الصفحات

2014/06/16

قضايا السرد في الرواية الإماراتية بقلم:محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة



  قضايا السرد في الرواية الإماراتية
بقلم:محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة
جامعة عنابة
توطئة:
       ليس لأحد أن يشكك في التطورات التي شهدتها الرواية الإماراتية ،انطلاقاً من النص التأسيسي الأول ،وهو رواية«شاهندة»لراشد عبد الله النعيمي سنة:1971م،ذلك العمل الذي شكًّل نقطة التحول من مرحلة المشافهة إلى التدوين،و ما تلاه من أعمال أخرى نذكر منها:«عنق يبحث عن عقد»لعبد الله الناوري،و«دائماً يحدث في الليل» لمحمد عبيد غباش،وصولاً إلى :«السيف والزهرة» لعلي أبي الريش،و«عندما تستيقظ الأشجان»و«ساحل الأبطال» و«جروح على جدار الزمن» لعلي محمد راشد،و«أحداث مدينة على الشاطئ» لمحمد حسن الحربي،و«الشيخ الأبيض»،و«الأمير الثائر»للدكتور سلطان القاسمي، و«ابن مولاي السلطان»،و«الرجل الذي اشترى اسمه»لمنصور عبد الرحمن.
       إضافة إلى إسهامات المرأة الإماراتية في هذا الميدان التي  قدمت مجموعة من الأعمال المتميزة ،نذكر من بينها  : «ريحانة»لميسون صقر، و«الجسد الراحل»لأسماء الزرعوني،و«تشاؤب الأنامل»لرحاب الكيلاني، وغيرها من النصوص الروائية التي لفتت الانتباه إلى كتابات المرأة الإماراتية.    
          إن جميع هذه الأعمال ساهمت إسهامات بارزة في النهوض والارتقاء بالتجربة الروائية الإماراتية ،على الرغم من أن البعض يصف نموها بالوئيد ،وهذا يعود إلى جملة من الأسباب لعل أبرزها:«أن النقلة الحادة من قيم إلى قيم ،ومن مظاهر في الشكل والجوهر إلى أخرى لم يترافق مع وجود جيل من الأدباء الذين يتعاملون مع هذا الفن الروائي»(1)، وغيرها من الأسباب العديدة التي ُيمكن الرجوع إليها كما حلًّلها بعمق الأستاذ عبد الفتاح صبري،وقد عدّها خمسة أسباب رئيسة(2).
          وأياً ما يكن الشأن«فعلى الرغم من أن عدد سكان الإمارات قليل جداً،إذا ما قيس بمصر على سبيل المثال لا الحصر،فإن عدد قاصيها وشعرائها لا بأس به،بل هو يشكل نسبة عالية إذا ما قيس بعدد السكان، حتى إن بعضهم أضحوا قامات،وشكلوا ظاهرة على مستوى الإمارات خاصة، والوطن العربي عامة»(3).
       بل إننا نؤكد على أن الرواية الإماراتية قد نجحت في تأكيد حضورها كجنس أدبي قائم بذاته في التجربة الإبداعية الإماراتية ،وهي في ذلك لا تقل أهمية عن التجربة الشعرية في الإمارات التي تستميز بالثراء والتنوع والعمق،«وإذا قارنا بين الكم الروائي المنتج هنا(الإمارات)، وبين الكم المنتج في أية دولة عربية أخرى باستثناء مصر وسوريا،كبلدين رائدين في هذا المجال،وعدا عن مسألة الكم،فإن جملة الطروحات الفكرية التي تناولتها هذه الرواية على المستوى الاجتماعي والتاريخي،إنما عكست وعياً كبيراً بأهمية هذا الجنس الأدبي،وبدوره الواضح في إعادة إنتاج الانعطافة النوعية لعملية التحول الاجتماعي التي شهدها المجتمع الإماراتي بعد ظهور النفط،وتأسيس دولة الإتحاد،وبداية التعليم النظامي،وانتشار وسائل الإعلام المختلفة،وخصوصاً الصحافة المكتوبة،حيث ساهم مثقفو الإمارات من خلالها لتأسيس زمن ثقافي جديد،عماده الثقافة المكتوبة والمتفاعلة تفاعلاً حقيقياً مع منجز الثقافة العربية والعالمية»(4).
      يأتي كتاب الباحث الدكتور سمر روحي الفيصل المعروف بإنتاجه الغزير والمتنوع، بصفته محاولة جادة في سياق الدراسات النقدية التي سلًّطت الضوء على التجربة الروائية الإماراتية ،وهدفت إلى التحليل النقدي للنص الروائي الإماراتي، والروز في مختلف خباياه ودلالاته، والخوض في شتى فضاءاته وآفاقه وقضاياه السردية.
          وقبل الارتحال بين دفتي هذا الكتاب، وعرض أهم مضامينه يقتضي الأمر إلقاء بعض الضياء ،ولو باقتضاب على مؤلف الكتاب،فالدكتور سمر روحي الفيصل يُعدّ من كبّار النقاد والأدباء السوريين المعاصرين،فقد ولد سنة:1948م في مدينة حمص،وتخرج من جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة العربية وآدابها،ودبلوم التأهيل التربوي من كلية التربية بجامعة دمشق،كما حصل على شهادة الماجستير والدكتوراه من الجامعة اللبنانية،وهو يعمل حالياً أستاذاً جامعياً في الإمارات العربية المتحدة، ومن أهم مؤلفاته نذكر:«ملامح في الرواية السورية»،و «مشكلات قصص الأطفال في سورية»،و «السجن السياسي في الرواية العربية»،و«دراسات في الرواية الليبية»،و«الرواية السورية والحرب»،و«النقد الأدبي الحديث»،و«المشكلة اللغوية العربية»وغيرها(5).   
مضمون الكتاب:
قُسم الكتاب إلى مقدمة، و ستة فصول، وخاتمة.
    في المقدمة يشير المؤلف إلى أن الرواية في الإمارات وعلى الرغم من أنها لا تمتلك تاريخاً طويلاً، وعلى الرغم من عددها القليل إلا أن ذلك لا يمكن اعتباره  مسوغاً كافياً لعزوف النقد عن تحليل النصوص الروائية ،كما لا يمكن أن يعدّ ذلك شفيعاً للمجاملة  التي تدعي الرفق بالنصوص  لحداثتها ،وبالتالي فقد اقتضى الأمر   التوفيق بين جملة من الأمور«التاريخ القصير، والعدد القليل، والرغبة في عدم (المجاملة)، والحرص على التحليل النقدي للنص الروائي الإماراتي»(6)، ويرى المؤلف أن ما يلبي الحاجة هو تحليل السرد الروائي فهو أكثر العناصر خطراً في بنية الرواية،ومنتج السرد هو بمثابة  الأنا الثانية للروائي داخل النص أو هو الكاتب الضمني وطبيعته هي المعبرة عن قدرة الروائي على بناء الرواية،وانطلاقاً من هذا الأمر وبتحليل السرد تحليلاً نقدياً يمكن معرفة قدرة الروائيين الإماراتيين،  وهو ما يسمح بتسليط الضوء على مكامن الضعف والقوة في نصوصهم الروائية السردية ،ومن خلال مقدمة الدكتور سمر يمكن أن نستشف أنه يرصد من خلال كتابه هذا شتى قدرات الروائيين الإماراتيين، و يغوص في فنياتهم وتقنياتهم السردية ،كما أنه يتعرض إلى الايجابيات والسلبيات التي حوتها النصوص السردية الإماراتية،وكذلك يهدف إلى تحليل البناء الفني، فالبناء الفني هو الذي يُعين الرواية على المُضي قدما،ويقدم قناعة لقرائها بمستواها الجمالي،ويسعى إلى معرفة طبيعة السرد الحكائي للحوادث والمكان، وإلى التمييز بينه وبين السرد الذاتي الذي يعاف الحكاية، ويحاول أن يقضي عليها. وغيرها من القضايا السردية التي يتعرض لها في هذا السفر القيم.
         في الفصل الأول من الكتاب، والمعنون ب:«سرد التاريخ» يُقدم المؤلف قراءة وتحليلاً لنموذجين من الرواية الإماراتية في هذا الميدان:رواية«الأمير الثائر» للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي،ورواية«ساحل الأبطال» لعلي محمد راشد،كما يُحاول الوقوف على أوجه الشبه والاختلاف بين الروايتين في قضية سرد التاريخ،فمحمد علي راشد لم يكتب مقدمة لروايته،ولكن الدكتور سلطان بن محمد القاسمي كتب مقدمة لروايته أشار من خلالها إلى أن قصة الأمير الثائر هي قصة حقيقية،وهو يهدف من خلال ذلك إلى تزويد المتلقي بمعرفة تُلزمه اثر تلقيه للرواية،كما أشار إلى أن أحداث الرواية موثّقة توثيقاً صحيحاً ويشير من خلال ذلك أن التدوين هو مصدرها ،وهو ما يجعل الأمر محل ثقة ،وذلك بقدرة القارئ على الرجوع إلى الكتب التاريخية والتأكد مما سُرد له،كما أشار إلى أن أحداث الرواية (لا يوجد بها أي نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام)،وفي الأخير ختم مقدمته هذه بتبيين الغرض الذي يرمي من خلاله إلى خدمة القارئ العربي وتشجيعه عن طريق تقديم جزء من التاريخ إليه ،بعد ذلك يشير المؤلف إلى أهم الملاحظات التي يخرج بها قارئ الرواية فالملاحظ«أن المادة التاريخية الخاصة بالأمير«مهنا» مسرودة سرداً واضحاً مباشراً.وهذا الشكل من السرد الواضح المباشر هو لون من ألوان الرواية التاريخية ،وليس تاريخاً للأمير «مهنا».ذلك لأن خمس عشرة سنة من حياة مهنا،أمير بندر الرق، اختزلت في مائة صفحة تقريباً. وهذا الاختزال ليس تلخيصاً،بل هو تبئير.إذ إن الراوي(النائب عن الروائي داخل نص الرواية)لم يُلاحق حياة الأمير مهنا من جوانبها كلها،بل اكتفى بحياته السياسية-العسكرية،وهي حياة  تبرز نزوعه العربي ،ورغبته في الاستقلال عن الفرس ،وحلفائهم الأتراك، ومصالحهم التجارية مع الهولنديين والانجليز. ومن ثمًّ كانت هناك متابعة متلاحقة طوال الرواية لمحاولات الأمير مهنا السيطرة على التجارة في الخليج، ومحاربته الفرس، ومقاومته النفوذ التجاري للهولنديين،حتى تمكًّن الباشا التركي في بغداد من شنقه،وإرسال رأسه إلى كريم خان زند حاكم الفرس. ولو لم يكن هناك تبئير لما اختار الراوي طريقة تقديم الحوادث في الرواية،ولما انتقى المعلومات التي رسّخت وجهة نظره في النزوع العربي عند الأمير مهنا»(7).
        ومن خلال رواية«الأمير الثائر» توجد مجموعة من الإشارات السريعة إلى جملة من الأمور التي تتعلق بالأمير مهنا منها: مقتل والده، ووالدته، ووفاة ابنته، وغيرها ، وجميع هذه الإشارات كما يرى المؤلف بحاجة إلى متابعات وذلك لإدراك أثرها في شخصية الأمير مهنا،بيد أن الراوي لم يلتفت إليها بغير الإشارات العابرة ،ولم يُوظفها في بناء شخصية الأمير،وفي تأكيد وترسيخ صورته الروائية لدى أتباعه وأعدائه ،وجميع هذه الأحداث هي جزء مهم من التاريخ .«فهل يعني ذلك أن الراوي اختار بعضاً من التاريخ ولم يختر التاريخ كله ؟.إن التبئير هو زاوية تقديم الحوادث التي اختيرت من جانب دون آخر من التاريخ .فالأحداث الأسرية الجسيمة غير مرغوب فيها ،لأن الراوي يريد التركيز على الجانب السياسي-العسكري في منطقة الخليج ،وعلى اللمعة العربية التي بزغت في وسط التهافت الأجنبي التجاري على المنطقة ،وضعف السيطرة الفارسية والتركية عليها. ولهذا السبب اكتفى الراوي بإشارات سريعة عابرة إلى الحوادث الأسرية ،وراح يتابع أحداثاً أخرى سياسية-عسكرية تُجسد التركيز وتُعلنه. وهذا كله يعني أن تاريخ الأمير مهنا ومنطقة الخليج خلال  خمس عشرة سنة لم ينتقل كله إلى الرواية،بل انتقل بعضه إليها. وحين انتقل هذا(البعض) اختير جانبه السياسي-العسكري وحده وسلط الروائي الضوء  عليه انصياعاً لرغبة الراوي، وكأن التاريخ يذوب ويصير في الرواية  تاريخياً تبعاً للعبة الروائية التي تنصاع لرغبة الروائي ويجسّدها الراوي» (8) .
        من رواية«الأمير الثائر»تبدى للمؤلف أن الروائي لم يترك أمر فهمها لذكاء القارئ بل نصّ عليها صراحة،وما يدل على ذلك أنه دوّن في عنوان الرواية كلمة الثائر بغية تأكيدها في وجدان القارئ قبل الدخول، ويخلص المؤلف إلى أن رواية«الأمير الثائر» رواية تاريخية تتميز بتقديمها لرؤيا فنية تخصّ الحاضر و المستقبل،بيد أنها تتوسل لهذه الرؤيا باعتماد شيء من تاريخ منطقة الخليج العربي«تراه أكثر فاعلية في وجدانات القرّاء من كتب التاريخ نفسها. وما قدًّمته الرواية مما يخدم الرؤيا المذكورة هو حدود التاريخ،أو هو التاريخي في الرواية بعد ذوبان التاريخ الحقيقي وانصياعه للعبة التخييل الروائية. وسواء أكان هناك تاريخ مكتوب للأمير مهنا أم كان هذا التاريخ مبثوثا في تضاعيف كتب التاريخ الخاصة بمنطقة الخليج،فإن رواية(الأمير الثائر) تكتب هذا التاريخ بأسلوبها، وتطرحه برؤياها،وتعدّه التاريخ الفنيّ للأمير مهنا»(9).
        وعن الائتلاف والاختلاف بين رواية«ساحل الأبطال»لعلي محمد راشد،ورواية«الأمير الثائر»للشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، يرى المؤلف أن أوجه التشابه تكمن في أن كلاً من هما يندرج في إطار الرواية التاريخية ،فالأولى متعلقة بجانب من تاريخ رأس الخيمة،والثانية خاصة بجانب من تاريخ الخليج،أما عن المنطلق فهو نفسه وهو إحياء النزوع العربي، ومواجهة الأجنبي  الذي يطمع في تحويل الخليج العربي إلى منطقة عبور آمنة بغرض خدمة مصالحه التجارية ،أما أوجه الائتلاف فتكمن في الجانب الجمالي،فقد رغب الروائيان في تحويل التاريخ إلى رواية، والتعبير عن أحداث التاريخ بلغة روائية ،وهو ما أدى إلى وقوعهما في إشكاليتين متطابقتين،وأما عن الاختلاف في الروايتين فيتجلى في كثافة حضور التاريخ، وانتهى المؤلف في الأخير إلى أن الحضور التاريخي  كان كثيفاً في الأمير الثائر،ومعتدلاً في ساحل الأبطال.
        كما تطرق الدكتور سمر من خلال هذا الفصل إلى مجموعة من العناصر،نوجزها كالآتي: معايير الاتفاق والاختلاف،وعلاقة الروائيين بالمادة التاريخية،وقدرات الروائيين الفنية،وموقف الروائيين من الحاضر.
            في الفصل الثاني من الكتاب والموسوم ب:«الحكاية والسرد»يُحلل الدكتور سمر روحي الفيصل فعل السرد، وانطلاقاً من هذا التحليل فهو ينظر إليه على أنه خطاب يتميز بوجود علاقتين ،الأولى بين الخطاب والفعل الذي ينتجه، والثانية بين الخطاب والحوادث التي يسردها، ويختار لهذا التحليل ثلاثة نماذج: رواية(كريمة)للدكتور مانع سعيد العتيبة، ورواية(شجن بنت القدر الحزين)لحصة جمعة الكعبي،ورواية(ملائكة وشياطين) لباسمة يونس،وعن منهجه ورؤيته في تحليل هذه الروايات الثلاث يشير إلى أن«رواية(كريمة) كانت نموذجاً لتحليل الفعل السردي ، ولم تكن مناسبة لتحليل محتوى الحوادث المسرودة.ذلك لأن هذه الرواية في المنظور المنهجي لخطاب الحكاية نص سردي أنتج فعلاً تخيلياً، وليست محتوى أو مضموناً صالحاً للتلخيص والتفسير. ولا تختلف رواية(شجن بنت القدر الحزين) عن ذلك، ولكنني جعلتُ تحليلها يركِّز على الحكاية الروائية ذات البناء المتخيل والمضمون الاجتماعي الرومانسي الخاصّ بمجتمع الخليج العربيّ. وحين انتقلتُ إلى رواية(ملائكة وشياطين) لباسمة يونس ركَّزت على حلقات الوصل السرديّة التي تربط أجزاء الحكاية،لعلّ ذلك يفي بغرض هذا الفصل،وهو تحليل العلاقة بين الحكاية والسرد»(10).
           وفيما يتعلق بحوافز السرد،وهي العوامل التي تحرك السرد،وتمضي به إلى الأمام، وتمكنه من سوغ حركاته وابتداع الحوادث، فقد تبدى للمؤلف بعد تفكيكه للسرد في رواية(كريمة) أن هناك ثلاثة حوافز مسئولة عن استمرار العرض، وفي البدء يظهر حافز الانتقام بقوة، ويأتي حافز الحب في المرتبة الثانية، أما حافز الكراهية فيحتل المرتبة الثالثة،وعن نظرته لرواية(ملائكة وشياطين) فهو يرى أن«تفكيك الحكاية في رواية(ملائكة وشياطين) لباسمة يونس يضع أمامنا نموذجاً آخر يستند إلى العقدة ذات الحلقات. والمراد بهذا النموذج هو توافر حكاية فيها العناصر الثلاثة المعروفة في العقدة، وهي: العرض والذِّروة والحلّ،ولكنّ حلقات الوصل بين هذه العناصر الثلاثة لا تخضع لمعايير بناء الحكاية،وخصوصاً التّعاقب الزّمني و السّببي،بل تخضع لمعايير أخرى مضمونية رومانسية غير فنية »(11).
          ويستفيض المؤلف في تحليل هذه الرواية وعرض أهم أحداثها، وعلاقة كل ذلك بالحوافز السردية،كما يتطرق إلى الروائي والسارد ويتعرض للعلاقة بينهما،وبالنسبة للسارد والمسرود فقد خلص إلى أن العلاقة بينهما تتبدى واضحة أول وهلة،بيد أن إنعام النظر فيها يشير إلى تشابكها وإلى أنها شائكة وقريبة من الالتباس، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى اتخاذ السارد لوضعية العالم والمحيط بكل شيء ،كما أنه مراوغ  ولا يخلص لطبيعته وحدها،حيث إنه متلون فنلفيه أحياناً سارداً مساوياً لدرجة علم الشخصية، ويبدو في أحايين أخرى أدنى علماً مما تدركه الشخصية،وفي جوانب أخرى تجده محيطاً بالشخصيات الروائية قاطبة سواء أكانت رئيسة أو ثانوية، ويُتبع الدكتور سمر كلامه بتقديم مقاطع من الرواية على سبيل التمثيل،وبغية تقريب الصورة من ذهن القارئ ،ويستنتج في الأخير«أن سيطرة السارد على المسرود في رواية(كريمة) تعبِّرُ عن شكل من أشكال الرواية العربية التقليدية مازال سائداً رائجاً،تبعاً لإيمانه بأن الرواية ليست شيئا غير الحكاية التي تروي خبراً مفصَّلاً عن شيء محدد، وأن الشخصيات التي تنهض بهذه الحكاية تتمايز بصفاتها وأنواعها ليس غير...وهكذا بدا المسرود في رواية(كريمة) في حاجة إلى شيء من الحرية الفنية،بحيث يبدو فعل الشخصية نابعاً من آرائها ومواقفها ودخيلتها ونظرتها إلى الحياة،وتبدو لغتها، تبعاً لذلك،خاصة بها وحدها،معبِّرة عن مستواها الفكري،عاملة على تمييزها من الشخصيات الأخرى »(12).
     وبانتقاله لرواية(شجن بنت القدر الحزين)لحصة جمعة الكعبي،يُلاحظ المؤلف  أن العناصر التي كونت الحكاية الروائية التي سبق وأن تناولها في رواية(كريمة)،تبدو في رواية حصة جمعة الكعبي أكثر تكثيفاً وقدرة على توفير التوتر الدرامي ،فالسارد متشابه في الروايتين،فهو عالم بكل شيء،وكذلك يستعمل ضمير الغائب، ويقدم الشخصيات،كما يلاحق حركاتها وردود أفعالها الداخلية،ويرى الدكتور سمر بأن المحلل لرواية(شجن بنت القدر الحزين)يُعجب أيما إعجاب بسلامة لغتها،وسلاستها، ودقتها في التعبير عن المراد سواء بالسرد أو بالحوار،ويتوسع المؤلف في تحليل هذه الرواية في فصله هذا بتعرضه لقضايا عدة، وكل هذا يندرج في إطار عنصر السارد والمسرود، وفي ختام هذا الفصل يخرج الدكتور سمر بخلاصة تُعدّ في نظرنا غاية في الدقة والأهمية فيقول:«أخلص من تحليل(الحكاية والسرد)إلى أن الرواية الإماراتية حرصت في الغالب الأعمّ على توفير الحكاية الروائية،ولكنّ حرصها لم يرتق بها إلى مرتبة إحكام الحلقات السرديّة،بحيث تنتقل من حكاية الأفكار إلى حكاية الأفعال. وقد حلّلتُ بغية معرفة مواطن القوّة والضعف في الحكاية الروائية الإماراتية،محاولة الروائي الإماراتيّ منح إحدى شخصيات روايته بعضاً من سيرة حياته،ضمن العادة المألوفة التي تجعل الرواية الأولى للروائي تضمّ بعضاً من سيرته الذاتية. وحاولتُ أيضا توضيح طبيعة الحلقات السرديّة المسئولة عن إحكام الصّلة بين الحوادث الروائية. وتوقّفتُ أخيراً عند السارد المراوغ الذي تفضحه طريقة سرد الحدث،و توضِّح طبيعته تلك المحاولة التي يقوم بها لتوظيف معرفته في خلق المتعة الروائية. وما أزال أعتقد بأن الروائيين الإماراتيين يحتاجون إلى التدقيق في صياغة الحكاية الروائية،وفي ابتداع السارد الذي ينتج السرد المترابط المحكم القادر على أن ينتج حكاية ممتعة»(13).
                في الفصل الثالث من الكتاب يروز المؤلف في الأنماط السردية للرواية الإماراتية، ويختار أول رواية ظهرت في الإمارات ،ويتناول من خلالها الموضوع،فهو يرى  أن رواية(شاهندة) لراشد عبد الله النعيمي هي نصٌ سرديٌ صالحٌ للتحليل النقدي لأنماط السرد كأي نص آخر ،ولا يجوز التحجج بأنها تشكل البداية فهذه الحجة في نظره حجة واهية ،فرواية(شاهندة) قادرة على الصمود أثناء الامتحان النقدي،ويشير إلى أنه يتعرض في تحليله لأنماط السرد في الرواية المذكورة إلى نمطين أساسين هما: السرد والعرض، ولكن نظرته إليهما تقوم على أساس أنهما عملية سردية واحدة،ويقتصر تحليله على ثلاث علاقات:يرتبط السرد في أولها بالخطاب،والثاني بالعرض، والثالث بالوصف. ويرى المؤلف  أن« العرض خطاب مباشر دائما ،لأنه تعبير الشخصيات عن نفسها.ففي كلّ خطاب متكلِّم له موقف يدلُّ عليه الكلام نفسه. وهذا هو معنى عبارة السرديين:(ذاتية الخطاب)،في مقابل(موضوعية السرد)،أي الكلام الذي لا يُحيل إلى متكلِّم محدَّد.وإذا كان السرد خطاباً فما العلاقة بين موضوعيته وذاتية الخطاب؟. هذا هو السؤال الرئيس الذي يحكم تحليل العلاقة  بين السرد والخطاب في رواية(شاهندة)»(14)، وليست أنماط السرد في رواية(شاهندة) حكراً على الذاتي والموضوعي والمتداخل الذي ينتقل من صيغة إلى أخرى فحسب،بل إن هناك نمط آخر يظهر من خلال العلاقة مع العرض الذي يعني هذا الأخير حوار الشخصيات وكلامها ومناجاتها الذاتية،وقد تجلى للمؤلف أن الحوار ينقسم إلى صيغتين: صيغة حوارية خالصة ،ليس للسرد أي تأثير عليها، وصيغة حوارية أخرى تعلن العلاقة بين السرد والحوار، وقد أتبع المؤلف كلا من الصيغتين المذكورتين بتقديم أمثلة تطبيقية«وليست الصيغة الحوارية التي تضم أفكاراً وجملاً سردية وحيدة في رواية(شاهندة) .إذ إن هناك صيغة حوارية أخرى تجسد علاقة مغايرة بين السرد والحوار وتبرز داخل الجملة الحوارية نفسها. وهذه العلاقة تدل على(تبادل الأدوار الحكائية)،أي إن علاقات السرد والعرض بين الراوي والشخصيات تتعرض لتبادل في المهمات،فيصبح الراوي شخصية تُكلم الشخصيات الروائية،وتصبح الشخصيات رواة. ذلك أن الأصل في الحوار هو القول الموجز الدال على مراد القائل »(15)،بيد أن الروائي  من خلال الرواية-كما يرى المؤلف- لم يلتزم أحياناً بالحوار الموجز فتُلفيه يُقدم جُملاً حوارية طويلة،وهذه الجمل هي على غير عادة راشد عبد الله النعيمي في استعماله للحوار الموجز،وليست جميع الجمل حواراً فتجد أنه أحياناً يتبعها  السرد الذي يقوم بدور الشرح والتفصيل،وعن العلاقة بين السرد وكلام الشخصيات فلا يبدو أثرها قوياً من خلال هذه الرواية ،وهذا يعود إلى محافظة السرد  في هذه الرواية على التقليد الروائي العريق الذي يقتضي تمييز الحوار من السرد .
     كما يقدِّم المؤلف أمثلة عن العلاقة بين السرد والوصف، وقد رأى المؤلف  أن راشد عبد الله النعيمي  استعمل عدداً من المقاطع الوصفية ليس بينها مقطع وصفي خالص وبعيد عن علاقة السرد. وفي الأخير يختم المؤلف فصله هذا  بخلاصة يوجز فيها أهم ما توصل إليه .
       وعن الفصل الرابع من الكتاب،فهو موسوم ب:« مظاهر السرد»،«فمظاهر السرد هي المسئولة عن(العملية) السرديّة بنمطيها الرئيسين: السرد والعرض،وأنماطها الفرعيّة التي تتضح من خلال علاقة السرد بالخطاب والعرض والوصف.فالمظهر يعني إدراك نمط السرد،و يرتبط مثله بالرّاوي. وإذا كان الراوي يسرد الحوادث ويقدِّم الشخصيات حسب هذا النمط السردي أو ذاك،فإن كل نمط يضمّ علامات تشير إلى مظهر الراوي،أي كيفية إدراكه السرد. وهكذا تعني مظاهر السرد إدراكات الرواة وتعكس علاقاتهم بالحوادث والشخصيات. ولذلك كان مصطلح(المظهر)قريباً من معنى: النظرة أو الرؤية أو المنظور أو وجهة النظر »(16).
     من خلال هذا الفصل يحلل المؤلف مظاهر السرد،وهذا الإجراء النقدي هو الذي يمكنه من إدراك الراوي  في السرد الروائي الإماراتي«ووظيفته: تقديم الحوادث والشخصيات وتوجيه حركتها، وبيان وضعيته خارج السرد وداخله،والضمائر التي تدل على هذه الوضعية »(17)،كما أن المؤلف في أثناء تحليله يضيف مظهراً ثالثاً من خلاله يؤطر لعلاقة المظاهر بالأنماط ،كما يُمكِّنه من تقنين إدراكات الراوي وطبيعة السرد،ويشير إلى أن استعماله في هذا المظهر يرتكز على ثلاثة مصطلحات،هي: المنظور، و التبئير، ووجهة النظر،ويختار في تحليله لمظاهر السرد رواية(الاعتراف)لعلي أبي الريش فهي أولى رواياته ،وأكثرها شهرة،كما أنها تمثل بدايات السرد لديه،كما يُعزز تحليله بإشارته لرواية(السيف والزهرة) وهي الرواية الثانية لعلي أبي الريش،كما يشير من خلال هذا التحليل إلى رواية(الديزل) لثاني السويدي،فبالنسبة إلى  رواية(الاعتراف) فالعلامات التي يضمها السرد تشير إلى إدراك واحد،وهو إدراك الراوي المهيمن  هيمنة مطلقة،وقد اكتشف المؤلف أن الراوي في رواية(الاعتراف)« اختار اللاتبئير،أو التبئير في درجة الصفر. وهذا الاختيار يعني أنه-ووراءه الروائي علي أبو الريش- رضي طائعاً بأن يقبع في زاوية روائية محدًّدة،هي زاوية العلم الكلّيّ الشّامل،تلك الزّاوية التي تجعله يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات كلها: المحورية والرئيسة والثانوية،ويروح تبعاً لذلك يحركها في المجتمع الروائي،ويخلق حوادث يعتقد بأنها ملائمة لها. وليس الخطأ في اللاتبئير ولا في المنظور ولكن الخطأ في فهم ذلك على أنه هيمنة على المجتمع الروائي كله»(18).
          ويبدو أن الظروف الإبداعية هي التي حفزت اختيار اللاتبئير،ودفعت بالراوي العالم إلى الهيمنة،واللجوء إلى ضمير الغائب،وذلك أثناء تقديم الشخصيات والحوادث البسيطة،وعن رواية (السيف والزهرة) فالساردان في الروايتين سيان،حيث يشبهه في اتخاذه لللاتبئير موقعاً يمكنه من إدراك الشخصيات الروائية إدراك الهيمنة المطلقة« ومن ثمًّ فإن رواية(السيف والزهرة) لا تُشكل تطوراً فنياً ذا شأن عما قدًّمته رواية(الاعتراف) بسنتين. وهاتان السنتان لم تشكل دافعاً قوياً،كما دلًّ نصّ(السيف و الزهرة)،لتقديم قدر من النمو الفني يجعل(السيف والزهرة) مغايرة للاعتراف،ومختلفة عنها في القدرة الفنية على لجم شهوة السارد المهيمن الكليّ المعرفة إلى السيطرة على شخصيات الرواية،وتوجيه حركتها، وقيادتها إلى الدلالة التي يرغب فيها»(19).
          لاحظ المؤلف أن النصوص الروائية الإماراتية لم تكن حكراً على السارد المهيمن،بل إنها تطرح ولو على استحياء نوعاً آخر وهو ما يسمى السارد الممثل الذي يختفي وراء إحدى الشخصيات الروائية،كما أنه يكتفي بما تعرفه،ويترك المجال للشخصيات الأخرى أن تعبر عن حركتها الخارجية بنفسها، وكذلك فإن لهذا السارد وجهة نظر في الحوادث الروائية،ولكنه لا يطرحها بشكل مباشر ويترك طرحها للشخصية التي يختفي وراءها، ومن أبرز النماذج الروائية الإماراتية التي قامت باستعمال السارد الممثل رواية(الديزل) لثاني السويدي،ورواية(نافذة الجنون) لعلي أبي الريش،فرواية(الديزل) لثاني السويدي« طرحت سارداً ممثلاً بشخصية(الديزل)،وتركته يُقدِّم نفسه بضمير المتكلم طوال الرواية،دون أن يجرؤ هذا السارد الممثل على أن يجاوز الديزل،فينصّ على شيء لا يعلمه، أو يتأخر عنه فيبدو أقل معرفة منه. ذلك أنه سارد متماه بشخصية الديزل،يسير معها،ويعرف ما تعرفه،ويتركها تتحدّث بلسانها وتعبِّر عن دخيلتها،حتى إن المتلقي لا يشعر بوجود هذا السارد داخل الرواية، ولا يعثر على أيّ دليل عليه»(20).
           يرى الدكتور سمر روحي الفيصل أن تاريخ السرد في الرواية الإماراتية يضُم مرحلة مهدت للانتقال من مرحلة السارد المهيمن إلى السارد الممثل،وأبرز مثال على هذه المرحلة رواية(مزون) للدكتور محمد عبيد غباش،ثم أتت مرحلة السرد الذاتي،وهي المرحلة التي يُناقشها ويتعرض لها بالدراسة في الفصل الخامس من الكتاب،الموسوم ب:«السًّرد الذاتي»،ويرى  أن هذه المرحلة تمثلها ثلاث روايات،هي: (الديزل)لثاني السويدي،و(نافذة الجنون) و(تل الصنم) لعلي أبي الريش.
         إن المرحلة الممهدة للسًّرد الذاتي يراها المؤلف بمثابة اختيار فني لجأ إليه الروائيون للتعبير عن شتى المضامين التي رغبوا في توصيلها،ويؤكد المؤلف على أن رواية(مزون) لمحمد عبيد غباش ليست أقل أهمية عن الروايات التي يتعرض لها في مرحلة السرد الذاتي،ولا ينقصها الإمتاع، ولا القدرة على التأثير وإقناع المتلقي،وبعد تحليله للرواية  بإسهاب يخلص إلى أن«الحكاية في رواية(مزون) تتمتع بحبكة متماسكة مقنعة، يرتبط الحدث السابق فيها باللاحق. كما تتمتع بشيء من الغموض الفني،و المشهدية الدّرامية التي تجعلها صالحة للتجسيد في مسلسل أو شريط(سينمائي)»(21)،كما تبدى للمؤلف«أن السارد الممثل في رواية(مزون) يقدم سرداً ذاتياً ،ولكن سرده الذاتي يتصف بأنه يقدم شخصية واضحة محدًّدة،مرتبطة بمجتمع روائي ذي ملامح محدًّدة،فضلاً عن ارتباطه بحكاية شخصيات أخرى،لها أفعالها وعلاقاتها الاجتماعية. وإذا كانت هذه الصفات تجعل السارد الممثل في(مزون) قريباً من الساردين الذين نعرفهم في الروايات الحوارية التي يتعدد فيها الرواة،فإنه يبدو بعيداً عن السارد الممثل في السرد الذاتي الذي يعتمد على الفيض أو التداعي،ويعاف الحكاية الروائية، ويروح يجعل نفسه معياراً وحيداً لضبط التداعي وفهم الإيحاء في الرواية»(22).
      انطلقت مرحلة السرد الذاتي مع رواية(نافذة الجنون)لعلي أبي الريش سنة:1990م،حيث إن المؤلف يُعدّها أولى النماذج في هذا الاتجاه، وهي الأكثر إمتاعاً ،وتأثيراً، وتماسكاً،وتلتها بعد ذلك رواية(الديزل)حيث قام السارد باصطناع الممثل وإلغاء الحكاية الروائية وسار في اتجاه السرد الذاتي،إن التدقيق في السرد الذاتي الذي قدمه علي أبو الريش في رواية(نافذة الجنون)يُمكًّن من الإمساك بخيط يربط التداعي ويمكن من ضبط السارد الممثل،ولا يمكن تحديد الشخصية التي تماهى السارد الممثل بها وجعل لها حرية السرد،ويرى المؤلف أن أساس ومصدر المتعة في(نافذة الجنون) هو سلاسة السرد الذاتي فيها، وعدم التهويم في الفضاءات التي لا معنى لها، ولا إيحاء فيها،إن السرد الذاتي هو الذي يعبر تعبيراً فلسفياً مقبولاً عن الإنسان والحياة والكون،بينما السرد الذاتي في رواية(الديزل) يهوم بعيداً  ويتسم بخلوه من الإيحاء، والرؤيا الفلسفية،إن رواية(نافذة الجنون) لعلي أبي الريش تبدو مغايرة ومتميزة عن سواها من رواياته في انضباط السرد الذاتي وإيحائه، ومن حيث قيادة المتلقي إلى معرفة جديدة بالمجتمع الذي يحيط به.   
            في الفصل الأخير من الكتاب، وهو معنون ب:«السرد الحكائي» يُقدم المؤلف أمثلة لروايات إماراتية في هذا الميدان،وفيما يتعلق بالسرد الحكائي للمكان فهو يعتبر رواية(أحداث مدينة على الشاطئ)لمحمد حسن الحربي من أبرز الأمثلة التي تمثل عناية السرد بتقديم حكاية المكان،حيث إن السارد يبدو فيها حيادياً وعالماً بكل شيء ،ولا يوجد موقع محدد له، وقد قام هذا السارد بإنتاج سرد موضوعي يرتبط بشخصيات الرواية وبحكاية المكان عوضاً من حكاية الشخصيات،إن محمد حسن الحربي لم يقدم المكان في روايته بأسلوب الوصف«بل قدًّمه بأسلوب التفصيلات.ذلك أن الروائيين اعتادوا أن يرِّبوا المكان من المتلقي بالوصف الذي يرسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بوساطة اللغة ممكناً.أو قُل إن الوصف هو وسيلة الروائيين لتصوير المكان وبيان جزئياته وأبعاده. ولكنّ الروائي،أيّ روائي،يدرك أن الوصف مجرد تمهيد لاختراق الشخصيات المكان بما تحمله من وجهات نظر متباينة في الحوادث. وهذا يعني أن الوصف ينهض بمهمّة التمهيد لفهم المتلقي شخصيات الرواية،و لحفزها إلى القيام بالحوادث،تبعاً للتأثير المتبادل بين الشخصية والمكان الذي تعيش فيه»(23).
         يرى المؤلف  أن محمد حسن الحربي لم يلجأ إلى الوصف في تقديمه للمريبضة،بل لجأ إلى أسلوب التفصيلات وقد وظفه بهدف مغاير، وهو تقديم حكاية المكان، وهي الحكاية التي تجعل المكان بؤرة الرواية بدلاً من كونه عنصراً من عناصر بناء الرواية ،وقد استعان في بناء حكايته بثلاثة عناصر سردية،وهي:
أ-السرد المتدرج: حيث إنه وظفه في إطار تقديمه لمعلومات عن مكان روايته،فمعلوماته كانت تتدرج شيئا فشيئا عن المكان،«وهذا يعني أن فهم المتلقي يزيد كلما وردت إليه معلومة جديدة عن المريبضة بوساطة السرد المتدرج الذي ينتجه السارد الحياديّ الموضوعيّ العالم بكل شيء»(24).
ب-السرد المتنقل:فقد استعمله الروائي بدلاً من السرد الخطي،فنُلفيه يروي ما حدث في الزمن،انطلاقاً من الحدث الأول، وختاماً بآخر الحوادث في الرواية ،وهو ترتيب-حسب ما يراه المؤلف- منطقي،وهو يُشبِّه سرده المتنقل بأسلوب الاستطراد عند الجاحظ.
ج-السرد التقاطبي: وهو السرد الذي وُظِّف في إطار تقديمه لقطبين متعارضين،وهما شخصية مجلاد كممثل للحاكم،وحمد بن خميس كممثل للإنسان الحر العادي.
         وبعد أن تناول المؤلف سرد حكاية المكان في رواية(أحداث مدينة على الشاطئ)يخلص إلى أن السرد الحكائي للمكان في هذه الرواية عبارة عن استنكار للظلم،وتنبيه عليه،ودعوة لمجابهته، وبالنسبة للسرد الحكائي للحوادث فالرواية الإماراتية لم تكن بمعزل عنه بل إنها وظفته والتفتت إليه،وقد تجلى هذا  النوع من السرد الحكائي في روايتين هما: (عنق يبحث عن عقد)لعبد الله الناوري،و(حدث في اسطنبول)لعبد الكريم معتوق، وبالمقارنة بينهما يرى المؤلف أن«اختلاف شخصيات(حدث في اسطنبول) وأمكنتها عن الخيط المشترك بين الروايات التي تعتمد السرد الحكائي للحوادث،هو في الوقت نفسه اختلافٌ عن رواية عبد الله الناوري(عنق يبحث عن عقد) التي اعتمدت السرد الحكائي للحوادث ذاته.وكأنّ القانون الفني القائل إن التقنيات واحدة ولكنّ الروائيين يختلفون في توظيفها»(25).
فذلكة:
             إن هذا الكتاب يمكن أن ندرجه ضمن واحد من أهم الدراسات النقدية التي تناولت قضايا السرد في الرواية الإماراتية  بالدراسة والتحليل العميقين،وقد توصل الباحث إلى نتائج غاية في الأهمية دوّنها في خاتمة الكتاب، ومن أبرز هذه النتائج :
«1-تتميز الرواية الإماراتية بوجود بنيتين روائيتين : تقليدية وجديدة،الأولى سائدة والثانية تسعى إلى السيادة.في البنية الجديدة محاولة للقضاء على كلّ ما يتعلق بالبنية التقليدية،كالحكاية الروائية والسارد المهيمن العالم بكل شيء والشخصية الواضحة والترتيب المنطقي و السببي للحوادث والمكان والزمان المحدًّدين. وفيها في الوقت نفسه  محاولة لتقديم بنية جديدة،عمادها السرد الذاتي الذي يُقدِّم فيضاً أو تداعياً سردياً للحوادث، لا يضبطه غير قدرة الروائي على جعله موحياً يدور حول شخصية واحدة يتماهى بها السارد الممثل داخل الرواية.أما البنية التقليدية فهي سائدة في غالبية الروايات الإماراتية،وهي ذات حوادث واضحة مرتَّبة زمنياً و سببياً،وشخصيات محدًّدة، وحبكة تأريخية،وزمن معلوم، ومكان ملموس. ولقد بقيت هذه البنية سائدة في الرواية الإماراتية،شأنها في ذلك شأن الرواية العربية...
2-سعت الرواية الإماراتية إلى الانتقال من المكان إلى الفضاء...وإن تحليل السرد الحكائي للمكان دلًّ على هذا السعي،وعبًّر عن ميل بعض الروائيين الإماراتيين إلى حكاية الحوادث التاريخية،أو سرد حكاية المكان التاريخية،بغية إحياء مواجهة أبناء منطقة الخليج المستعمرين الطامعين في بلادهم.ولم يكن سرد التاريخ سهلاً،فقد قاد الروائيين الإماراتيين إلى إشكالية المطابقة بين التاريخ الحقيقي والفن الروائي،وحفزهم إلى القضاء على التأرجح بينهما.
3-قدًّمت الرواية الإماراتية ثلاثة أنماط للسّرد،هي السرد المباشر والموضوعيّ والمتداخل.الأول منها نابع من استعمال السارد الممثل،والثاني منها غير مباشر نابع من السارد المهيمن أو السارد العالم بكل شيء،في حين نبع الثالث من المزج بين السرد المباشر والسرد غير المباشر...»(26)
         والجدير بالذكر أن الدكتور سمر روحي الفيصل   يُتبع كلامه بنماذج مأخوذة من الروايات التي يتناولها بالدراسة،وهذا ما أسهم في تقريب الصورة إلى ذهن القارئ، وإدراكه للمعنى دون عناء،كما أنه يذكر الإحالات من مصادر و مراجع عقب كل فصل بدقة وتفصيل، وهو ما يُساعد القارئ على التوسع والتعمق أكثر، وهذا ما جعل الكتاب ذا قيمة علمية وأكاديمية،لا يُمكن لأي مهتم بالرواية الإماراتية أن يستغني عنه.
          وفي الأخير وإن كان لنا من اقتراح أو دعوة فإننا ندعو النقاد العرب في شتى أصقاع الوطن العربي إلى ضرورة الاهتمام بالرواية الإماراتية ودراستها وتسليط الضوء عليها وقراءتها بروح نقدية معاصرة،وكل هذا من شأنه أن يُسهم في إثراء التجربة والارتقاء بها ،والمضي بها قدما.
الهوامش:
(1)عبد الفتاح صبري:الرواية الخليجية توصيفات ورؤى،وقائع ندوة علمية،مدخل ضروري عن الرواية الإماراتية،ص:10،إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة،2006م.
(2)للتوسع أكثر يمكن مراجعة المرجع السابق،كما يمكن العودة إلى كتاب قيم موسوم ب:الرواية الإماراتية(وقائع الملتقى الأول)،من المساهمين فيه:د.إبراهيم السعافين،د.أحمد الزعبي، د.سمر روحي الفيصل،د.يوسف عيدابي، عبد الفتاح صبري، رشيد أبو شعير، ود.محسن الموسوي، وغيرهم،إصدارات دائرة الثقافة والإعلام،حكومة الشارقة،2003م.
(3)هيثم يحيى الخواجة:أطياف من الأدب الإماراتي«القصة والشعر»،ص:7-8،إصدارات دائرة الثقافة والإعلام،حكومة الشارقة،2003م.
(4)عزت عمر:توجهات الخطاب السردي في الرواية الإماراتية والعربية المعاصرة(قراءات تحليلية)،ص:5-6،إصدارات دائرة الثقافة والإعلام،حكومة الشارقة،2003م.
(5)استقينا أغلب المعلومات المتعلقة بسيرة الدكتور سمر روحي الفيصل من موقع اتحاد الكتاب العرب.
(6)د.سمر روحي الفيصل:قضايا السرد في الرواية الإمارتية،ص:05،إصدارات دائرة الثقافة والإعلام،حكومة الشارقة،2003م.
(7)د.سمر روحي الفيصل:المصدر نفسه،ص:20-21.
(8)المصدر نفسه،ص:22.
(9)المصدر نفسه،ص:24.
(10)المصدر نفسه،ص:40-41.
(11)المصدر نفسه،ص: 48.
(12)المصدر نفسه،ص:62.
(13)المصدر نفسه،ص:67-68.
(14)المصدر نفسه،ص:75.
(15)المصدر نفسه،ص:81-82.
(16)المصدر نفسه،ص:91.
(17)المصدر نفسه،والصفحة نفسها.
(18)المصدر نفسه،ص:99.
(19)المصدر نفسه،ص:102.
(20)المصدر نفسه،ص:105.
(21)المصدر نفسه،ص:117.
(22)المصدر نفسه،ص:118-119.
(23)المصدر نفسه،ص:137.
(24)المصدر نفسه،ص:139.
(25)المصدر نفسه،ص:154.
(26)المصدر نفسه،ص:159-160-161.





هناك تعليق واحد: