، على أن أضمَّ إليها أنشِطَتي اللاَّحقة، من مِثل "مُتحَف الأدباء – بَصَمات" الذي أطلقتُه أخيرًا، بحيث يؤمَّنُ للثَّقافة بالمَجَّان الاستِمراريَّةُ والتَّوسُّعُ والانتِشار، أكثرَ فأكثر، وتؤمَّنُ، بالتَّالي، خدمةُ أهل القَلَم بنَشر أعمالهم، ولاسيَّما خدمةُ القرَّاء بوَضع المَزيد من الأعمال المَنشورة بين أيديهم، إلى استِمراريَّة تَفعيل الأنشِطَة الثَّقافيَّة المَجَّانيَّة المُختلِفة الأخرى، وتوسُّعِها وانتشارِها، وبحيث تُرَسَّخُ مَقولتاي: "الثَّقافة، الحُرَّة والمُنفَتِحة، تصنعُ السَّلام" (1969)، و"الثَّقافةُ لا تُشرى ولا تُباع" (2004)، على أمل أن تُرسَّخَ مَقولتي الثَّالثة: "الثَّقافة، هي الأخرى، تُعدي" (2008).
 
هل لنا من لمحةٍ مُختَصَرَةٍ عن الأنشِطَة الثَّقافيَّة المجَّانيَّة السَّابقة الذِّكر؟
        تتوزَّعُ الأنشطة الثَّقافيَّةُ المجَّانيَّة الحاليَّة - وهي، في مُجملها، إمَّا فريدةٌ في النِّطاق العالميّ، وإمَّا سبَّاقةٌ في مجالها، بالإضافة إلى أنَّها غيرُ مَدعومة، لا من القطاع العامّ، ولا من القطاع الخاصّ، وتقومُ على جهدٍ شخصيٍّ - كالآتي:
سلسلة الثَّقافة بالمجَّان (منذ 1991)، وقد نُشِرَتْ فيها مئاتُ الكُتُب المجَّانيَّة في عشرات اللُّغات واللَّهجات.
جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة (منذ 2002)، وهي جوائزُ عالميَّةٌ مَفتوحَةٌ على كلِّ اللُّغات واللَّهجات، وتهدفُ إلى تشجيع نشر الأعمال الأدبيَّة على نطاقٍ واسع، انطِلاقًا من عَتقها من قيود الشَّكل والمضمون، والارتقاءِ بها فكرًا وأسلوبًا، وتوجيهها لما فيه خيرُ البشريَّة ورَفعُ مستوى أنسَنَتها. ويصدرُ عن هذه الجوائز كتابٌ سنويٌّ جامِعٌ بعشرات اللُّغات، وتُؤهِّلُ الفائزين بها لطباعة مَخطوطاتِهم وتوزيعها بالمجَّان.
جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة الهادفة (منذ 2007)، وهي جوائزُ مُخصَّصةٌ لأبناء "الضَّاد"، وتتوزَّعُ على موضوعاتٍ أربعة: الدِّفاع عن اللُّغة العربيَّة وتطويرها؛ الفضائل الإنسانيَّة؛ تَمتين الرَّوابط الأُسْرِيَّة؛ أدب الأطفال الأخلاقيّ؛ ويُكافَأُ الفائزون بها بطباعة مخطوطاتِهم وتوزيعها مجَّانًا.
أكشاكُ الكُتب المَجَّانيَّة (منذ 2008)، وهي تُعطى المؤسَّساتِ على أنواعها، ولاسيَّما التَّعليميَّة والثَّقافيَّة منها، بهَدَف تسهيل توزيع الكُتُب المجَّانيَّة على العُموم.
الموقعُ الإلكترونيّ (www.najinaaman.org، بالعربيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة، منذ 2008)، ويضمُّ أنشِطَةَ المؤسَّسة المختلِفة، وأخبارَها، ويُورِدُ كاملَ مُحتَوَيات كُتُبِها المجَّانيَّة، إلى كُتُبٍ أخرى صديقة، لتسهيل الاطِّلاع عليها عبرَ العالَم، ومن دون أيِّ مُقابِل.
لقاء الأربعاء (من ضمن صالون ناجي نَعمان الأدبيِّ الثَّقافيِّ ومُحتَرَفِ الكِتابة الَّذي يتبعُه، منذ 2008)، وهو يَجري ستَّ مرَّاتٍ خلال المَوسم الواحد، ويستقبلُ المُبدِعين ويُكرِّمُهم، ويُؤَرشَفُ بطباعة وقائعه في كتابٍ سنويٍّ مجَّانيّ.
مكتبَة المَجموعات والأعمال الكاملة (منذ 2008، افتُتِحَت في العامَ 2012)، وهي تجمعُ السَّلاسِلَ وأعمالَ المؤلِّفين الكاملة، بمختلِف اللُّغات، بهَدَف الحفاظ على الإرث الثَّقافيِّ العالميّ، وتأمينِ مركزِ بحثٍ يسمحُ للطَّلبَة الجامعيِّين والمؤلِّفين إجراءَ أبحاثهم فيه، وبالمجَّان.
صالة مِتري وأنجِليك نَعمان الاستِعاديَّة (فكرتُها قديمة، افتُتِحَت في العامَ 2012)، وتضمُّ مخطوطات الشَّاعر والأديب الرَّاحِل مِتري عبد الله نَعمان (1912-1994)، وأوسمتَه، وبعضَ أشيائه وأشياء شريكة حياته، أنجِليك حنَّا باشا (1925-2000)، وهي مَفتوحةٌ من دون أيِّ مُقابِل أمامَ العُموم.
اليومُ العالميُّ للثَّقافة بالمَجَّان (منذ 2012)، ويَتمُّ في التَّاسعَ عشرَ من شهر أيَّار من كلِّ عام عبرَ سُفراء المؤسَّسة المُنتَشِرين في أربعة أصقاع المَعمورة، وتَجري خلالَه أنشِطَةٌ ثقافيَّةٌ مجَّانيَّةٌ مختلِفة.
السِّياحة الثَّقافيَّة (منذ 2012): تُشَجِّعُ المؤسَّسةُ السِّياحةَ الثَّقافيَّةَ باستِقبال المَجموعات الطَّالبيَّة وسواها في مكاتِبها، وبتَحفيز هذه المَجموعات على التَّأليف والنَّشر وإقامة المكتبات وحفظ إرث الكِبار في عالَم الأدب والعُلوم والفنون، وذلك من طريق برنامجٍ مُحدَّد.
مُتحَفُ الأدباء - بَصَمات (منذ 2013): يَقومُ هذا المُتحَفُ على انتِقاءِ الأدباءِ أجملَ ما كَتبوا، يَنقلونَه على ورقةٍ بيضاءَ بخَطِّ يدهم وحِبرِ قلَمهم، ويُنهونَه بذِكر تاريخ النَّقل، وبكتابة اسمِهم الثُّلاثيِّ، يَغفو تحتَه توقيعُهم، ويَمهَرون، تحت التَّوقيع، بَصمَةَ إبهامهم اليُمنى. على أن تُضافَ إلى الكتابة قراءةٌ حيَّةٌ مُصَوَّرَةٌ لما جاءَ فيها مِن قِبَل صاحبها. ولا يقفُ المَشروعُ عندَ حدود دولةٍ أو لُغة، وسيُعرَضُ بشتَّى الوسائل، قديمِها وحديثِها.
هذا، وللمؤسَّسة جمعيَّةٌ تأسيسيَّةٌ هي عَينُها اللّجنة الإداريَّة، وقد اعتمدَت، إلى الآن، اثنين وعشرين سَفيرًا في أربع رياح الأرض، والهدفُ توسيعُ أنشِطَتها وتحقيق عَولَمَة الثَّقافة بالمجَّان.
 
أنت توزِّعُ الجوائز الأدبيَّة منذ العام 2002، فهل تُعَدُّ الجوائزُ تفوُّقًا للأديب؟
        بالطَّبع هي كذلك، وبالطَّبع ليست كذلك. فالجائزةُ الصَّادرةُ عن جهةٍ قادرةٍ أدبيًّا، لا عن جهةٍ مُخَوَّلَةٍ بذلك فقط، والمَمنوحةُ مُستَحقِّيها من دون أيِّ مواربةٍ أو مُسايرةٍ لظروفٍ سياسيَّة أو شخصيَّة، وما شابَه، هي جائزةٌ تُتَوِّجُ عملَ كلِّ أديب. وأمَّا الجوائزُ التي تَأْتي عكسَ ذلك فهي جوائزُ خاليةٌ من أيِّ قيمة، إنْ غَشَّتْ حامِلَها وبعضًا من النَّاس، فإنِّها لا تَغُشُّ مانحَها وبقيَّةَ النَّاس الباقية.
 
ماذا عن مؤلَّفاتك، وإنجازاتك من خارج الدَّار والمؤسَّسة؟
مؤلَّفاتي؟ لم أُحصِها يومًا، ولا أدري لِمَ لا أفعَل، بيدَ أنَّها - وأنا على أبواب السِّتِّين من العُمر – قد فاقتِ السِّتِّين على الأرجَح، أو كادَت! ويُمكنُ توزيعُها كالآتي:
موسوعتان: موسوعة العالم العربيّ المعاصر (في عشرة عناوين، أبرزُها "دليل الإعلام والأعلام في العالم العربيّ"، "دليلُ الصِّحافة العربيَّة"، "المجموعات العرقيَّة والمذهبيَّة في العالم العربيّ)، وموسوعة الوقائع العربيَّة (في خمسة أجزاء)؛
وكتابان: المسيحيُّون، خميرةُ المَشرق وخمرتُه (2010)، ولبنان، الوجودُ والعَدَم (2012)؛
وأعمالٌ أدبيَّةٌ نُشِرَ عشرةٌ منها في مجلَّد "حياةٌ أدبًا" - الجُزء الأوَّل (2009)، هي: الرَّسائل (ومن ضمنها خمس وعِشرون وأنتِ والوطن)، المُنعَتِق، المُندَمِج، الحالِم، الألِفياء، المُسالِم، القاتِل، المتسامِح؛ وجديداها: مع متري وأنجليك (سِفرٌ من سَفَر، الجزء الأوَّل، 2012)، والعدَّاء (2014)؛
ولي بحثان جامعيَّان، بالفرنسيَّة، ومجموعةُ أعمالٍ بيوغرافيَّة، بالإنكليزيَّة، بالإضافة إلى نحو عِشرين عنوانًا في سلسلة "أُمسِيات الأحد".
وقد تُرجِمَت لي أعمالٌ إلى الرُّومانيَّة والفرنسيَّة، ومُنتخباتٌ أدبيَّةٌ إلى أكثرَ من أربعينَ لغةً نُشِرَت، بخاصَّةٍ، في مجلَّد "النَّاجيَّات" (2009)، فيما نقلتُ بدوري إلى العربيَّة نحو عشرة كتب، وأنا مُتَرجِمٌ قانونيٌّ مُحَلَّف.
وأنشأتُ "سياسة واستراتيجيا" (مجموعة دراسات حول العالم العربيّ، بالعربيَّة، 1981)، و"ذي أَرَب وُرْلْد" (مجموعة دراسات أخرى، بالإنكليزيَّة، 1985)،
واستنبَطتُ مادَّةَ تدريسٍ أطلقتُ عليها اسمَ "العربيَّة الصَّحيحة" ودرَّستُها، ابتداءً من العام 2004، في إحدى الثَّانويَّات، ففي أحد المعاهد الجامعيَّة (2005) تحت عنوان "فنون اللُّغة والتَّعبير".
وقد سبقَ لي أنْ أسَّستُ "مركز التَّربية التِّقنيَّة"، وهو معهدٌ تقنيّ، 1987، و"غاليري دار نعمان"، Galerie d’Art Naaman، وهي صالة عرض فنِّيَّة، في العام عَينِه؛ كما أسَّستُ مركز نعمان البيوغرافيّ Naaman Biographical Centre - NBC، 1997. وكَذا أسَّستُ "الحركة الإنسانيَّة"، منذ 1971، و"وَحدة الإنسان العالميَّة"، منذ 1976. وأنا عضو نقابة النَّاشرين في لبنان، 1979، وعضوٌ مؤسِّسٌ في جمعيَّة "الينبوع" الخيريَّة، 1991.
حِزتُ جائزةَ الشِّعر العالميَّة الكبرى (رومانيا، 2002)، مع أنَّي لا أَدَّعي كتابةَ الشِّعر؛ ورُشِّحتُ لأكثر من جائزة، منها الـ "ﭙرِمي إنتِرنَسْيونَل كاتالُنْيا" (منذ 2004)؛ واعتذرتُ عن قبول ميداليَّة الحرِّيَّة العالميَّة (الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، 2006) اعتِراضًا على ما كان يجري في لبنان وفلسطين والعراق في ذلك الزَّمن.
 
ما أهمُّ كتابٍ قرأتَه مؤخََّرًا، وما الذي أعجبَك فيه؟
قد يستغربُ الجميعُ إنْ قُلتُ إنََّني لا أقرأُ الكتبَ! بَيْدَ أنَّ تلك حقيقة. كتبتُ في العام 1986، وتحت عنوان "إبداع"، الآتي: "إنْ أنتَ أردتَ أن تُبدِعَ في كتابةٍ أو رسمٍ أو لَحن، فلا تقرأ، أو تشهَد، أو تسمَع، بل دَعِ الطََّبيعةَ تتفاعلُ فيك، وأقدِم" (من كتاب "الرَّسائل"). وهذا ما أسيرُ عليه طمعًا في الإبداع. أعرفُ كثيرين ممَّن، لكثرة قراءاتهم، يخشَون الكتابةَ حتَّى لا يُقلِّدوا فيها زيدًا أو عمرًا، أو لا يُرَدِّدوا ما قالَه فلانٌ أو فلان. كما أعرفُ البعضَ ممَّن لا يتورَّعون من سرقة كتاباتِ غيرهم، طمعًا في أن يُقالَ عنهم شُعراء أو أدباء. يا لَلكارثة! أُناسٌ يخافون الكتابة لكثرة قراءاتهم، وآخرون، لطمَعهم في لقبٍ جديد، يُقدمون على أشنع عملٍ ممكن. فلهؤلاء وأولئك أقول: الأدبُ، على أنواعه، لا يُلَقَّن؛ ولَئِن كانتِ القراءاتُ تَصقُلُ المُتأدِّبين مع الوقت، فإنَّها ليستِ العنصرَ الأساسَ لدى مَن أرادَ الإبداعَ من بينهم.
أقولُ هذا، وأُوضِح: إنَّ يومي يبدأُ بالقراءة وينتهي بها؛ فأنا، إلى كوني أكتب، ناشرٌ ومانحُ جوائزَ أدبيَّة، ومن واجبي، أن أقرأَ الكثيرَ الكثير. وعليه، لا مجالَ لي أن أقرأَ ما يَحلو لي عندما أرغبُ في أنْ أرتاحَ من العمل! أنا مُكَبَّلٌ بالقراءات المَفروضة عليَّ، ولا إمكانَ، إلاَّ في ما نَدَر، لأنْ أنتقيَ قراءاتي.
 
ما أهمُّ حَدَثٍ ثقافيٍّ شاركتَ فيه أو تابعتَه؟
إنَّ ما يصحُّ في السُّؤال السَّابق، بالنِّسبة إليّ، يصحُّ في السُّؤال الحالي؛ فقليلاً ما أُشاركُ في ما يُدعى "تظاهرات ثقافيَّة"، إنْ في لبنان أو في الخارج. ذلك أنَّ معظمَ هذي التَّظاهرات يكونُ واجهةً للتََّرويج لأمرٍ ما، أو لأديبٍ يُرغَبُ في تسويقه، تمامًا كما يُسَوَّقُ معظمُ فنََّاني أيَّامنا الحاضرة.
وجَرى أن شاركتُ في مهرجانٍ شِعريٍّ عالميٍّ يَتيم بعد إلحاحٍ من الجهة المنَظِّمَة دامَ عامَين. كان ذلك في رومانيا العام 2002، وقد رجعتُ من هناك حاصِدًا الجائزةَ الأعلى في حينه، "الجائزة العالميَّة الكبرى للشِّعر"، فكُنتُ أوَّلَ لبنانيٍّ وعربيٍّ ينالُها.
وقد ألقيتُ في المناسبة كلمةً أمام الجمهور ورجال الإعلام والشُّعراء المُشاركين في المِهرجان وأعضاء الإدارة المُنَظِّمَة إيَّاه، كما أمام وسائل الإعلام المختلِفَة، من مَكتوبة ومَسموعة ومَرئيَّة، شَدَّدْتُ فيها على ما لَطالما رَدَّدْت: "الكلُّ يَشْعُر، وما من شاعِر، بل مُحاوِل"؛ فالشَّاعِرُ الشَّاعِر، في رأيي، حدثٌ هامٌّ هامّ، ونادرٌ نادر، لدرجة اللاَّوجود تقريبًا. ولَئِن لَقِيَ قولي هذا استِحسانَ الجمهور ورجال الإعلام، فكانَ هُتافٌ وتصفيق، فقد أَزْعَجَ بعضَ الشُّعراء المُشاركين في المِهرجان، إلى المُنظِّمين.

هل أنت مُطمئِنٌّ إلى الحصاد الثَّقافيّ في لبنان؟
لَئِن اقترنَ اسمُ لبنانَ بالعديد من الصِّفات، بعضُها جيِّد، وبعضُها الآخَرُ سيِّئ، فإنَّ الثَّقافةَ في لبنان، على الصَّعيد الفرديّ، ما زالت في خَير، وإنَّما في الحَدِّ الأدنى؛ عِلمًا أنَّ من شأن الثَّقافة، وَحدَها، أنْ تُغطِّي، على نحوٍ أو على آخَر، الصِّيتَ السَّيِّئَ الذي أوصلنا إليه، ويوصلُنا، سياسيُّو "آخر زمن".
أقولُها، وأُشدِّدُ عليها: الثَّقافةُ في لبنان في شبه خَير، فالكثيرُ من الأفراد ما زالوا ينشرون أعمالَهم، الجيِّدَ منها، والعاديَّ، وحتَّى، الرَّديءَ، من دون أن يواجهوا النَّقدَ لغِياب النُّقَّاد المُمتَهِنين وكثرة المُتَعَدِّين على النَّقد من المُسَيَّرين. ثمَّ إنَّ اتِّجاهَ النَّشر إلى البسيط من الكتب (طَهي، فضائح، فلك، تبصير، تَنجيم)، والمجلاَّتِ إلى التَّافه من الاجتماعيَّات، في شبه غيابٍ للكتب الأدبيَّة والمجلاَّت المتخَصِّصَة، لأمرٌ يُنذرُ بأعظم العَواقِب على الصَّعيد الثَّقافيّ. ولَطالَما وجدتُ أنَّ على الدَّولة أنْ تُخَيِّرَ "الفضائحيِّين" و"المُبَصِّرين" بين السّجن ومَشافي المَعتوهين، لإنقاذ ما يُمكنُ إنقاذُه، بَعدُ، من شباب العصر، وحتَّى، من شيوخه، من براثن هؤلاء ودَجَلهم.
وأمَّا على الصَّعيد العامّ، فإنَّ وزارةَ الثَّقافة اللُّبنانيَّة مُغَيَّبَة، لا لعدم إرادة المسؤولين فيها تَحريكَ الأمور، بل لأنَّ موازنتها قد لا تتعدَّى ميزانيَّةَ دار نشرٍ متوسِّطة الحجم في الخارج. ولَطالما اقترحتُ أن يستقيلَ كلُّ وزيرٍ جديدٍ للثَّقافة في لبنان إلَّم تُضاعَف موازنةُ وزارته عشرات المرَّات.
ثمَّ إنَّ عداوةَ "الكار" (أي المهنة) بين "أصحاب القلم"، لا أربابه"، غريبةٌ عجيبة، فلا تجد كاتبَين أو شاعرَين مُتَّفِقَين، ولو على أمرٍ واحد؛ وإنْ حدَثَ ووَجدتَ مثلَهما، فيكونُ ذلك إلى حين، وعلى أساس "تَبخير" أحدهما الآخَر، وبالعكس، كيما يَشتهِرا، كما يَظُنَّان أنَّهما يفعلان، معًا. الحسدُ يتآكلُ غالبيَّة أدباء لبنان، وقلَّما يفرحُ واحدُهم لنَجاح الآخَر، فيما "الطَّفَرُ" هو الجامعُ الوحيدُ بين الجميع!
 
أخيرًا، هل أنتَ متفائلٌ بالمُستَقبل ككلّ، أم متشائم؟
        إنَّ مَن يَنْظُرُ في حال الدُّنيا، اليومَ، وفي حال ناسِها، لا بُدَّ مُتَشائِم. كيف لا، والبَشَرُ يَسعَوْن لهلاكهم عبر المادَّة التي أَعْمَتْ بصائرَهم والأنا الَّتي تَتَآكَلُهم. لكنَّني بطَبعي مُتفائل، وأَدْعو الجميعَ إلى التَّفاؤل. ثمِّ إنِّي مؤمنٌ بالإنسان وبالخَير الَّذي نَمَّاه عبرَ إرثٍ تَناقَلَه وصَقَلَه، أبًا عن جَد، وجيلاً بعد جيل. وأمَّا السَّبيلُ إلى هناء البَشَر، عندي، فبغَيْرِيَّتهم يَكون، وبتَعاضُدهم، لا بما هم سائِرون إليه حاليًّا. وإنْ أُريدَ لهذا الكَون أنْ يَسْتَمِرَّ، وللنَّاس أنْ يَسْعَدوا، فلْنَتْرُكِ الحُكمَ للشُّعراء الشُّعراء، والحُكماء الحُكماء، فهم، وحدَهم، بغَيريَّتهم، وخَيالهم الجامِح، وفِكرهم النَّيِّر، يَسْتَطيعون إنقاذَ الكَون ممَّا هو فيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق