الصفحات

2014/05/27

التناص الديني في الرواية العربية.. بقلم: د. علا السعيد حسان



التناص الديني في الرواية العربية
د. علا السعيد حسان
   يعد النص الديني مصدرًا رئيسًا لمد النصوص السردية العربية بالمدلول الحكائي الذي يحمل مكوناته الخاصة، فاستطاعت الرواية العربية أن تبني السرد وفق القصة الدينية، وأن تستلهم الشخصيات الدينية، وتوظفها في بنيتها الفنية، خاصة أن التراث الديني هو في الكثير من جوانبه تراث قصصي، بما يشتمل عليه من قصص الأنبياء والصحابة والتابعين التي روتها الكتب المقدسة والمصادر التراثية، فوجد فيه الروائيون مادة سردية ثرية، فضلا عن استحواذ النصوص الدينية على الجزء الأكبر من ثقافة المجتمعات العربية، في مصادرها القرآنية والإنجيلية والتوراتية، والفكر الديني والصوفي، وقد سعى بعض الروائيين العرب إلى تأصيل الرواية العربية بالعودة إلى الموروث السردي الديني والإفادة منه في التأسيس لرواية عربية خالصة.

ويتحدد التناص مع النص الديني في عدة أنماط منها :
اولا : التناص مع أسلوب ولغة النص الديني واستغلال متواليات النص الديني، وإكساب النص الثراء الدلالي المقتبس من النص الديني، فالمؤلف يضمن نصه آيات قرآنية، أو يوظف الآيات في سياقه السردي، فيستفيد بذلك أمرين أنه يمنح لغته أبعادا دلالية عميقة وأنه يجذب القارئ إلى نصه هو بالاستعانة بالنص التراثي، وكأنه توجه دعائي لتأصيل النص؟، ومنحه قداسة مكتسبة من قداسة النص الديني.
   ونجد ذلك في نص "التجليات لجمال الغيطاني، وسنمثل ببعض الفقرات التي تناص فيها المؤلف مع النص الديني، منها قوله : " كنت قاب قوسين او ادنى، لكن غشى عيني ما يعشى، لم استطع صبرا، وكيف أقدر على ما لم أحط به خبرا. عدت بعد ان نعمت بأجمل صحبة وأنعم علي مولاي بالرفقة، بعد أن علمني بعضا مما لا أعلم.([1])
ويقول النّاص أيضًا " هنا دونت، لعلي آتي مما رأيت بقبس"
ويدمج عباراته بالآيات القرآنية في قوله:
" وصار كأنه لم يكن، صار نسيا منسيا، صار أثرا مندثرا بعد أن كان مسطورا، وتساءلت، هل أتي عليّ وعلي تجلياتي حين من الدهر لم نكن شيئا؟ وعلى أثر ذلك غربت نجوم عزائمي وفترت همتي" ([2])
وإتيانه بالآيات القرآنية دون تغيير كما في قوله:
" تجلي الحزن " " هذا فراق بيني وبينك "([3])
وفي الحاشية المعنونة بـ" شرح " أورد الآية القرآنية التالية من سورة " يس":
" وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فأغشيناهم فهم لا يبصرون، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، لا يؤمنون"([4])
ويتناص مع عبارات صوفية لابن عربي كما في قوله:
"يا مسكين، أدركت العرض ولم تدرك الجوهر.."
ويقول :" يقع البهت فلم أنطق، وإن رددت في خاطري " والله إني ليحزنني ذلك" لم أدر ما أنا صائر اليه، فزادت على الحيرة المذمومة"([5])
" التفت إلى مولاي محيي الدين، لا يدري احد إلى من أنظر، ولا من أستشير، فلم إذن تقدمت؟ مغطاة تماما، " لقد جئتمونا كما خلقناكم اول مرة"، ملفوفة في كفن أخضر وأبيض، والكفن للميت كاللباس للمصلي ما يصلى عليه لا فيه، ما يحول بينه وبين الأرض".([6])
   ويصنف الكثير من النقاد نص التجليات " رواية"، إذ نجد بشير القمري من المغرب يقول: " في التجليات يسعى الغيطاني إلى تحقيق شكل فني تجريدي يقوم على أساس تحطيم بنية الشكل التقليدي في الكتابة الروائية ".
   ويقول د. نوفل نيوف من دمشق " كتاب التجليات خطوة كبيرة في الرواية العربية على طريق تحقيق ملامحها الخاصة وخصوصيتها القومية في آن، فهي من الأصالة في موقع الرقص الهندي من أديان الهند، وفي موقع التمسك الياباني بعلم الجمال القومي"([7]) .
   وعند النظر الدقيق في النص تبين أنه ليس من المقبول نقديًا أن يصنف كتاب "التجليات" رواية، إذ أن هذا النص مجرد نص نثري، يخلو من مقومات السرد القصصي، ويعتمد على مواقف منفصلة، ولا يجوز تصنيفها رواية بحال من الأحوال، فما أبعدها عن البناء الروائي، وليست سوى سرد متقطع غير قائم على بنية فنية، وخير دليل على ذلك استخدام المؤلف لاسمه الحقيقي في التجليات: " اسمع رئيسة الديوان تنطق الكلم الموجع:
يا جمال، هذا فراق بيننا وبينك."([8])
  مما يؤكد واقعية النص وخلوه من التخيل الإبداعي الروائي، ثم إن المؤلف يمنح كتابه قداسة ما فيضع له عنوانًا " الأسفار الثلاثة، ويختمه بوصفه "سفرا مباركا" في قوله :
" كان الفراغ من هذا السفر المبارك يوم الأحد، تاسع عشر ربيع الثاني، عام ألف وأربعمائة وأربعة هجري، الموافق الثاني والعشرين من يناير عام ألف وتسعمائة وأربعة وثمانين ميلادي، ويعقبه سفر ثالث، بإذن الواحد الأحد، الذي كل يوم هو في شأن. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"([9])

   وفي رواية فرج الحوار "النفير والقيامة"، التي تقوم على تصوير علامات الساعة من خلال إسقاط أحداث المستقبل على الواقع العربي، نجد نمطُا سرديًا مضادًا، إذ يأتي في النص بشخصيتي المهدي والمسيخ الدجال" وهما شخصيتان مقتبستان من التراث الديني، ويسقطهما على شخصيات معاصرة، من خلال تصوير المجتمع اللبناني إبان الحرب الأهلية، فيجعل من"حوت القرش موازيا لشخصية " الدجال" ويجعل منه رمزا للشر للمحدق بالعالم وإذا كانت علامات الساعة تخبرنا بانتصار المهدي على المسيخ الدجال فإن النص هنا يأتي بنتيجة عكسية وهي انتصار حوت القرش رمز الشر على المهدي، أي أن الشر هو الذي ينتصر في النهاية، وكأن النص يسعى إلى قلب النص الديني على مستوى اللغة والبنية الفنية . والإتيان بنقيضه شكلًا ومضمونًا. 
    " ويشكل التراث الديني الأساس الذي أنبنت عليه رواية فرج الحوار "النفير والقيامة"، ولا يقتصر هذا الحضور على أشكال التناص فحسب، بل يتعداها إلى طبع الرواية بأسلوب النص الديني. والرؤية التي تتبناها الرواية هي رؤية دينية، تسقط ما سيحدث، كما تتخيله المخيلة الشعبية، على الحاضر، لذا تطغى الألفاظ الدالة على القيامة على غيرها من الألفاظ القرآنية، مثل: الصور، الحاقة، القارعة... وبالإضافة إلى الألفاظ ثمة تراكيب قرآنية، مثل: شهد شاهد، خلقًا سويّا، آية للناظرين، كأعجاز نخل، وأذّن فيهم.."([10]) 

ولعل المقطع السردي التالي يوضح بجلاء كيفية تناص كلام "المهدي" مع النص القرآني، إذ يقول:
 "ذلك الوعد لا ريب فيه منارًا للصادقين الذين يؤمنون بالحرب ويشحذون الهمم ومما أغدقنا عليهم من حزم ينفقون والذين يؤمنون بالحربة والسيف وطيبات الحديد وبالنهضة يوقنون أولئك على هدى من أمرهم وأولئك هم المفلحون. إن الذين أعرضوا بوجوههم عن أسراب الطير الجوارح سواء عليهم انتصرتم أم لم تنتصروا لا يأبهون لوجوههم ولو داستها سنابك خيل المغيرين. ختمنا على جنانهم وجأشهم وأذرعهم غشاوة فلا تبالوا إن وقفوا دونكم وعدوكم إنا نوفي الوعد ونحبط كيد الكائدين. ومن أهلكم من يقول اقتنعنا بالدعوة والنهضة. وآلينا على أنفسنا أن نجرد الجيش تلو الجيش نخاطب الغي نصرًا للحق وذودًا عن الحوذة وما هم بمؤمنين يماطلون ويجاملون صبركم وما يجاملون إلا العدو وما يفلحون... وإذا قلتم لهم انهضوا لما نهضنا أو خلو بيننا وما أردنا قالوا إنما نحن الدعاة والقائمون ألا إنهم هم المعتدون ولكن يتسترون. وإذا قلتم لهم أشرعوا سيوفكم كما فعل غيركم قالوا أنريق الدماء ظلمًا وعدوانًا ولما نتبين طوية الطيور الجوارح ولا جادلناهم ألا إنهم هم الطيور ولكن يتسترون. وإذا اجتمعوا ببعض لفيفكم قالوا نحارب فورًا وإذا التأم شملهم قالوا وهل تجدي الحروب؟ يسخرون من جهدكم وسعيكم إن للهازئين بالمرصاد فلا تبالوا رذاذ الألسنة الفاسقة وما يهزؤون إلا بماء وجوههم وما يفلحون. إنا ندرك ما بأنفسهم ونمدهم في غيّهم يعمهون أولئك الذين فضلوا الإلف والأبهة على ماء الوجه فنضب مجدهم وتبدد قهرهم وما كانوا بمتمكنيين مثلهم كمثل الذي مد يده يصافح العدو وقطع ما امتد من أيدي الأقربين فلما خيل إليه أن تمكن له الأمر أثرنا عليه الزوابع فانفض من حوله مرتزقة الطيور والجوارح وجعلناه نسيًا منسيًا".([11])

  والمؤلف هنا يقتبس هذا النص من الآيات الأولى في سورة البقرة . في قوله تعالى: ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين*الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون*والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون* أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون*إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون* ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم  غشاوة ولهم عذاب عظيم*ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين* يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون* في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون* وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون* وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء  ألا أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون* وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون* الله يستهزئ بهم  ويمدهم في طغيانهم يعمهون* أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين* مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات  لايبصرون*.([12])

   وإنّ زعْم بعض النقاد أنه مجرد تناص مع النص الديني هو زعم خاطئ بل إنه خرق واقتباس
للنص الديني.  فالناقد الدكتور محمد رياض وتار ينظر إلى هذا النص باعتباره نص روائي عربي خالص السمات يتناص مع الآيات القرآنية فيقول:
   " إن هدف الروائي فرج الحوار من وراء توظيف النص القرآني إلى التأسيس لرواية عربية خالصة، معنىً ومبنىً، لذا سعى إلى توظيف اللغة القرآنية، مفردات وتراكيب وخصائص فنية وجمالية، وظهر اعتماد الكاتب جليًا على إيقاع  التراكيب القرآنية، فجاءت لغة السرد سلسةً ذات إيقاع موسيقي، خلقته الجمل المتوازنة من جهة، واعتماد الفاصلة القرآنية  من جهة أخرى: "وجعلنا السعي جهادًا، وجعلناه نصيبًا، فطوبى ثم طوبى للساعين، وكانوا إذا عرضت  كارثة يحزمون متاعهم، ويولون وجوههم قبلة الصلاة، يوظفون من الأفق الهادئ النصيحة، فلا يتكلم الأفق، ويعرض لهم جحفل غيم غزير يبلل عزمهم، ثم يخطر وحش الأعماق الزرقاء مناديًا في الملأ أن لا خروج حتى يخرج الإذن من صمت السماء "..... وكانوا إذا آنسوا من جانب الجبل أزيزًا رفعوا الأيدي والوجوه ابتهالًا. إنا لا نحب المتسولين، ونؤثر بلغتنا حسامًا من ينهض إلى السماء يتمنى لو طار لينال من أسراب المغيرين"."([13]).
   والمراوغة التأويلية تخلع عن النص خاصية التناص لتجعل منه مجرد اقتباس صريح للنص القرآني، فالمؤلف يوظف النص القرآني في نصه ليبدو وكأنه من تأليفه، بينما هو اقتباس سافر ولا نريد أن نقول إنها " سرقة تناصية " تنم عن عجز المؤلف عن الاتيان بنصه الخاص، إذ يقتبس من النص القرآني مازجًا تراكيبه ومفرداته في تراكيب ومفردات النص، ليكتسب من قوتها وثرائها بل وحرصا منه على الحفاظ على النغم الموسيقي الآسر الذي يشع من النص القرآني .
ويرجع الدكتور محمد رياض وتار عناصر توظيف التراث إلى مبدأين هما المقابلة والمغايرة، ويشرحهما قائلًا:
" تتبع رواية "النفير والقيامة"، في توظيفها النص القرآني مبدأ المقابلة من جهة، ومبدأ المغايرة من جهة أخرى، والجدول التالي يوضح مبدأ المقابلة:

القرآن الكريم
الرواية
المؤمنون بالله ورسوله
المؤمنون بقضايا الوطن والمخلصون للشعب
المنافقون وعلاقتهم بالكفار
الخونة وعلاقتهم بالأعداء

أما المغايرة فتتم من خلال تغيير الكلمات، واستبدال بعضها ببعضها الآخر، أي أن قانون الاستبدال الذي اعتمده النص الروائي في تعامله مع النص الغائب Absent Taext أدى إلى إنتاج دلالة جديدة، والمقارنة التالية تظهر ذلك:

القرآن الكريم
الرواية
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة
الذين يؤمنون بالحرب ويشحذون الهمم
ومما رزقناهم ينفقون
ومما أغدقنا عليهم من حزم ينفقون

  ويضيف قائلا ً: وهكذا، فإن النص اللاحق "الرواية" يتأسس على النص السابق "القرآن الكريم"، ومن ثمَّ يفترق عنه، مؤكدًا خصوصيته واستقلاله، الأمر الذي أدى إلى حذف بعض الكلمات والجمل من النص السابق، وإضافة كلمات وجمل جديدة، أدت إلى دلالات جديدة، كقول المهدي يصف الخائنين: "لايأبهون لوجودهم ولو داستها سنابك خيل المغيرين"([14]).
   وإني أعارض الدكتور وتار في تنظيره النقدي؛ فالنص هنا لا يعتمد مبدأ المقابلة والمغايرة بل يعتمد مبدأ الاقتباس والسرقة التناصية التي تخلو من الابتكار، ولم أجد فارقا بين الجدولين الذين أشار إلى الاول فيهما بمبدأ المقابلة والى الثاني بالمغايرة لعدم وجود كبير اختلاف بينهما فالمؤلف يعتمد في كلاهما تغيير الكلمات واستبدالها بكلمات عصرية. وسأمثّل بهذه الجمل التي تتناص مع الآيات القرآنية مع بعض النسخ والتحريف:
القرآن الكريم
الرواية
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
ذلك الوعد لا ريب فيه منارًا للصادقين
الله يستهزئ بهم  ويمدهم في طغيانهم يعمهون* أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين* مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات  لا يبصرون.
إنا ندرك ما بأنفسهم ونمدهم في غيّهم يعمهون أولئك الذين فضلوا الإلف والأبهة على ماء الوجه فنضب مجدهم وتبدد قهرهم وما كانوا بمتمكنيين مثلهم كمثل الذي مد يده يصافح العدو وقطع ما امتد من أيدي الأقربين.

   إنها تشبه محاولة مسيلمة الكذاب في تأليف آيات قرآنية، عندما كان يسير على نهجها متبعا نفس متوالياتها الموسيقية، وما نراه في هذا النص السردي لا يختلف كثيرا عن محاولة مسيلمة.

    لذا نتساءل هنا هل التأصيل للرواية العربية لا يكون إلا بالاقتباس من النصوص الدينية، وتوظيفها توظيفا مباشرا في تراكيب النص، هل هذا هو ما يمنح الرواية العربية خصوصيتها؟ ألا يمكنها أن تشكل بناءها الخاص به دون تناص او اقتباس او الاستيلاء على نصوص أخرى. ألا يملك الروائي العربي مهارة خلق النص وابتداعه كليا دون الرجوع إلى الموروث اللغوي أو الديني أو الصوفي أو البلاغي؟. 

ثانياً: التناص مع البنية الفنية، كما في رواية حليم بركات: "عودة الطائر إلى البحر"، التي تتألف من أقسام، تشير إلى الأيام الستة التي استغرقها خلق العالم، كما جاء في التوراة. وتوظيف البنية الفنية في رواية محمود المسعدي "حدث أبو هريرة قال" ويرى الكثير من النقاد أن هذا النص هو "رواية " ومن ذلك قول توفيق بكار في كتابه " دراسات في القصة العربية":
 إنها " أول رواية عربية حديثة توظف التراث السردي؛ وهي بذلك تعد رائدة على مستوى توظيف الرواية العربية المعاصرة للتراث. ولكن توجه رواية "حدث أبو هريرة قال" إلى توظيف التراث السردي لا يعني أن ظاهرة توظيف الرواية العربية للموروث القصصي بدأت مبكرًا، فتجربة المسعدي لا تعدو أن تكون محاولة فردية وغريبة ضمن النِتاج الروائي العربي في فترتي الأربعينات والخمسينات، اللتين شهدت خلالهما الثقافة العربية تبعية مطلقة للثقافة الغربية، وتكمن أهميتها في أنها أول رواية عربية تتوجه إلى توظيف الموروث القصصي في فترة بلغت فيها التبعية الثقافية للغرب أوجها".([15])
   ويقول الناقد الدكتور محمد رياض وتار " أما متن الحديث فيتميز بعدم وجود زمان ومكان للملفوظ، وبغياب الأسلوب القصصي، ولذا حوَّل الكاتب متن الحديث من السرد النثري إلى السرد النثري التخييلي، عن طريق القيام بإجراءات مست طبيعة المتن في الحديث الديني، فتم تجاوز المضمون الديني للحديث، وجعل المضمون في الرواية يدور حول شخصية محددة، هي شخصية أبي هريرة في رحلته الطويلة التي قطعها من أجل الوصول إلى المطلق.([16])
 وقد تم تصنيفها رواية من قبل النقاد بينما هي لا تعدو نصًا نثريًا يوظف بعض عناصر السرد، والدكتور وتار لا يرى في غياب الأسلوب القصصي ما يخرجها من دائرة الرواية، وأن كون السرد يدور حول شخصية متخيلة محددة هو في حد ذاته كاف لجعلها نصا روائيا فيقول " إن جعل المتن في الرواية يدور على شخصية متخيلة تبتعد عن الشخصية التراثية، وتخالفها في تصرفاتها وسلوكها وتفكيرها، هو شرط رئيس، لابد منه في الرواية التي يشترط فيها ـ لكي تكون رواية ـ وجود شخصية واحدة على الأقل، يدور حولها السرد، ويكشف أبعادها النفسية والفكرية"([17]).
   إن الرواية لا تتشكل في ظل غياب الأسلوب القصصي وتوافر النص على شخصية واحدة لا يرتقى إلى فنية الرواية وإنما يجعل منه مجرد نص سردي متناثر، غير ملتحم العناصر، فلا يجوز أن نأتي بنص يتحدث عن شخصية في جانب واحد منها يتعلق بالأحاديث النبوية ونزعم أنه رواية، فما النص الا مجموعة من الأحاديث وان تكن تحمل تأويلات ما فهذا غير كاف في بنية الرواية " فأبو هريرة روى بعض الأحاديث بشكل مباشر، بوصفه البطل المحوري الذي تدور حولـه الأحاديث كلها. يبدأ حديث "البعث الأول"، على الشكل التالي: "حدث أبو هريرة قال: جاءني صديق لي يومًا فقال: "أحب أن أصرفك عن الدنيا عامة يوم من أيامك، فهل لك في ذلك؟"....([18])  وثمة أحاديث رواها راويان، كحديث الطين الذي رواه أبو عبيدة، وزاد عليه ثابت القيسي، عن أبي هريرة أنه قال: خرجت من المدينة، وقد أخذت عصاي أتوكأ عليها.. رواه أبو هريرة. وحدث بمثله ثابت القيسي وزاد عليه".([19]) وثمة أحاديث رواها أكثر من راوٍ على طريقة الأحاديث الدينية، كحديث "الغيبة تطلب فلا تدرك"، الذي بدأ على الشكل التالي: "حدث مكين بن قيمة السعدي. قال: حدثني هشام بن صفرة الهذلي".([20])
   وكما نرى فإن هذه النصوص مجرد نصوص نثرية لا تنتمي إلى فن الرواية، ولا يجوز إدراجها ضمن التنظير الروائي كنصوص تتم مقاربتها نقديًا لعدم توافر شروط الرواية بها وأهمها السرد القصصي المتلاحم والأحداث المتنوعة والشخوص المتعددة والمواقف والآراء المتنوعة، وتلاحم السرد ليس مقصودا به التسلسل الزمني التقليدي له، فبإمكان الروائي دمج جميع الأزمنة وتقويض البنية التقليدية ولكن في ظل بنية فنية تستوفي مقومات النص الروائي.



(([1] التجليات، جمال الغيطاني، ص 5
([2]) م، ن، ص 20
(([3] التجليات، ص22
(([4] المصدر نفسه، ص22
(([5] المصدر نفسه، ص  499
(([6] المصدر نفسه، ص 809
(([7] في غلاف كتاب  التجليات"  الأخير، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
(6) التجليات، ص33  .
(([9] م، ن، ص 502  .
(([10] توظيف التراث في الرواية العربية، ص146
([11]) النفير والقيامة، ص 120 و121.
([12]) القرآن الكريم، سورة البقرة (2-17).
 ([13])توظيف التراث في الرواية العربية، ص146  والنفير والقيامة، فرج الحوار، ص 86.
([14]) م، ن، ص148
 ([15])دراسات في القصة العربية، مقال من أعماق التراث إلى أقصى المعاصرة، توفيق بكار، ط1 ـ مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1986 ص169.
([16]) توظيف التراث في الرواية العربية، ص 145
( [17]) المصدر نفسه ص146
([18]) حدث أبو هريرة، قال: محمود المسعدي، ص 49.
([19])م، ن، ص127.
([20]) م، ن، ص 175.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق